مدرسة الشاذلي (6).. أبو العزائم خادم الشيخ الذي صار شيخًا
أبو العزائم ماضي بن سلطان، هو الجد الأكبر للإمام المجدد محمد ماضي أبو العزائم.. تعرف على سيدي أبي الحسن الشاذلي، رضي الله عنه، في أوائل سياحاته الروحية وتجواله في بلاد المغرب العربي. وقد كان آنذاك يقيم في جبل بالقرب من شاذلة بتونس، فاستجاب للنداء، ونزل تنفيذًا لأمر الله، فتجمع عليه خلائق لا يحصى عددهم، كان من بينهم الشيخ ماضي بن سلطان.
رأى فيه أبي حسن الشاذلي علو الهمة، وصدق الإرادة، فاختاره خادمًا شخصيًّا له، يطلعه على شئونه الخاصة، ويوكل إليه جلائلَ الأعمال. ومنذ ذلك الوقت، لزم الشيخ ماضي أستاذه أبى الحسن الشاذلي، حتى رحل معه إلى الإسكندرية، ولم يفترق عنه حتى انتقل إلى جوار ربه، وكان يلازمه في كل أسفاره، وخاصة سياحاتِه في البلاد، ورحلاتِه لأداء الحج.
منهج الإمام
ولذا يعوِّلُ عليه كتَّابُ التراجم والسير، لصدق روايته، عندما يكتبون عن سيدي أبي الحسن الشاذلي. كانت له وقائع كثيرة مع شيخه، تدل على صفاء سريرته، وصدق إرادته، وتؤكد المنهج العظيم الذي اتبعه الإمام أبو الحسن الشاذلي في تربيته لمريديه، والذي اختاره الإمام أبو العزائم نهجًا قويمًا، لتربية أبنائه ومحبيه.
وثمة وقائع يذكرها ابن الصباغ في درة الأسرار، وينقلها عنه ابن عياد في المفاخر العلية في المآثر الشاذلية. ومن ذلك على سبيل المثال؛ قال ابن الصباغ: "حدثني الشيخ الصالح أبو العزائم ماضي، قال: تحدث الشيخ أبو الحسن الشاذلي في حقيقة الشيخ مع مريديه، فقال:
"أن تكون يده عليهم يحفظهم حيثما كانوا"، قال: فاعترضتُ على ذلك في نفسي، وقلت: لا يكون ذلك إلا لله، فلما أصبحت أخذتني ضيقة شديدة في نفسي، فخرجت لخارج الإسكندرية، وجلست على ساحل البحر اليوم كله، فلما صليتُ العصر، "زيقت"، يعني أدخلت رأسي في طوقي، وإذا بيدٍ تحرِّكني، فظننتُ أنه بعض الفقراء يمازحني.
قال: فأخرجتُ رأسي من طوقي، وإذا بها امرأةٌ حسناء عليها لباسٌ حسنٌ، وحليٌّ، فقلت لها: ما تريدين؟ قالت: أنت.. فقلت: أعوذ بالله منك.. فقالت: والله مالي عنك براح؛ فدافعتُها عن نفسي، فأخذتني فى حضنها، ولعبت بي كما يلعب الطفل بالعصفور، وما ملكت من نفس شيئًا، ورمتنى بين فخذيها، فحنَّت نفسي إليها، وإذا بيدٍ أخذتني من أطواقي، وإذا أنا بالشيخ يقول لي: يا ماضي، ما هذا الذى تقع فيه؟! ورمانى عنها، فظننتُ أن الشيخ اجتاز بذلك المكان، فرفعتُ رأسي، فما وجدتُ الشيخ ولا المرأة!
فتعجبتُ من ذلك، وعلمت أني أصبتُ باعتراضي عليه. فاستغفرتُ الله، وصليتُ المغرب، وأتيتُ إلى الباب الأخضر، وقد غلِّقت أبواب البلد كلها، فلما دنوت منه، انفتح لي ودخلت المدينة ثم أغلق. وهذا الباب لا يفتح إلا بعد صلاة الجمعة، يخرج منه الأمير والناس إلى الساحل، ثم يغلق إلى الجمعة الأخرى، قال: وأتيتُ القلعة، ودخلت بيتي مختفيًا عن الفقراء.
فلما صلى الشيخُ العشاء الآخرة، صرفَ الناس، وكان في كل ليلةٍ، يعمل ميعادًا يأتي إليه الناسُ من البلدان، يستمعون كلامه. قال: ثم دخل الخلوة، وقال: أين ماضى؟ قالوا: ما رأيناه اليوم، قال: اطلبوه فى بيته، فأتوا إليَّ، فقلت لهم: إنني مريضٌ، وكان كذلك، فإني ما أتيتُ إلا بحالٍ عظيمٍ، فقال: احملوه بينكم، قال: فحملوني إليه، وأدخلونى عليه، وأمرهم بالانصراف!
