محمد حسان يكتب: غربة الذات
حين تطرق أسماعَنا كلمةُ غربة تنصرف أذهانُنا على الفور إلى الغربة المعهودة؛ حيث الاغتراب بعيدا عن الأهل والوطن لمكان بعيد؛ فهي حقا غربة؛ ولكنها لا تتعدى الغربة الجسدية، فهي انتقال جسد من مكان إلى آخر بعيدا عن الأهل والوطن؛ ولو انسجمت نفسه في هذه الديار الجديدة وشعر بالاستقرار النفسي، ووجد فيها ما كانت تطوق نفسه إليه أصبح هذا المكان الجديد وطنه، ولا يشعر فيه بأدنى غربة، ولكن يظهر الشعور بالغربة إذا لم يجد نفسَه في هذا المكان الجديد الذي انتقل إليه.
إذن، ما هي الغربة الحقيقية التي تنطبق عليها هذه اللفظة البغيضة ؟
الغربة النفسية
الغربة الحقيقية هي الغربة النفسية، التي يشعر فيها الإنسان بعدم الانتماء إلى المكان الذي يعيش فيه، أو التأقلم مع مَن يعيش معهم؛ ولو كان في عُقر داره وبين أحبابه، حين يشعر الإنسان أن الأرض ضاقت عليه بما رحبت، وتنكرت له؛ فلا المكان مكانه ولا الزمان زمانه، كما مركب صغير في وسط بحر تعصف به الرياح بلا مجداف ولا ملاح يهديه السبيل، يجد أن نفسه مكبلة بسياج يحول بينه وبين الواقع الذي يحتويه، يجد أن هذه السياج من داخل نفسه تحول بينه وبين أن تخرج نفسُه برمتها لتنطلق في هذا العالم المحيط به، سياج نفسي لا تحطمه أي قوة كانت على ظهر البسيطة، لأنه حائل أصيل منه، لا ينفك عنه، فمرارة هذه الغربة تستحيل معها بطون النحل حنظلا مُرًّا لا نطيق منه قطرة واحدة، يجد نفسه في عالم مضطرا إلى التعايش فيه بجسده، ويأخذ من ثنايا نفسه الخلجات التي تقود هذا الجسد في مضمار هذه الواقع الذي أُجْبِرَ على العيش فيه، فإذا لم تجد نفسك كما تحب أن تراها ؛ فأنت تعيش بجسد بلا روح، ميت بين أحياء، صارخ بين صُمّ، مستمع إلى بُكْم، تعرض لوحات أمانيك أمام عميان، الكثير من حولك؛ ولكنهم إذا سطعت شمس الحقيقة يذوبون كما يذوب الملح في الماء؛ وتظل نفسك حبيسة هذا الجسد الذي يحيط بها.
والعجيب أنك إذا ما حاولت تحرير نفسك من هذا السياج لتخرج بها إلى فضاء الوجود الحقيقي الذي تتمناه تجد ألف يد من حولك تدفعها إلى داخل جسدك؛ لتظل حبيسة أنفاسك وآهاتك، فتعيش عمرك كله بين حربين لا تنتهيان، لا سلام فيها، حرب الصراع بين الذات والواقع؛ فتظل في صراع بين نفسك وبين العالم الذي يحتوي جسدَك، كأنه مكتوب عليك أن تظل في هذا الصراع تستشرف عالَمًا تتمنى الوصول إليه، على أمل أن ترسو سفينة حياتك على شاطئه.