رئيس التحرير
عصام كامل

د. محمد الجندي يكتب: كيف دافع الفيلسوف الإنجليزي كارليل عن النبي بعد تطاول السفهاء

الدكتور محمد الجندي
الدكتور محمد الجندي وكيل كلية الدعوة

في وقت عُمِّيت فيه مسالك المغرضين، وأَدجنت سماء عقولهم بوابل من القذائف المشينة الموجهة إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم؛ تأتي لمعة الحق بوميضها في السماء من جديد لتمزق كسف الظلام، ويشرق فجر متجدد ليضيء الدنيا بنور الحق، ومن بين من أوقدوا مصابيح الحقيقة يأتي الفيلسوف الإنجليزي "توماس كارليل" ليدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنصاف ودون تأثير معتقده عليه، وفي البداية نعرف به لنتمكن من سماع صوته على بصيرة، و"توماس كارليل" (1795م ـ 1881م ): فيلسوف ومؤرخ وأديب انجليزي ؛ من أبرز الشخصيات في القرن التاسع عشر، انتقد "كارليل"المجتمع الإنجليزي في أول أعماله، آمن بأهمية ودور البطولات والشخصيات القيادية في صناعة التاريخ وإصلاح المجتمع، وكتب ذلك في كتابه الأبطال والبطولة في التاريخ سنة 1841م، وكان من أبرز شخصيات عصره حتى تأثر به الكثيرون.

ويعتبر "توماس كارليل" من المنصفين الغربيين، ومن أشهر كتبه " كتاب " الأبطال " وهو كتاب مترجم؛ قام بترجمته للعربية "محمد السباعي" وطبعته مكتبة مصر، والكتاب يعرض لجملة من الأبطال كما سماهم "كارليل"، وعلى الرغم مما يبلغه الرجل من الإنصاف والاتزان؛ إلا أنه وقوع في منزلق الخلط بين معتقدات وآلهة أسطورية وأشخاص لهم وقع وإنجازات بطولية، وبين الأنبياء  والرسل عليهم السلام الذين اصطفاهم الله على العالمين ورفع بعضهم فوق بعض درجات، ولعل هذا المأزق الذي سقط فيه كارليل يتجلى بوضوح حين ضم محمدا إلى هذه الجملة من الأبطال مما يوهم بأن بطولة محمد بطولة لا تؤازرها إرهاصات السماء، ما يجعله متساويا مع المجتهدين من البشر، أو مع من صنعتهم البطولات الوهمية الأسطورية في تاريخ الآلهة المصطنعة المخلوقة، يقول:
" وكل ما تراه قائما في هذا الوجود كاملا متعمقا فاعلم أنه نتيجة أفكار أولئك العظماء الذين اصطفاهم الله وأرسلهم إلى الناس.

ومن كتبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا كتاب "المثل الأعلى" بترجمة محمد السباعي أيضا، وطبعته دار الآداب بالقاهرة، والكتاب يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرد على بعض الشبهات حوله، ومما جاء فيه: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى من يظن من أن دين الإسلام كذب، وأن محمد خداع مزور" ( )، ويعتبر كتاب كارليل "الأبطال ومحمد المثل الأعلى" هما عمدة المقال في موضوع البحث فيما يختص بإنصاف "كارليل"، مات كارليل وبقي موقفه المشرف من رسول الله حجة ضد المغرضين، وكانت وفاته سنة 1881م.


