رئيس التحرير
عصام كامل

الشاعر الذي قتل حبيبته.. وأبدع بعدها: روَّيتُ من دمها الثرى ولطالما روى الهوى شفتيَّ من شفتيها

قصة الشاعر ديك الجن
قصة الشاعر ديك الجن وحبيبته ورد

انشغل الرأي العام المصري باعترافات قاتل الطالبة نيرة أشرف واعترافه بأنها كانت محبوبته وأنه ندم أشد الندم على مقتلها.

ديك الجن وزوجته ورد


ويذخر الأدب العربي بحوادث كثيرة لنهاية حياة المحبوبة على يد الحبيب ومن أشهرها حادثة الشاعر دين الجن وهي قصة مأساته الفاجعة مع زوجته وحبيبته ورد  التي قضت على يديه مقتولة بسبب غيرته بعد مكيدةٍ دبرها ابن عمه أبو الطيب، على إثرِ صدِّ زوجة وحبيبة ديك الجن (ورد) له، بعد العديد من المراودات والعروض التي قدمها لها لينال من نفسها.
وحكاية ذلك أن ديك الجنِّ قام برحلةٍ،بعيدًا عن حمص طلبًا للمالِ كي يردَّ بعض ديونه المستحقة، وعندما لاحَ خبر عودته قام ابن عمه أبو الطيبِ بالإيقاع بينه وبين زوجته، فقام بإعلامها أن ديك الجن قد قتل على الطريق، فسيطر عليها الحزن والكمد وملأها الهم والحسرةُ.. 
وفي ذات الوقت قام أبو الطيبِ بإعلامِ صديقِ ديك الجنِّ (بكر) بذات الخبرِ، وطلب منه الذهاب إلى بيت صديقه كي يهدِّئَ من روع زوجته (ورد) فذهب (بكر) إلى بيت صديقه وشارك وردًا في همها، وحزنها على زوجها، وشرع بمواساتها وتهدئتها، ومع وصول ديك الجنِّ (سالمًا) إلى حمصَ، أسرع إليه ابن عمه أبو الطيب وأخبره بوجود صديقه في بيت زوجته أثناء غيابه، وأنه كان يتردد إليها باستمرار.

 

رثاء ديك الجن لزوجته


فاستبد الغضب بديك الجن ومضى هائجا إلى بيته، وعندما تحقق من صحة ما رواه أبو الطيب، شهر سلاحه وقتل زوجته وصديقه بسيفه..
وكتب لأحمد بن علي قصيدة يمدحه فيها ويبلغه خبر المرأة وخيانتها، ومطلعها
أنَّ ريبَ الزمانِ طالَ انتكاسه &&& كم رمتني بحادثٍ أحداثه
لكن ديك الجن اكتشف حقيقة الخدعة التي حبكها ابن عمه، 

وندم ندمًا شديدًا، ومكث شهرًا لا يرقأ له دمع ولا يطعم من الطعام إلاَّ ما يقيم رمقه. وقال في ندمه على قتلها:
يا طلعة طلع الحِمامُ عليـها &&&وجنى لها ثمر الردى بيديـها
روَّيتُ من دمها الثرى ولطالما&&& روى الهوى شفتيَّ من شفتيها
قد بات سيفي في مجال وشاحها&&& ومدامعي تجـري على خديها
فوحقّ نعليها وما وطي الحصى &&&شيء أعـزّ عليَّ من نعليـها
ما كان قتليها لأنّي لم أكن &&& أبكي إذا سقط الذباب عليها
لكن ضننت على العيون بحسنها &&& وأنفت من نظر الحسود إليها


من هو ديك الجن
 

ديك الجن واسمه عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن مزيد بن تميم الكلبي الحمصي شاعر عربي عباسي، مولود في العام 161 هـ في مدينة حمص، وتوفي في العام 236 هـ.

وصل شعره مفرّقًا في كتب الأدب والنقد والتراجم، وقد تتبع الناقد (ابن وَكِيع التَنيسي) عندما ألف كتابه (المنصف في نقد الشعر) الذي درس فيه شعر المتنبي، وأعادها إلى مواطنها، فرأى أن ديك الجن من أهم المواطن التي سطا عليها المتنبي. وما ينطبق على ابن وكيع، ينطبق على (السريّ الرفّاء) في كتابه (المحبّ والمحبوبّ) الذي تناول فيه الخمر وأوصافها في الشعر.
ولد ديك الجن بمدينة حمص على نهر العاصي وفي واحد من أحيائها القديمة الذي يسمى اليوم (باب الدُريب)، واسمه عبد السلام بن رغبان لقب بديك الجن بسبب لون عينيه الأخضر وعاش في حمص حياته الحافلة التي امتدت قرابة خمسة وسبعين عامًا.