فجلستُ بين يديه وأنا أبكي، فقال لى: يا ماضي. لما قلت بالأمس كذا وكذا، فاعترضت أنت عليَّ، أين كانت يدي اليوم منك لما أردت أن تقع في المعصية؟! من لم يمكن من ذلك فليس بشيخ".
وقال أيضًا: حدثنا الشيخ أبو العزائم ماضي، رحمه الله، قال: "بعثني الشيخ من الإسكندرية إلى دمياط في بعض حوائجه، وكان عندنا رجل من أهلها، فأراد السفر معي، فاستأذن الشيخ، فأذن له في السفر، فلما توجهنا لباب السدرة - باب من أبواب الإسكندرية - أخرج الرجل دراهم ليشتري بها خبزًا وأدامًا، فقلت له: ما نحتاج إلى شيء. فقال لي: نجد دكان فلان في الصحراء.
وأشار إلى دكان حلواني بالإسكندرية. فقلت له: إن شاء الله. وكنت مهما سافرت، لا أحمل معي زادًا، فإذا أصابني جوعٌ أسمع كلامه من خلفي يقول: يا ماضي؛ اخرج عن يمينك تجد ما تأكل، وكذا إذا عطشت، فأجد طعامًا طيبًا وماءً عذبًا.
كرامات الشيخ
قال: فخرجنا عن الإسكندرية ومشينا، وجدَّ بنا السير حتى تعالى النهار بنا، فقال لي: يا ماضي؛ اطعمني فإني قد جعت.. وإذا بكلام الشيخ على العادة يقول: يا ماضي؛ جاعَ ضيفُك، اخرج عن يمينك تجد ما تطعمه، قال: فخرجتُ عن يميني، فوجدنا محفلة مملوءة بكنافة سكرية مخلطة بالمسك وماء الورد، فأكلنا حتى ملأنا، فبكى الرجلُ وتعجب مما رأى، فقلت له: أيهما أطيب؛ هذا الطعام أو ما أشرت إليه في دكان الحلواني؟ فقال: والله ما رأيت مثل هذا قط، وما صنع مثله في قصر ملك من الملوك، وأراد أن يرفع بقيته فمنعته، وتركتها على حالها.
ومشينا يسيرًا فعطشنا. وإذا بكلام الشيخ يقول: يا ماضي اخرج عن يمينك تجد الماء، فوجدنا عين ماء عذب في الرمل فشربنا، واضطجعنا ساعة، وقمنا، فما وجدنا قطرة ماء، فقال الرجل: أين الماء الذي كان هنا؟! فقلت: لا علم لي به، فقال: والله لقد مكن لهذا الشيخ تمكينًا عظيمًا.. والله لا رجعت إلى أهلي، حتى أنال ما نال هذا الشيخ، أو أموت في الله تعالى، فخلى (تَرَكَ) فروته عندي!، ومشى في البرية يقول: الله.. الله.
قال: فلما قضيت سفري، ورجعت إليه قال لي: يا ماضي: ودَّرت (أهلكت) ضيفك، فقلت له: أنت الذي ودَّرته؛ أطعمته الكنافة السكرية في البرية، وأسقيته الماء العذب في الرمل، فقال لي: مَرَّ في الذاهبين إلى الله تعالى.
ومن شدة تعلق أبي العزائم بالشاذلي تكنى بكنيته، وتشبه بسيرته، ونسب طريقته إليه. وقد ظل الشيخ ماضي في محبة شيخه أبي الحسن الشاذلي، حتى كان سفره الأخير إلى الحج، ويحكي عن ذلك الشيخ ماضي بن سلطان، فيقول: لما توجه رحمه الله في سفرته التي توفي فيها، وكنت تزوجت امرأة من أهل الإسكندرية، وكانت حاملًا، فجعلت تبكي وتقول لي: تتركني على ولادة وتسافر عني.
قال: فأخبرت بذلك الشيخ فقال: ادعها إليَّ، فأتيت بها إليه فلما دخلت بها عليه، قال لها: يا أم عبد الدائم. اتركي لي ماضي يسافر معي، وأرجو لك من الله خيرًا، فقالت له: يا سيدي السمع والطاعة. فدعا لها وانصرفت. فولدت ونحن مسافرون مولودًا ذكرًا وسمته "عبد الدائم"..
وقد انتقل الشيخ أبي الحسن الشاذلي إلى جوار ربه في ذلك السفر في "حميثرا" بالقرب من قنا، بعد أن أوصى بأن يخلفه على الإخوان، سيدي أبو العباس المرسي، فأكمل بهم السفر. وبعد أداء فريضة الحج والعودة إلى الإسكندرية، استأذن الشيخ ماضي سيدي أبي العباس في الذهاب إلى دسوق، لنشر طريقة شيخه هناك. وقد اختار قرية محلة أبو علي لقربها من النيل، ولأنها كانت ميناء هامًّا في ذلك الوقت، واستقر بها، وبنى بها زاوية للطريقة الشاذلية، ينشر فيها تعاليم شيخه، وهديه، وقد توارثها أولاده من بعده، ووسعوها، وجعلوها مسجدًا كبيرًا.