دفاع كارليل عن الوحي والنبوة والبلاغ

تتابعت قذائف الحق واحدة تلو الأخرى بين الإثبات للحقائق والدفاع عن الحق، وكانت لا شك معاول هدم تمحو أباطيل الموتورين الموجهة إلى رسول الله، وفي النقاط التالية نوضح لذلك:
أولا: الوحي والنبوة في منطق كارليل: خصص " كارليل "في كتابه ( الأبطال ) فصلا لنبي الإسلام بعنوان"البطل في صورة رسول الإسلام  محمد "، عد فيه النبي واحدا من العظماء السبعة الذين أنجبهم التاريخ، وربط بطولته بالنبوة ولم يجرده عن إرهاصات الوحي، وقد استهل "كارليل" محاضرته حول عن النبي  بكلامه عن الوثنية التي بعث فيها محمد، وعن صدق الرسالة والوحي، وأوجز لذلك في المرحلتين التاليتين:

المرحلة الأولى:

مرحلة التحول من الوثنية إلى نور الإيمان: يقول: " ننتقل الآن من العصور الخشنة الوثنية الشمالية إلى دين آخر في أمة أخرى..دين الإسلام في أمة العرب، وما هي إلا نقلة بعيدة وبون شاسع بل أي رفعة وارتقاء نراه هنا في أحوال هذا العالم العامة وأفكاره، في هذا الطور الجديد لم ير الناس في بطلهم إلها بل رسولا بوحي من الله "  
المرحلة الثانية: 

دفاعه عن صدق الوحي والرسالة: مع تناغم الوحي والنبوة في منطق " كارليل "  على أنهما حقيقتان قائمتان ؛ نجد أن تعبيراته تدور حول فلك إثبات هذه الحقيقة الكبرى ؛ وهي صدق رسول الله في نبوته ورسالته، يقول: " الحقيقة الكبرى هي، أنه رجل صادق ونبي مرسل ومعلوم أن " وحي الله تعالى إلى أنبيائه هو ما أنزله تعالى على أنبيائه وعرفهم به من أنباء الغيب والشرائع والحكم، ومنهم من أعطاه كتابا، أي: تشريعا يكتب ومنهم من لم يعطه، والوحي: إعلام الله تعالى لنبي من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه "( )،ولكارليل صولة كلامية عظيمة في هذا الميدان، إنها كلمات تبقى ما بقيت في الأرض حياة ؛  خالدة خلود الرسالة، فهي شهادة قوية من رجل منصف، يقول:" والوحي المنزل من السماء هدى للناس وسراجا منيرا يضيء لهم سبل العيش ويهديهم صراطا مستقيما، ومصدر أحكام القضاة والدرس الواجب على كل مسلم حفظه والاستنارة به في غياهب الحياة، وفي بلاد المسلمين مساجد يتلى فيها القرآن جميعه كل يوم يتقاسمه ثلاثون قارئا على التوالي، وكذلك ما برح هذا الكتاب يرن صوته في آذان الألوف من خلق الله "( )، ولا شك أن هذه الكلمات تنم عن عميق الإنصاف للنبي محمد، فهي تتناول مكارم أخلاقه.

 وقد أجمل كارليل وأجاد في شهادته بعظمة الإسلام وعظمة صاحب الرسالة في قوله:" فمن فضائل الإسلام: تضحية النفس في سبيل الله، وهذا أشرف ما نزل من السماء على بني الأرض، نعم هو نور الله قد سطع في روح ذلك الرجل، فأنار ظلماتها، هو ضياء باهر، كشف تلك الظلمات التي كانت تؤذن بالخسران والهلاك، فشعور محمد إذ اشتعلت روحه بلهيب هذه الحقيقة الساطعة، هو أهم ما يجب على الناس علمه لم يك إلا أمرًا بديهيًا، وكون الله قد أنعم عليه بكشفها، ونجاه من الهلاك والظلمة، وكونه مضطرا إلى إظهارها للعالم أجمع، هذا كله هو معنى كلمة " محمد رسول الله "وهذا هو الصدق الجلي والحق المبين "، وما ذلك إلا اعتراف اجتث به " كارليل " سفاسف المنكرين الذين زعموا " أن الوحي إلهام كان يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج، فيتصور ما يعتقد وجوبه إرشادا إلهيا نازلا عليه من السماء 
ثانيا: موقف كارليل من شبهة تلقي النبي للعلم من بحيرا الراهب:

ينفي كارليل تلقي الرسول  العلم من بحيرا الراهب فاضحا أمر المغرضين الذين يدسون السم في العسل، ومسألة بحيرا مسألة محسومة بالبطلان، وقد ذب كارليل لمثل هذه التراهات المشككة في صدق رسالته، المضللة في أمر نبوته، يقول: " وإني لست أدري ماذا أقول عن هذا الراهب الذي يُزعم أن محمدا سكن معه في دار، ولا ماذا عساه يتعلمه غلام في السن الصغيرة من أي راهب ما، فإن محمدا لم يكن يتجاوز آنذاك الرابعة عشرة، ولم يكن يعرف إلا لغته " 


ثانيا: دفاع كارليل عن منهج النبي  في البلاغ ورد فرية الإكراه بالسيف:  

تعرض " توماس كارليل" لدحض فرية من اتهموا النبي بالعنف والإكراه لنشر رسالة الإسلام في دهشة شديدة مبينا لمنهج النبي في الدعوة وأسباب القتال وتبريره، وقد صنفت لكلامه على أساس ملمحين رئيسين: الملمح الأول: الحكمة والموعظة الحسنة: يبين" كارليل" أن النبي لم يك عنيفا ولا مكرها في دعوته، وإنما اعتمد على الحكمة والموعظة الحسنة في أسلوب دعوته، يقول: "وكانت نية محمد  أن ينشر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة فقط وهذه حقيقة أثبتها القرآن الكريم في قوله تعالى:(ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، والحكمة هي:"إصابة الحق بالقول والعمل"، وهي" المقالة المحكمة الصحيحة، والدليل الموضح للحق المزيل للشبهة، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ: هي التي بها لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتقصد ما ينفعهم فيها،والمعنى: ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ: أي بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق، من غير فظاظة ولا تعنيف"،وذلك أمر من الله تعالى لرسوله "بأن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ".
الملمح الثاني:

 الدفاع عن الدعوة وحمايتها دون اعتداء:يحلل " كارليل " لمعاناة النبي والذين معه تحليلا صائبا، ويبين أنه لم يلجأ إلى السيف إلا بعد كثرة الظلم والعدوان والاضطهاد، حيث لا سبيل إلا الدفاع عن النفس وعن الدعوة التي كلفه الله ببلاغها دون أن يكرههم على اعتناق الإسلام، فيقول: "لما وجد ـ النبي ـ أن القوم الظالمين لم يكتفوا برفض رسالته السماوية وعدم الإصغاء إلى صيحة ضميره وصيحة لبه، حتى أرادوا أن يسكتوه فلا ينطق بالرسالة ؛  عزم ابن الصحراء على أن يدافع عن نفسه، دفاع رجل ثم دفاع عربي، ولسان حاله يقول أما وقد أبت قريش إلا الحرب، فلينظروا أي فتيان هيجاء نحن، وحقًا رأى، فإن أولئك القوم أغلقوا آذانهم عن كلمة الحق، وشريعة الصدق، وأبوا إلا تماديًا في ضلالهم يستبيحون الحريم، ويهتكون الحرمات، ويسلبون وينهبون، ويقتلون النفس التي حرّم الله قتلها، ويأتون كل إثم ومنكر، وقد جاءهم محمد من طريق الرفق والأناة، فأبوا إلا عتوًا وطغيانًا، فليجعل الأمر إذن إلى الحسام المهند، والوشيج المقوم، وإلى كل مسرودة حصداء، وسابحة جرداء وكذلك قضى محمد بقية عمره وهي عشرة سنين أخرى في حرب وجهاد، لم يسترح غمضة عين، ويأتي رد كارليل ليعانق حقيقة غابت عن عقول كثير من المضللين والمغيبين ممن أشاعوا أن الإسلام دين السيف على اعتبار إرهاب الناس وسفك دمائهم، لا على اعتبار أن الجهاد فريضة بالسلاح لحماية الدعوة وليس لإكراه الناس على الإسلام، وحسبنا  رد توماس كارليل على تلك الفرية التي تذهب إلى أن محمدًا لم ينشر دعوته  إلا بحد السيف،يقول  توماس كارليل:"إن اتهام محمد  بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته؛ سخف غير مفهوم!! ؛ إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل سيفه ليقتل به الناس، أو يستجيبوا له، فإذا آمن به من لا يقدرون على حرب خصومهم، فقد آمنوا به طائعين مصدقين، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها، والواقع الثابت في أخبار الدعوة الإسلامية يصدق لكارليل فيما لاقاه النبي ومن معه من الأذى والتصدي والعداء.

