د. محمد المهدي.. قانون الأحوال الشخصية.. بعيدًا عن التحيزات الذكورية والمظلوميات النسوية
كلنا ندرك أهمية إعادة النظر في قانون الأحوال الشخصية، وقد انتبه المسؤولون منذ فترة طويلة لذلك الأمر بسبب المشكلات المعقدة والمتشابكة التي تصيب الأسر، وتمتلئ بها ساحات محاكم الأسرة، وقد ارتد أثرها في ارتفاع معدلات الطلاق وعزوف الشباب عن الزواج وعن الإنجاب، وتأثيرات أوسع في بنية المجتمع وحالته النفسية.
وحين تعرض مشكلات الأسرة في النقاشات الإعلامية أو في الدراما تحدث حالة من الاستقطاب الحاد بين التحيزات الذكورية والمظلوميات النسوية والتوجهات الفكرية والدينية أو اللادينية، وتمتد الإشتباكات إلى اتهامات للأشخاص وللمؤسسات، وتضيع الحقيقة وسط هذا الصخب، ويشعر الناس بالخوف أكثر خاصة إذا تم إعادة صياغة القانون وسط هذه الصراعات والتجاذبات، أو تحت ضغط قوة معينة تنفرد بالرؤية والقرار.
ومما يزيد الأمر صعوبة وخطورة تاريخ قانون الأحوال الشخصية على مدى عقود طويلة حيث كان يتأثر بالمناخ الذي صدر فيه ويتأثر بضغوطات شخصية، أو تحيزات نوعية (جندرية) أو ميول مؤسسية أو سياسية أو حتى حوادث فردية، وهذه طبيعة البشر إذا لم توضع لها ضوابط وضمانات لمنعها من التحيزات والتعصبات والمصالح الشخصية أو الفئوية.
ولما كان المشرعون في الماضي ينتمون غالبا إلى الذكورية، فإن القانون كان يبدو متحيزا إلى الرجال، ولكن مع تيارات تحرير المرأة ثم تمكين المرأة ثم استقواء المرأة، بدأت الدفة تتحول مع ضغط مجموعات نسوية (فيمينست) ليكون القانون متحيزا أو منتصرًا أو منتصفًا للمرأة، وكابحًا لجماح الرجل الذي تتم شيطنته مقابل تضخيم المظلوميات والصعبانيات والبكائيات النسوية.
وإذا تمت مناقشة القانون الحالي وإعادة صياغته وسط هذه الأجواء، وتحت تأثير استقواءات تراثية أو مجتمعية أو سياسية أو أيدولوجية أو إعلامية أو درامية فإننا نتوقع إصابته بعوارات جديدة تستدعي بعد فترة من الزمن تطول أو تقصر إلى عمليات تجميل أو ترقيع أو تعديل (كما حدث في القانون الحالي عدة مرات في مراحل زمنية مختلفة)، وفي هذه الفترات تدفع الكثير من الأسر ثمنا باهظا، ويضيع الأبناء وخاصة إذا كانوا أطفالا ضحايا لنص هنا أو هناك لم يستوف معايير العدالة المحايدة.
ولهذا نقترح بصورة عملية أن تجهز الجهات المنوطة بهذا القانون مشروعات للقانون الجديد يعكس وجهة نظرها في المشكلة، وهذه المشروعات تشكل تصورات مبدئية للقانون، وهذه الجهات على سبيل المثال لا الحصر هي: وزارة العدل (خاصة المستشارون والخبراء في محاكم الأسرة الذين يتعاملون يوميا مع قضاياها)، ثم المؤسسات الدينية (الأزهر ودار الإفتاء) وهذه المؤسسات هامة جدا في إمداد المشرع بالقواعد الدينية التي ترسم العلاقات بين أفراد الأسرة وأفراد المجتمع.
خاصة وأن النصوص الدينية في القرآن والسنة تعرضت لتلك الأمور بتفصيلات كثيرة ودقيقة وأيضا لديها مشروعات إصلاحية واقعية حديثة للأسرة تمثلت في "مشروع لم الشمل" للأسرة في مشيخة الأزهر، ومشروع "الإرشاد الزواجي" في دار الإفتاء وقد ساروا فيه خطوات ممتازة حتى الآن وما زالوا يطورونه، والجهة الثالثة هي وزارة التضامن والتي تقوم على مشروع "مودة" ولها أيضا خبراتها التي تعمقت في هذا المجال، أما الجهة الرابعة فهي المجلس القومي للمرأة والذي يتبنى قضايا المرأة من زواياها المختلفة ويدافع عن حقوقها.
وبالطبع سنتوقع رؤى متباينة من هذه المؤسسات، وهنا تأتي الخطوة التالية، وهي اجتماع ممثلين عن تلك المؤسسات في جلسات متتالية تحت إدارة علمية محايدة لعمل عصف ذهني وتقريب وجهات النظر وتقليل مساحات الاختلاف والوصول إلى مشروع متوازن نسبيا يعكس جماع رؤى هذه المؤسسات. والخطوة الثالثة هي عرض هذا المشروع المبدئي على لجنة من خبراء القانون وعلماء الدين وعلماء النفس وعلماء الاجتماع وعلماء التربية وممثلين للمجتمع المدني لفحص هذا المشروع المبدئي وتمحيصه بناءا على رؤى قانونية ودينية وعلمية وتقليل مساحات التحيزات.
وتحكيم المنهج العلمي والقانوني من حيث التوازن والمنطقية والموضوعية ومصالح الأطراف المختلفة والوضع في الإعتبار المصلحة الفضلى للأطفال في الأسر المتنازعة، وفي النهاية نصل إلى صورة جيدة لمشروع القانون ولكنها ليست الصورة النهائية، حيث يتم عرضها على لجنة من علماء النفس والإجتماع والتربية لكي يحددوا آثار هذا القانون على أفراد الأسرة (الزوج والزوجة والأبناء).
ثم تطرح هذه الصورة للحوار المجتمعي فيساهم أصحاب الشأن الذين عاشوا هذه المشاكل الأسرية بآرائهم ويشارك المهتمون بالأمر في كشف مناطق القوة والضعف في القانون، وهذا بشرط أن تكون تلك الحوارات متاحة لكل الأطراف وليست لطرف يعبر عن رؤية واحدة، ويعرض في نفس الوقت للنقاش في مجلس النواب.
وبعد تلك الحوارات المجتمعية والنيابية تجتمع لجنة الخبراء متعددي التخصصات لإعادة الصياغة بناءً على تراكم الآراء والتصويبات والخبرات الواقعية، ثم تأتي الخطوة الأخيرة وهي عرض مشروع القانون على فقهاء الدستور لكي يدرسوا تواؤمه مع نصوص الدستور، ثم يعرض بعد ذلك على مجلس النواب لمناقشته وإقراره من الناحية التشريعية .
وقد يقول قائل: ولم هذا التطويل والحوارات في إصدار القانون؟ والإجابة هي أن هذا القانون يمثل أهم قانون في حياة الأسرة وبالتالي في حياة المجتمع، وله تداعيات وتأثيرا كثيرة وعميقة، وهناك أطراف متعددة ومصالح متشعبة وآراء تمثل مجموعات ضغط، لهذا يحتاج لكل هذه المراحل لوضع ضمانات لصدوره متكاملا ومتحررا قدر الإمكان من كل التحيزات والتأثيرات التي وضعت فيه حفرًا وألغامًا في مراحل كثيرة سابقة دفع ثمنها ملايين البشر خاصة الأطفال.