الدكتور محمد الجندي يكتب: كيف واجه الأزهر العقول المتحجرة والتشنجات الفكرية
واجه الأزهر الشريف بكل طاقته تحجر العقول المدججة بالتصلب الفكري وشخص تشنج أصحابها نفسيا وشخص عقدهم وعمل على تفكيرها وقد عد الأزهر الفكر المتحجر من جملة الأخطار التي هزت أرض المسلمين هزة عنيفة أطاحت برواسخ الثبات في كل ضروب الحياة، وأحدثت صدعا قويا في صرح الأمة ساق الأعداء إلى مهاوي التشويه والطعن في مقدساتنا وأئمتنا وعقيدتنا بكل توجهاتها على حد سوى، وإن ما يعكسه المشهد الفكري الآن في هذا الميدان، ليأخذ بالألباب إلى منعطف من الذعر والفزع، برق منه البصر، وتهدج منه أصوات أهل العلم الأكفاء، فقد تتابعت حلقات التكفير والتفجير على حد سوى، فآثارهما استطارت الأفئدة شعاعا ورهبًا، وهي كثيرة لا تحصى فأحصيها، ولا هي مما يستقصى فأختار بعضا من نواحيها، بانت أناملها تلو غرق أهلها في ظلمات بحر لجي تتابعت ظلماته، بعد أن غشيته أمواجه المتطابقة.
وبعد أن نشر هذا الفكر الغالي رداءه الأسود، صدحت ألسنة أصحابه تضج الفضاء عجيجا وتكفيرا، فحلك الكون، وغابت نجوم الأمن من الحياة، وأخذت الأصابع الخفية الخبيثة تلقي بوابل من الدسائس المشينة على كاهل الإسلام المظلوم، واختلط الأمر على المفاهيم وأشكل، وتحمل الإسلام مسئولية تلك الأفكار المعقدة المركبة التي تنقبض عند ذكرها الخواطر، وشاع الترنم بها في الشبكة العنكبوتية وغيرها من وسائل الدعاية الترويجية المقروءة والمرئية والمسموعة، وامتلأ الميدان تكفيرا، وعلت فيه الأصوات تناحرا وضجيجا، وزهقت نفوس في لظاها، وضاعت ثمرات تحت رحاها.
ويالها من عقول مظلمة خابية الشعاع ، وقفت أمتنا بسببها اليوم على حافة الهاوية، فكم من تهديد بالتكفير علقوه على رؤوس أفرادها ؟! وكم من روح سمحة طمسوها بعد أن طفقوا يخصفون عليها بوابل من الحماقة والغلظة ؟! ولم يعد لديهم ما يُقنعون به ضمير ديننا الرحب السمح باستحقاقهم للوجود بعدما انتهت إليه أفكارهم الضامرة.
ونظريات التكفير اجتذبت في أول عهدها عددًا كبيرا، باعتبارها مذهبًا يحمل طابع العقيدة، ولكن تراجع رواجها تراجعًا واضحًا بعد أن أدركت المجتمعات أن فكرة التكفير تناهض طبيعة الفطرة البشرية ومقتضياتها، ولا تنمو إلا في بيئة محطمة ! أو بيئة قد ألفت غياب العاطفة الإيمانية والحنو الوجداني، وحتى في مثل هذه البيئات بدأ يظهر فشلها، ما أثر سلبا على اتساع دائرة الدعوة إلى الله تعالى.
وبدا حصاد مر في نظرة الغرب إلى الإسلام من خلال هؤلاء، وانفجر بركان ثائر ضد ديننا وعقيدتنا فقذف دعوتنا بحممه، ونهدت زبانية الجحيم من كل حدب وصوب يتخذون من ذلك مغنما مشاعا تروج فيه لحربها على الإسلام، وطفقوا يلقوننا من بيوتاتهم المظلمة في الغرب ما يريح هويتهم المفقودة، وطالبوا بنزع فتيل الحرب من نصوص القرآن بعد أن اتهموه بالتشدد والإرهاب، وراحت خطى تسرق بالليل إلى تعاليم الإسلام السمحة الرحيمة بعد أن كانت صحيحة فشوهوها، وحقائق تدعو الناس إلى الإسلام بلا جهد وتنير حنادس الأجواء المظلمة فطمسوها.