وفي ذلك يقول الأستاذ العقاد: "كانوا ـ أي النبي ومن معه ـ ضحايا القسر والتعذيب قبل أن يقدروا على دفع أذى مشركي قريش في مكة المكرمة، فهجروا ديارهم وتغربوا عن أهليهم"، نعم.. لاقى النبي وصحبه من صنوف العذاب وألوان البلاء، ما تئن عند حمله الجبال الرواسي، وما صرفهم ذلك عن دينهم، ولا زعزع عقيدتهم، بل زادهم تمسكا وصلابة بالحق، يقول "كارليل": "لقد قيل كثيرًا في شأن نشر محمد دينه بالسيف، فإذا جعل الناس ذلك دليلًا على كذبه، فذلك أشد ما أخطئوا وجاروا، فهم يقولون ما كان الدين لينتشر لولا السيف، ولكن ما هو الذي أوجد السيف؟ هو قوة ذلك الدين، وأنه حق، والرأي الجديد أول ما ينشأ يكون في رأس رجل واحد، فالذي يعتقده هو فرد- فرد ضد العالم أجمع- فإذا تناول هذا الفرد سيفًا وقام في وجه الدنيا فقلما والله يضيع ! وأرى - على العموم- أن الحق ينشر نفسه بأية طريقة حسبما تقتضيه الحال، أو لم تروا أن النصرانية كانت لا تأنف أن تستخدم السيف أحيانًا، وأنا لا أحفل إذا كان انتشار الحق بالسيف أم باللسان أو بأية آلة أخرى، فلندع الحقائق تنشر سلطانها بالخطابة أو بالصحافة أو بالنار، لندعها تكافح وتجاهد بأيديها وأرجلها وأظافرها، فإنها لن تَهزم إلا ما كان يستحق أن يُهزم، وليس في طاقتها قط أن تقضي على ما هو خير منها، بل ما هو أحط وأدنى"، الله الله على منطق الإنصاف.

 لقد صدق "كارليل" وأحسن، فالمسلمون لم يعمدوا أبدا إلى استخدام السيف والقوة إلا لمحاربة القوة التي تصدهم عن الإقناع، ورسول الله لم يفاتح أحدا بالعداء قط، ويعد هذا القول صفعة للحملات الغربية التي زادت هجمتها في الآونة الأخيرة، لا سيما في الدراسات الاستشراقية التي لا تتواني عن السهر في سبيل تصدير الجدل الخبيث بكل ألوانه تجاه رسول الله والإسلام  " فما زالت تنشر الكتب والمقالات دون توقف عن الإسلام والعرب  . وموقف كارليل وأمثاله يشير إلى صحوة دينية في الغرب قد نغفل عنها لأنها تقارع الحملات الصليبية ضد الإسلام ورسوله.


شهادة كارليل بعظمة أخلاق الرسول 

تتجلى عظمة أخلاق النبي في منطق كارليل فيما يأتي:
أولا: صدق النبي:

جاء كارليل ليدلي بشهادته أمام التاريخ مدافعا عن رسول الله واصفا إياه بالصدق ؛ مثبتا أن علامات النبوة ودلائلها تبقى ساطعة لا تحجبها هالات ظلمات المشككين، وأن كل دعاية مزيفة من السهل أن تنقشع، أما الدعوة الثابتة الصادقة فهي كالرواسخ العوالي، لا تزول ولا تتأثر بعوامل التعرية ولا برياحها، بل تصطدم عواملها بثوابت الجبال وتعود إلى حيث جاءت، “ وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن لـه أدنى تمييز، وما من أحد ادعى النبوة من الصادقين إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر لمن له أدنى تمييز،  فإن الرسول لا بد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور، ولا بد أن يفعل أمورا، والكذاب يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة، والصادق يظهر في نفس ما يأمر به وما يخبر عنه ويفعله ما يظهر به صدقه من وجوه كثيرة ؛ بل كل شخصين ادعيا أمرا من الأمور أحدهما صادق في دعواه والآخر كاذب ؛ فلا بد أن يبين صدق هذا وكذب هذا من وجوه كثيرة ؛ إذ الصدق مستلزم للبر والكذب مستلزم للفجور ”.

ويتجلى رأي " كارليل " في دعوى كذب الإسلام ونبيه بما يلي: 
أولا: أن إدعاء كذب الإسلام ونبيه عار وخزي:
   إن صدق النبي كان له وقع في تفكير كارليل، ما جعله يخوض معركة شرسة ضد بني جلدته مدافعا عن رسول الله  ويرد على أية تصريحات موتورة تعبر عن صغر أسنانهم وعدم معرفتهم حقيقة الإسلام وحقيقة النبوة الناصعة التي شهدت لها مئات بل آلاف الشهادات المنصفة شرقا وغربا، بل إنها تعبر في حقيقة الأمر عن مدى التعصب الأعمى والتصامم الذي يصاب به بعض أعداء الإسلام الذين لا يزيدون الإسلام إلا سطوعا، ولا يزيدهم إلا شقاءا، ومن شهادات الرجل حول صدق النبي والتي أنصفت الحقيقة واعترفت بصدق النبوة حتى وإن لم يلمس الإسلام شغاف قلبه، فالحق والموضوعية يفرضان مقاييسهما على من كان ينشد المعرفة الحقة أمثال هذا الرجل المنصف، فنراه ينعى على العقل تكذيب رسالة الإسلام واتهام النبي بالكذب قائلا:

"لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى من يظن من أن دين الإسلام كذب، وأن محمد خداع مزور، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاشت بها وماتت عليها الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة ؟!! أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدا، ولو أن الكذب والغش يوجبان عند خلق الله هذا الرواج ويصادفان منهم مثل هذا التصديق، فما الناس إلا بله ومجانين، وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة، كان الأولى بها ألا تخلق، فواأسفاه.. ما أسوء هذا الزعم، وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة".

لا شك أن تلك الكلمات مليئة بالصدق والقوة في الإنصاف والدفاع، والمتأمل لما تتضمنه ؛ يدرك أنه لم تحظ شخصية في التاريخ البشري العريض بمثل ما حظيت به شخصية النبي الكريم محمد من الاهتمام والإشادة والتمجيد من كافة الأعراق والشعوب والطوائف والملل، وفي شتى اللغات.


ثانيا: إمكانات الكاذب الدعي:

يستطرد كارليل في دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: "إن الرجل الكاذب لا يستطيع أن يبني بيتا من الطوب، فكيف يوجد دينا؟!، هل رأيتم قط معشر الإخوان أن رجلا كاذبا يستطيع أن يوجد دينا وينشره ؟! عجبا إن الرجل الكاذب لا يستطيع أن يبني بيتا من الطوب!فهو إذا لم يكن عليما بخصائص الجير والجص والتراب وما شاكل ذلك، فما ذلك الذي يبنيه ببيت، وإنما هو تل من الأنقاض وكثيب من أخلاط المواد وليس جديرا أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرنا يسكنه ملايين الأنفس، ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم كأنه لم يكن". 


وتلك محاولة للوقوف على عظمة الرسول الكريم  وبيان شخصيته العظيمة ونبل أخلاقه وطهارة حياته وخلوها من كل ما يشوه أخلاقه القرآنية، ومن دفاعاته عن النبي الكريم نفيه بشكل حاسم الاتهامات الموجهة له صلى الله عليه وسلم قوله: "إن الرسالة التي أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زالت السراج المنير، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها الملايين الفائقة الحصر والإحصاء كذبة وخدعة ؟ !". 