 تميّزت حياته بمراحلٍ ثلاث، حيث عاش ديك الجن في طفولته حياة عادية، لم يأبه بها أحد، ولم يكن ثمة ما يميزه عن أترابه، كما أن كتب التراث لا تذكر شيئًا عن طفولته.

 لقد أصاب هذه الطفولة من النسيان والتجاهل ما يصيب طفولة معظم المبدعين الذين لا يُلتفت إليهم إلا بعد ظهور مواهبهم وتأكُّدها. وما نستطيع الجزم به أن ديك الجن دُفع في طفولته إلى المساجد حيث المعلمون والعلماء، وحيث حلقات الدرس والبحث. 

ولقد انسحبت هذه الفترة على طفولته ومراهقته وصدر شبابه، لأن آراءه وشعره ينطقان بتحصيل كم وافر من مختلف علوم عصره.
ولقد سارت حياة عبد السلام، في مرحلة شبابه، على صورة واحدة لا تتخطاها ولا تحيد عنها، وكانت اللذة المادية في شتى أشكالها وألوانها هي المكوّن الأساسي لهذه الصورة. لقد انكب على اللذات انكبابًا مطلقًا فأدمن معاقرة الخمر ومطاردة الفتيات والنساء والغلمان، جريًا وراء اللذة المادية الجسدية، ولم يعرف الحب الإنساني الذي ينهض على أساس من العواطف النبيلة والمشاعر الرقيقة.

 كان لقاء ديك الجن بورد حادثة معترضة في مسيرة حياته اللاهية العابثة، ولكن هذه الحادثة لم تـنقض بسلام، بل مرت في حياته مرور العاصفة العنيفة التي انقشعت بعد حين، مخلّفة وراءها خرابًا لا يُعَمَّر، وكسرًا لم تجبره يد الأُساة. لقد أحدثت شرخًا عميقًا في قلب ديك الجن، واستمر هذا الشرخ المتفجّع ينـزف مرارة وفجيعة، صابغًا أيامه بلون الدم المُراق، فكان لا يرى إلا الحُمرة، وكان لا يحسّ إلا بالوجع المرّ، ولا ندري كم امتدّت آثار هذه العاصفة في حياة الشاعر، وإلى أيّ مدى بقيت طريّة مُعْوِلَةً في ذاكرته، ولكن من المؤكّد أنه لم ينسها بقية أيامه،

