الدولة بـ "تملص"
من الواضح جدا لكل ذي عينين أن سياسة الدولة الحالية تعتمد على ألا تقوم بحمل أعباء الحياة العامة أو حتى تشارك في ذلك الحمل؛ بمعنى أن الدولة تترك كل الخدمات والإنتاج والصحة والتعليم إلخ للقطاع الخاص، وتتفرغ هي لجمع الضرائب فقط تلك التي لا أعرف بماذا ستفيد الدولة التي ستترك كافة المجالات للقطاع الخاص؟ فقد كانت الدولة -وخاصة في فترة الزعيم جمال عبد الناصر- تقوم بدورها الحيوي في رعاية المواطنين والارتقاء بهم بعد أن كان هؤلاء المواطنون في العهد الملكي ما هم سوى عبيد وأقنان الأرض، تراهم حفاة عراة يحملون محفة للباشاوات والأميرات والأثرياء، أو يجرون عربة لهم، أو يزرعون أرضهم ويُورثُون لهم مثل الأرض، فلا حق لهم سوى ما يقرره سيدهم الباشا أو الأمير وهم بعد ذلك يعيشون في جهلهم وأمراضهم وفقرهم العاتي..
ومن يتجرأ منهم أن يسرق "كوز" ذرة يجلد ويهان، فبعد هذا العهد الأسود البائد –الذي يترحم عليه الآن بعض أذناب الجماعة الإرهابية والجهلة وغير المثقفين- جاءت ثورة 23 يوليو المباركة 1952 لتعيد الحقوق لأصحابها، وتبدأ خطوة جديدة في حياة الأمة المصرية، تقوم من خلالها الدولة بدورها المنوط بها في أي دولة تحترم مواطنيها وتقدرهم، فما الدولة سوى الحاكم والوزراء وما تبعهم من موظفين، والحاكم يأتي بإرادة هذا الشعب ليحقق له ما يصبو إليه ويحلم به من حياة مرضية شريفة..
لذلك يحاول الحاكم أن ييسر سبل حياة المصريين بكل السبل، وبالتالي تتدخل الدولة في كافة المناحي الحياتية لتسهل حياة المواطن، وهو ما قام به الزعيم جمال عبد الناصر الذي رأى أن حياة المصريين لن تعتدل سوى بالاهتمام بالمشروعات الصناعية العملاقة مع العدالة الاجتماعية، تلك المشروعات التي تقوم الدولة بإنشائها ليعمل فيها المصريون ويكسبون قوت حياتهم ورفاهية أبنائهم؛ بما يمكنهم من التعلم والتداوي، ويعود على الدولة بالرخاء، على ألا تترك الدولة المشروعات الكبرى والإستراتيجية مثل صناعة الحديد والصلب والأسمنت الخ للقطاع الخاص ليتحكم في حياة المصريين..
هذه الرؤية الشريفة للزعيم جمال عبد الناصر جعلته يقوم بمشروعات عملاقة تصبح في يد الدولة، مثل بناء السد العالى، وتأميم قناة السويس، والنهضة الصناعية ببناء أكثر من 1200 مصنع، بالإضافة لاهتمام بالنهضة الزراعية وإصدار قانون الإصلاح الزراعى الذى ضمن لكل فلاح 5 فدان.
وشهدت مصر في عهد عبد الناصر زيادة مساحة الرقعة الزراعية بنسبة 15%، وزادت مساحة الأراضى المملوكة لفئة صغار الفلاحين، وتم إنشاء العديد من المصانع ومنها بناء مجمع مصانع الألمونيوم فى نجع حمادى، واستطاع الاقتصاد المصرى عام 1969 أن يحقق زيادة في فائض الميزان التجارى، وكانت المحلات المصرية تعرض وتبيع منتجات مصرية من مأكولات وملابس وأثاث وأجهزة كهربية وغيرها، وأنشأت مصر أكبر قاعدة صناعية فى العالم الثالث، بمصانع منها مصانع صناعات ثقيلة وتحويلية واستراتيجية.
وإنجازات عديدة في ملف العدالة الاجتماعية حيث رأى أن الشعب هو من يملك ثروات بلاده ورفض مجتمع 0.5%، بجانب دعم الفلاح ومجانية التعليم وإنشاء المصانع ساهم فى تنفيذ إنجازاته. وقد حافظت الدولة على تلك السياسة مع الموازنة مع القطاع الخاص في عهد الرئيس أنور السادات، وحتى في عهد الرئيس حسني مبارك، لكن الدولة الآن تغيرت سياستها وصارت السياسة هي التخلص من كل ما يخص القطاع العام من مصانع أو خدمات الخ بدعوى أن التجربة أثبتت فشل القطاع العام منذ الستينيات!