ويوجه "كارليل" رسالة إنصاف إلى فلاسفة الغرب إذعانا بعظمة هذا النبي في وقت مارى فيها آخرون وأشاعوا ترهات غير منطقية وغير موضوعية عنه، ونسبوا ما جاء به من تعاليم وتشريعات إلى نواميس سابقة عليه، وإلى القانون الوضعي الروماني، وهي تراهات كفى الغربيون المنصفون مهمة الرد عليها بأسس علمية، وها هو "كارليل" يثبت عوارها وتساقطها وإغراضها، يقول  :" فلسنا نعد محمدا  هذا قط رجلا كاذبا متصنعا يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغية، أو يطمح إلى درجة ملك أو سلطان أو غير ذلك من الحقائر والصغائر "  
ثانيا: محمد النبي العالمي صاحب التواضع والمرحمة ولين الجانب:


يستهل " كارليل " ثناءه على أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم باعترافه بمحبته ويثني بالصد عنه، وذلك كالتالي:
أولا: إقراره بمحبته: 

أقر " كارليل " بحبه لرسول الله لشدة تواضعه، وبراءة طبعه وعدم تعالي، وقد عبر عن هذا الحب بكلمات قال فيها:"وإني لأحب محمدا  لبراءة طبعه من الرياء والتصنع، ولقد كان رجلا مستقل الرأي ؛ لا يعول إلا على نفسه، ولا يدعي ما ليس فيه، ولم يك متكبرا، ولكنه لم يك ذليلا، فهو قائم في ثوبه المرقع كما أوجده الله وكما أراد، يخاطب بقوله الحر المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم، يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة ".  


ثانيا: صده لمن قدح في تواضعه ولين جانبه ورحمته: 

صد "كارليل" بشراسة من اتهم النبي  بما ينفي تواضعه ولين جانبه ورحمته من النصارى والملحدين فيقول: “ ويزعم المتعصبون من النصارى والملحدين أن محمدا لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية ومفاخر الجاه والسلطان، كلا وأيم الله، لقد كان فؤاد ذلك الرجل الكبير المتوقد المقلتين؛ العظيم النفس؛ المملوء رحمة وخيرا، وحنانا وبرا وحكمة، مليء بأفكار بعيدة عن الطمع الدنيوي ونوايا طلب السلطة والجاه.

وقد صدّق القرآن الكريم ذلك حين قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)، "فكان لينُه رحمةً من الله بالأمة في تنفيذ شريعته بدون تساهل وبرفق وإعانة على تحصيلها؛ فلذلك جعل لينه مصاحبًا لرحمةٍ من الهه أودعها الله فيه؛ إذ هو قد بعث للناس كافة، ولكن اختار الله أن تكون دعوته بين العرب أول شيء لحكمة أرادها الله تعالى في أن يكون العرب هُمْ مُبَلِّغَ الشريعة للعالم". 


ثالثا: أمانة النبي وحكمته وشجاعته:

لم يتوان "كارليل"عن محاولة وضع شخصية النبي في إطارها الحقيقي الذي يعرفه المسلمون، لقد وقف عند جوهر رسالته ومكارم أخلاقه التي جاءت لتحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وتحرير البشرية جمعاء من الخيانة والفوضى والعنف والتوحش الذي كان سائدا قبل مجيء الإسلام، يقول "كارليل": " وقد لوحظ أنه ـ أي محمد ـ كان شابا مفكرا، وقد سماه رفقاؤه الأمين، رجل الصدق والوفاء ؛ الصدق في أقواه وأفعاله وأفكاره، ولوحظ أنه ما تخرج من كلمة من فيه إلا وفيها حكمة بليغة، وإني لأعرف أنه كان كثير الصمت يسكت حيث لا موجب للكلام، فإذا نطق فخذ منه ما شئت من لب وفضل وإخلاص وحكمة، لا يتناول غرضا فيتركه إلا وقد أنار شبهته، وكشف ظلمته، وأبان حجته، وهكذا يكون الكلام وإلا فلا،وشهادة "كارليل" مليئة بالصدق، فقد عرف بالتزام الأمانة، وعلو الآداب؛ وكان له المقام الأرفع قبل النبوة؛ حتى لقبوه بالأمين، وعلى هذه الحال كان حتى بلغ أشده واستوى، وبذلك أقر "كارليل" بالحقيقة في وقت نسب إليه أعداء الإسلام العنف والإرهاب وذهاب الحكمة.
• رابعا: النبي  يتسنم ذروة الزهد والبراءة من الشهوانية:

دافع كارليل عن زهد النبي وعدم إقباله على الشهرة  والشهوة، وعدم حرصه على الدنيا وفتنها، فقد ذكر ذلك تحت عنوان " محمد بريء من الطمع الدنيوي " قائلا:" ويزعم المتعصبون من النصارى والملحدين أن محمدا لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية ومفاخر الجاه والسلطان، كلا وأيم الله، لقد كان في فؤاد ذلك الرجل أفكار غير الطمع الدنيوي ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه.


 ويقول: "وما كان محمد أخا شهوة برغم ما اتهم به ظلما وعدوانا ونخطئ إذا حسبناه رجلا شهوانيا لا هم له إلا قضاء مأربه من الملاذ، كلا فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ أيا كانت، لقد كان زاهدا متقشفا في مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وسائر أمور وأحواله، وكان طعامه عادة الخبز والماء وربما تتابعت الشهور ولم توقد بداره نار، وكان يصلح ثوبه بيده، فحبذا محمدا من رجل خشن الثياب، خشن الطعام، دائب في نشر دين الله، غير طامح إلى ما يطمح إليه أصاغر الرجال من رتبة أو دولة أو سلطان، غير متطلع إلى ذكر أو شهرة كيفما كانت".

ويوضح الإمام ابن القيم مقصد كارليل في كيفية زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:"ومما ينبغى أن يُعلم أن كل خصلة من خصال الفضل قد أحل الله رسوله  في أعلاها وخصه بذروة سنامها، فإذا احتج به الزهاد والمتخلفون عن الدنيا على فضلهم، احتج به العلماء والفقهاء على مثل ما احتج به أولئك، وإذا احتج به الزهاد والمتخلفون عن الدنيا على فضلهم؛ احتج به الداخلون في الدنيا والولاية وسياسة الرعية لإقامة دين الله وتنفيذ أمره، وإذا احتج به الفقير الصابر؛ احتج به الغنى الشاكر، وإذا احتج به المتورعون عن الورع المحمود؛ احتج به الميسرون المسهلون الذين لا يخرجون عن سعة شريعته ويسرها وسهولتها، وإذا احتج به من جاع وصبر على الجوع؛ احتج به من شبع وشكر ربه على الشبع، وإذا احتج به من يأكل الخشن من القوت والأدم كخبز الشعير والخل؛ احتج به من يأكل اللذيذ الطيب كالشوى والحلوى والفاكهة، والبطيخ ونحوه، وإذا احتج به من سرد الصوم؛ احتج به من سرد الفكر، فكان يصوم حتى يقال لا يُفطر، ويُفطر حتى يُقال لا يصوم، وإذا احتج به من رغب عن الطيبات والمشتهيات؛ احتج به من أحب أطيب ما فى الدنيا وهو النساء والطيب، وإذا احتج به من ترك أسباب المعيشة بنفسه؛ احتج به من باشرها بنفسه فآجر واستأجر وباع واشترى واستسلف وأدان ورهن".
 وفي النهاية نجد أن كلام"كارليل" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع ألسنة خصوم الإسلام الذين اختلقوا الأباطيل حين اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بالشهوانية وحب الرياسة والسلطان، وتصدى يدافع عن النبي متسلحا بمنطق العقل والإنصاف.

الجريدة الرسمية