 ويقال إن وردًا واحدةٌ من جاراته النصرانيات أحبها ديك الجن، وأحبته، فأسلمت على يديه، وتزوجها. ولا غرابة في ذلك، ومثل هذه الحادثة تقع كثيرًا في مجتمعاتنا المتسامحة، ولكن الغرابة تنبع من النهاية المأساوية الفاجعة لهذا الزواج. لقد انتهى بمصرع (ورد) بسيف زوجها، العاشق الغيور، فكان هذا الزواج وما رافقه من قصة حب فوّارة بالعواطف الإنسانية، ثم ما استتبعه من قتل مأساويّ، وهو حدث فريد في تاريخنا الأدبي.)، ويضيف المؤلف (عاش ديك الجن في أوساط أسرة متعلمة معروفة، تقلّب بعض رجالها في أعمال الدولة، كما أسلفت، فكان من الطبيعي أن يُدفع الصبي إلى المسجد، حيث حلقاتُ الدرس ومجالسُ العلماء. وفي المسجد تَلَقَّى علوم عصره، فوعى علوم اللغة والأدب والدين والتاريخ، وحصّل كَمًّا جيّدًا من المعارف، كان موضع فخره، فهو يقول:
ما الذّنْبُ إلاّ لجدّي حين وَرَّثني علمًا وورَّثَهُ مِن قبلِ ذاكَ أبي
ولقد انصبّ اهتمام ديك الجن على اللغة والأدب والتاريخ، وكان له منها مكوّناتٌ ثقافية ممتازة، ظهرت بوضوح في شعره. فوعيه لعلوم اللغة جعله مالكًا لناصيتها، قادرًا على التصرّف بها، واستيعاب مفرداتها، وتوظيف دلالاتها المعنوية لإبراز أفكاره ومعانيه، مع سلامة من اللحن، وقدرة على ترتيب المفردات في أنساق لغوية سليمة، تجري على سنن العرب. كما قرأ ما وصل إلى عصره من آداب العرب السالفين، ووقف طويلًا عند الشعر الجاهلي عامّة، وشعر الصعاليك خاصة. وقد أعجب بالصعاليك وفلسفتهم القائِمة على التمرّد والرفض، بل لقد فاق صعاليك الجاهلية في تمرّده ورفضه، فرأى فيهم أطفالًا رُضّعا إذا ما قيسوا به. فهو القائل يصف نفسه:
وَخَوْضُ ليلٍ تخافُ الجِنُّ لُجَّتَهُ ويَنْطوي جيشُها عن جيشه اللَّجِبِ
ما الشَنْفَرَى وسُلَيْكٌ في مُغَيَّبَةٍ إلا رَضِيـعا لَبـانٍ في حِمىً أَشِبِ
لقد عاش ديك الجن قمة الثقافة والازدهار الحضاري في العصر العباسي، وكان على الشاعر أن يكون مثقفًا، مُلِمًّا بفنون عصره وعلومه، ليتمكن من السير في زحمة حركات الإبداع والتجديد، وقد استطاع أن يكون واحدًا من شعراء عصره المثقّفين المبدعين والمجدّدين. ولا يخفى على العارفين التطوّرُ الكبير الذي وصل إليه فنّ الموسيقى في زمنه، وما استتبعه من تطور في فنّ الغناء، وانتشار المغنيّن والمغنيّات من كلّ لون وجنس.لقد خطّ هذا الفن لنفسه طرقًا واضحة المعالم، وكان له علماؤه ومجيدوه، وكان لـه عشاقه ومؤيدوه. وديك الجن واحد من عشاق الغناء والموسيقى، فالشعر والموسيقى فنّان متواشجان، وهما جناحا الغناء، وبهما ينهض، كما أنّ موسيقى الشعر عنصر هام من عناصر بنائه الفنيّ. أقبل ديك الجن على الغناء إقبال المشارِك المبدع، فتعلم العزف، وأتقن قواعد الغناء، ولقد غدا ما تعلمّه في هذا الباب، جزءًا من مكوّناته الثقافية والفنية. كان حسن الصوت، مجيدًا للضرب (بالطُّنْبُور)، وكان يتغنّى بشعره، لنفسه، أو لندمائه الذين كانوا يتحلّقون حوله في مجالس الشراب، فيلتذّ بشعره وغنائه، ويلتذّ بما يحدثه من إعجاب في نفوس سامعيه).
إن تشيّع ديك الجن لا يعني أنه كان إنسانًا متديّنًا، مطبقًا لما أمر به الإسلام أو نهى عنه، لقد كان هناك انفصال تامّ بين انتمائه السياسي ومواقفه الدينية. يقول أبو الفرج على لسان ابن أخي ديك الجن: " كان عمّي خَليعًا ماجنًا". (أما (تشكّكه) بوجود اليوم الآخر والحساب، فقد اتّخذ طابعًا أكثر حدّة، وصل به إلى الانفجار والتصريح بعدم إيمانه بالقيامة والبعث. وربما كانت هذه الحدّة نابعة من التمرّد والتحدّي، والتصدي للوعّاظ الذين يلاحقونه في كل مكان، مذكّرين بالموت والحساب، والجنة والنار. إنه في البداية يجنح إلى مناقشتهم مناقشة تنطوي على الكثير من الاضطراب والقلق والتردّد والشك، فإذا كانوا كاذبين في ادّعائهم بوجود الحياة الآخرة، فقد أَمِنَ ونجا من العقاب عمّا اقترفه من آثام، أما إذا صدقوا فإنه سينجو أيضًا، لأن الله هو الذي ابتلاه بهذه الآثام، وهو الذي سيسامح ويعفو، وما ذنبه فيما قدّر الله لـه ؟! ثم ينفجر بغتة، معلنًا عدم إيمانه بالقيامة، قائلًا:
هيَ الدُّنيا وقد نَعِموا بأخرى وتسويفُ النّفوسِ من السَّوافِ
فإنْ كذبوا أمنتَ، وإنْ أصابوافإنّ المبتليـكَ هو المعافـي
وأصدقُ ما أبثُّك أنَّ قلبـي بتصديقِ القيامةِ غيرُ صافي

