عمر وأهل إيلياء
مَنْ يقرأ التاريخ الإسلامى جيدا، يدرك على الفور كيف كان عمر بن الخطاب - رضى الله عنه- يعامل أهل الكتاب وخاصة المسيحيين، وكذلك طبيعة العلاقة بين الطرفين بعد فتح المسلمين لفلسطين.
لقد كانت فلسطين تحت الحكم الرومانى، وكان يحكمها قائد اسمه "الأرطبون"، أي القائد الكبير الذي يلى الإمبراطور، وكان هذا الرجل داهية.. وعندما علم باستعداد المسلمين لفتح فلسطين جهز جيشا عظيما، لدرجة أن عمرو بن العاص- رضى الله عنه- أرسل إلى الفاروق يستشيره في الأمر، فرد عليه عمر بقوله: " قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب".
كانت مدن فلسطين محصنة تحصينا منيعا، ورغم ذلك لم ييأس عمرو بن العاص، الذي سار بجيشه وحاصر مدينة "إيليا" التي كانت أكثر المدن الفلسطينية تحصينا ومنعة، وعندما تقدم المسلمون من أسوار المدينة أمطرتهم الحامية الرومانية بالسهام من كل اتجاه، فتلقاها جيش المسلمين بالدروع، واستمر ذلك لمدة 11 يوما، وعندما رأى قادة الجيش الإسلامى صلابة ومنعة المدينة حاصروها لمدة أربعة أشهر، وأثناء ذلك لم يخل يوم من قتال بين الجيشين.
صمد أهل إيليا والجيش الرومى طوال هذه الفترة، ولكن بدأت همتهم تضعف نتيجة طول فترة الحصار، وهنا قرر البطريرك "صوفنيوس" القيام بمحاولة أخيرة، وهى مخاطبة ابن العاص بشأن فك الحصار عن المدينة والعودة من حيث أتى؛ نظرا لاستحالة فتح المدينة.
أرسل ابن العاص إلى الفاروق يستشيره في الأمر، فقرر الفاروق أن يذهب إلى بيت المقدس بنفسه، وتحرك من المدينة المنورة حتى وصل إلى "الجابية" ومعه رفاقه في الرحلة، وأقاموا معسكرا هناك.. وذات يوم فزع الركب إلى السلاح عندما رأوا خيلا مقبلة عليهم، وفوقها فرسان بأيديهم سيوف، فتبسم عمر لمرآهم قائلا: "مستأمنة، لا تراعوا، وآمنوهم"، وكان هؤلاء الفرسان هم رسل "صوفنيوس" أسقف بيت المقدس، وجاءوا لعقد الصلح مع أمير المؤمنين، وصالحهم عمر.
وأورد الطبرى نص الصلح الذي تم مع أهل إيلياء، ومما جاء فيه "باسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما أعطى عبد الله عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان لأنفسهم ولأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شىء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء أحد من اليهود.. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم.. ومن أقام منهم فإنه آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية.. فمن شاء منهم قعد، ومن شاء سار مع الروم، ومن شار رجع إلى أهله، وأنه لا يؤخذ منهم شيئا حتى يحصد حصادهم.. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية".
وختم الفاروق الكتاب بتوقيعه، وأشهد عليه عبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، ومعاوية بن أبى سفيان.. وقد فرح أسقف بيت المقدس بهذا العهد والصلح الذي أمنهم على أنفسهم وأموالهم وممتلكاتهم، وأتاح لهم حرية العبادة، وشتى مظاهر الحياة الآمنة..
وللحديث بقية إن شاء الله..