وصار دأب الدولة التفرغ فقط لجمع الضرائب وسن التشريعات التي تزيد من الضرائب مع عدم تحويل هذه الضرائب للضخ في قطاعات التعليم والصحة والبناء والعمران الخ؛ لأن كل ذلك سيصبح مسؤولية القطاع الخاص، ولا أعلم إذا ما هو الدور الذي من المفترض ان تقوم الدولة به؟
وثيقة ملكية الدولة
وقد كشفت وثيقة سياسة ملكية الدولة التي طرحتها الحكومة للحوار المجتمعي تأكيد ما نذكر، حيث أكدت الوثيقة أن الدولة "ستملُص" من قطاعات عديدة تاركة لها للقطاع الخاص يرتع فيها ما يشاء، ويستنزف ما يريد من أموال المصريين دون رقيب أو حسيب، ومن أبرز القطاعات التي ستشهد تملص الدولة عدد من الأنشطة في قطاع النقل مثل: إنشاء وتشغيل وإدارة وصيانة البنية الفوقية لمحطات الحاويات والمحطات المتخصصة بأنواعها بالموانئ البحرية، وبناء وتشغيل إدارة وصيانة الأنشطة المرتبطة بصناعة النقل البحري، وإدارة وتشغيل وصيانة قطارات البضائع والقطارات المتميزة الجديدة وورش الصيانة المختلفة بالسكك الحديدية، وإدارة وتشغيل وصيانة خطوط المترو، ومشروعات الجر الكهربائية الحالية. وأنشطة في التعليم مثل التعليم قبل الابتدائي.
وعدد من الأنشطة في قطاع مياه الشرب والصرف الصحي مثل: شبكات تجميع مياه الصرف ومحطات الرفع، ومحطات معالجة مياه الصرف، وجمع ومعالجة وتدوير المخلفات والنفايات. وأنشطة التعدين واستغلال المحاجر مثل: تعدين الفحم، واستخراج البترول والغاز الطبيعي، وتعدين خامات ركازات الفلزات والمعادن، وأنشطة الخدمات المتصلة بالتعدين. وقطاع الكهرباء مثل محطات توليد الكهرباء وشبكات التوزيع وإمدادات الغاز وتكيف الهواء.
وأنشطة عقارية مثل الملكية العقارية. والأنشطة المساعدة للوساطة المالية. وعدد من الأنشطة في المعلومات والاتصالات مثل: خدمات الهاتف المحمول. وعدد من الأنشطة التابعة للرياضة مثل: الأندية، والمدن الرياضية والصالات المغطاة ومراكز التنمية الشبابية والرياضية.
وقد يرد علينا البعض قائلا: لكن الدولة الآن تقوم ببعض الإنشاءات الصناعية وغيرها مثل محطة بنبان الشمسية تقام فى صحراء أسوان، واستصلاح لأرض في الصحراء ٢ مليون فدان، وبناء مصنع سكر في محافظة المنيا، ومصنع غزل ونسيج، ومصنع لكابلات الألياف الضوئية، ومناطق صناعية، وشبكة طرق وكباري ومواصلات، ومصانع البتروكيماويات، وبناء مدن سكنية وصوب زراعية ومزارع سمكية ومحطات كهربائية الخ.
فنرد بأن كل تلك المشروعات هدفها الأساس تمليكها للقطاع الخاص أو المكسب السريع منها، فمشروعات المساكن تباع بأسعار أكثر من القطاع الخاص وهي لتحقيق المكاسب وليست خدمية، أما المدن الصناعية فلعرضها على المستثمرين لعلهم يشترونها ويستثمرون هم وليس الدولة، وكل المشروعات السابقة فقط لدعوة المستثمر خاصة الأجنبي ليجد ما يحببه في الاستثمار دون أن تقوم الدولة في ذلك بدور، فلا تضمن توازن أسعار أو تقديم خدمات لفئة فقيرة، أو تقوم بدور اجتماعي خدمي كما كان يحدث في السابق، فنحن نريد دولة تظل يدها في السوق والمصانع لتحافظ على توازن الأسعار وتظل تقدم خدماتها للفئات الفقيرة.