 

إلحاد الشاعر ديك الجن


إن هذا التصريح وأمثاله دفع الناس إلى اتهامه بالإلحاد (على أنّ من أطرف المواقف من ديك الجن ومعتقده، موقفَ أبي العلاء المعري الذي كان متعاطفًا مع أخيه في الشعر، ولذلك فقد منحه البراءة من تهمة الإلحاد. يقول في (رسالة الغفران): " ورأى بعضهم عبدَ السَّلامِ بنَ رغبانَ المعروف بديك الجن في النوم، وهو بحُسن حال، فذكر له الأبيات الفائية التي فيها: هي الدُّنيا وقد نَعموا بأخرى وتسويفُ النفوسِ من السَّوافِ
أيْ الهَلاك. فقال: كنت أتلاعبُ بذلك ولم أكن أعتقدُه.) وعندي ملاحظة لغوية هنا: إن كان السواف جمع سافٍ فالمعنى هو الغبار مع الرياح القوية وهو السافِ، ومن معاني السوافِ الحوادث والهلاك. من المنطق المفهوم أن ندرك خوف الشاعر من الحكومة لأنه ناصرَ المعارضة الشيعية، لكن خوفه المرأة والشك فيها! (ولكن الاستغراب ينتفي، والدهشة تزول إذا عرفنا أن خوفه نابع من هذه المعرفة الكثيرة للنساء. إن هذه المعرفة وَلَّدت في نفسه الشَّكَ بوفاء المرأة أو قدرتها على الوفاء) كما كتب الحجي. يبدوا لي أنه بسبب عصيانه وإدمانه لم يعرف الفاضلات. وعرف الكثير من الساقطات وبنات الهوى والمال والموال، وأهل مجالس المجون والخمر، وما إلى ذلك. (لم تكن لديك الجن علاقات واسعة برجالات عصره، فهو لم يبرح بلاد الشام قطّ، كما تقول معظم كتب التراث، وأغلب الظنّ أنه قضى معظم أيام حياته في مدينة حمص وسط سورية، ولم يَفِدْ على بلاطات خلفاء الدولة أو وزرائه وأمرائه، لأنه لم يكن شاعرًا مدّاحًا متكسّبًا بشعره) ربما لتوجهه السياسي ومزاجه النفسي وظروفه. ورغم ذلك كان معروفا بالشعر ومشهورا بالمجون. ومن شعره المقتطفات التالية: بكاكَ أَخٌ لَمْ تَحْـوهِ بقرابة بلى إنَّ إِخْوانَ الصَّفَاءِ أَقَارِبُ
وأَظْلَمَتِ الدُّنْيا التي كُـنْتَ جَارَهَا كأنَّكَ للـدُّنْيا أَخٌ ومُنَاسِبُ
يُبَرِّدُ نِـيْرانَ المَصَائِبِ أَنَّني أَرَى زَمَنًا لَمْ تَبْقَ فيهِ مَصَائِب وأيضا: أَمَالِيْ عَلى الشَّوْقِ اللَّجُوجِ مُعِينُ إذا نَزَحَتْ دَارٌ وَخَفَّ قَطِينُ
إذا ذَكَرُوا عَهْدَ الشَّآمِ اسْتَعَادَنِي إلى مَنْ بِأَكْنَافِ الشَّآمِ حَنِينُ
تَطَــاوَلَ هَذا اللَّيْلُ حَتَّى كأَنَّما على نَجْمِهِ أَلاَّ يَعُودَ يَمـِينُ وأيضا: طَلَبُ المَعَاشِ مُفــرِّقٌ بينَ الأَحِبَّةِ والوَطَنْ
ومُصَيِّـرٌ جَلْدَ الرِّجَالِ إلى الضَّراعَةِ والوَهَنْ
حتّى يُقَادَ كَما يُـقاد النِّضْوُ في ثِنْيِ الشَّطَنْ
ثــمَّ المَنِيَّةُ بعــدَهُ فكأنَّهُ مالَمْ يَكُـنْ
إذا شَجَرُ المودَّةِ لَمْ تَجُدْهُ سَماءُ البِرِّ أَسْرَعَ في الجَفَافِ

 

الجريدة الرسمية