وتلك فتنة سعرتها أفئدة الغلاة، وأوقدتها ألسنتهم المتسلطة، فانقضاضهم على عقيدة المسلمين انقضاض البزاة على طرائدها، وإسراعهم إلى التكفير إسراع العطاش إلى مواردها، حتى امتدت أيديهم إلى وحدتنا فمزقتها، وإلى صفاء عقيدتنا فعكرتها،إنهم زعموا أن أي مذنب كافر مخلد في النار ولو قال الشهادتين وأدى كل فرائض الإسلام من صلاة وزكاة وحج وصيام، ولو ابتعد عن الكبائر والفواحش، وأتى بالقربات والطاعات المرضية للرحمن، وقد قامت آراؤهم على مرتكزات خاطئة، منها على سبيل المثال:
1 ـ مرتكز يقوم على فهم خاطئ للعقيدة، فأصول العقيدة الإسلامية لم يقع عليها خلاف وهي تقوم أساسًا على الإيمان بالله تعالى وعلى تنزيهه وعلى وجوب طاعته، وعلى الإيمان برسول الله ووجوب طاعته والالتزام بسنّته، فالإسراع إلى التكفير بناءا على الاختلاف في فروع العقيدة خطأ عظيم وقع فيه المكفرون، وهو منهج يخالف نهج السلف الصالح، ويخالف نهج العلماء المحققين.
2 ـ مرتكز آخر وهو اعتبار المبادئ الإسلامية مجموعة نظريات تقف عند ظواهر النصوص ولا تتعامل مع العمق الذي تحرّكت من خلاله روح هذه النصوص.
وإن من حكمة الله تعالى أن تكون العقيدة مجردة من الزينة والطلاء، واضحة في أحكامها، لا تجامل أحدا على حساب أحد، ولا تظلم عاصيا لحساب مطيع، ولا كافرا لحساب مؤمن، ليقبل عليها من يقبل وهو على يقين من نفسه أنه يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات، ولينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع، ومن يشتهي الزينة والأبهة، ومن يطلب المال والمتاع، ومن يقيم لاعتبارات النفس وزنا حين تخف في ميزان الله.
الأزهر في مواجهة التحجر الفكري:
حين نذكر مواجهة الأزهر للتحجر الفكري لا نستطيع أن نحصي ما فعله الأزهر كله على سبيل الحصر ولكن نذكر مثالا واحدا هو:
قول الشيخ محمد عبده: ليس لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام على آخر مهما انحطت منزلته فيه إلا حق النصيحة والرشاد، ولقد اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد أحكام دينهم أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر ، قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير، وقال ابن عباس كان رجل في غنيمة له، فلحقه المسلمون، فقال السلام عليكم فقتلوه، وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك قوله
(ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا) ألقى إليكم السلام نطق بالشهادتين أو حياكم بتحية الإسلام أي تقولون لم يؤمن حقيقة إنما نطق بالإسلام زورا، وقد نبههم القرآن ونههاهم عن التصدير على ما في القلوب، وأنه من ضروب ركوب الأخطار، وخوض الغمار، ومد إليهم حبلا فاصلا ليعتصموا به عند ورود ما يثير سخائم القلوب ويؤلب المنابذات، وهذا توجيه يسبق الدواء، محمول على القول: ( الوقاية خير من العلاج ) وذلك لئلا يسقط المؤمن في هاوية التكفير، ولا تراوده نفسه أن يخلع رداءه النظيف الطاهر، وينغمس في الحمأة المبهمة.
وقد بين علماء الأزهر أن مسألة التكفير تكون بضوابط شرعية وفقه وتثبت، ولا يكون ذلك إلا للعلماء الراسخين فهم الذين يحكمون على فلان بأنه كافر لمعرفتهم بالأدلة والشروط والموانع لهذه المسألة فلا يجوز تكفير المسلم بمجرد وقوعه في خطأ أو معصية، يقول الإمام القرطبي في تفسير الآية السابقة ( إن في هذا التوجيه الإلهي من الفقه باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر، لا على القطع واطلاع السرائر، فالله "تعالى" لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر ) وتتناغم السنة مع القرآن في نفس القضية ـ كغيرها ـ فقد ساق النبي أفئدة أصحابه على أنساق تتسق مع نظم وتوجيه القرآن، فهذا أسامة بن زيد رضي الله عنهما فيما ورد عنه أنه قتل رجلا شهر عليه السيف فقال: لا إله إلا الله فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أشد الإنكار، وقال: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله ؟ فقال: إنما قالها تعوذا من السيف؟ فقال: هلا شققت عن قلبه؟! وفي بعض الروايات: كيف لك بـ لا إله إلا الله يوم القيامة ؟ )، وفي هذا التوجيه سبق من رسول الله لقلب أسامة وغيره من الأصحاب لاجتثاث الظن في التكفير، فالوقاية أنجع من العلاج، ومنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا إلى فدك فأغاروا عليهم، وكان مرداس الفدكي قد خرج من الليل وقال لأصحابه: إني لاحق بمحمد وأصحابه فبصر به رجل فحمل عليه فقال: إني مؤمن فقتله فقال النبي : هلا شققت عن قلبه ، وعليه فمجرد الجزم بالحكم على بواطن الناس زلل في المخاطر، وليس لنا إلا الحكم بالظاهر، أما أمور القلوب فإنه لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فمن نطق بالكفر أو فعل الكفر، حكمنا عليه بموجب قوله أو فعله وفي ذلك توجيه صريح لخطأ أصحاب الهوى في تكفير الناس بعشوائية وبغير ضوابط ولا مرجعية.
ومن العلاج في الإسلام للعقول المتحجرة استخدام آلية " الجزاء من جنس العمل فالتخبط عند النظر إلى عقائد الناس والحكم عليها هملا، والأرجحة العنيفة بين الغلو والتكفير، يمثل سطوا في نظرة الإنسان للإنسان، وهجوما على فطرته واستعداداته الإيمانية، يترتب عليه تبادل القصف بين الطرفين بالتكفير، وذلك انزلاق في هاوية خطيرة تعود على أحد الطرفين بالوبال
فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي أنه قال: لا يرمي رجل رجلًا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك، وذلك أول الوهن، تعود كلمة التكفير على قائلها إن لم يكن في صاحبه ما قال.
وتظل موجة التكفير المغرقة العاتية في صورتها جامحة مجنونة ، تلهبها سياط الألسنة الطاغية الشاردة القاتلة المحمومة، يقول النبي: ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله وقد عنى الإسلام بضبط النظرة والحكم على الآخرين من خلال الظواهر لصعوبة اختراق ما في القلوب والبصائر، بحيث لا تضطرب النظرات والقلوب ولا تتأرجح، ولا يكتنفها الشقاق فى زاوية من زواياها، يقول الإمام أبو حامد الغزالي: إنه لا يسارع إلى التكفير إلا الجهلة، وينبغي الاحتراز من التكفير ما وجد الإنسان إلى ذلك سبيلا، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك دم محجمة من دم مسلم ) وعن ابن عمر -رضي الله عنهما -أن رسول الله قال أيَّما رجل قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما وإن صنيع النبي لسان حال يقصم التكفير والغطرسة
وقد ضرب العلماء الأمثال بفقه النبي وتقويمه لأمته، أمثالا حية تبقى ما بقيت في الأرض الحياة، ومنها صلاته الغائب على النجاشي "رحمه الله"، فقد كان ملكًا على قومه، فأسلم دونهم، وما قدر على تعلم الشريعة فضلًا عن تطبيقها، ومع ذلك فإن أحدًا لا يشك في صحة إسلامه رحمه الله.
والنجاشي، لم يطعه قومه في الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه نفر منهم، ولهذا لما مات لم يكن هناك من يصلي عليه، فصلى عليه النبي بالمدينة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه خرج إلى المصلى، فصف بهم وكبر أربعا.
وبتداوله لهذه الحادثة نفهم ضرورة سير التاريخ في دورات على منواله الحكيم، ملتصقا به جنبا إلى جنب كتداول الليل والنهار والشمس والقمر.