د. محمد المهدي يحلل شخصية "الإمام".. "الطيب" يفّضل الصمت.. حازم في القرارات.. يكره "الشو".. شديد الصلابة في الحق
في قرية صغيرة نائية في صعيد مصر تسمى القرنة في محافظة الأقصر انطلقت ذات يوم صرخات مولود جديد في بيت عالم أزهري يدعى محمد أحمد الطيب في 6 يناير عام 1948 م، ولم يكن الأب ليذهب بخياله إلى أن هذا المولود الذي تحتويه لفافة متواضعة سيصبح في يوم من الأيام الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وأنه سيكون إمامًا مميزًا على الرغم من كونه الإمام الثامن والأربعين للأزهر الشريف.
ربما كان قصارى حلمه أن يرى ابنه الذي أسماه أحمد على اسم جده خطيبًا في مسجد القرية أو معلمًا للغة العربية والدين في أحد مدارسها، ولكن ما أن شب هذا المولود وأصبح طفلا يذهب إلى الكتاب كعادة أبناء القرى حتى أظهر نبوغا ملحوظا ومبكرا، وطموحا جعله يتنقل في مراحل التعليم بتفوق إلى أن التحق بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة، ويكون من أوائل خريجيها ويعين معيدا فيها ويحصل على الماجستير والدكتوراة، ثم تدفعه همته العالية التي تميز بها في كل مراحل حياته أن يتطلع إلى مزيد من العلم المختلف فسافر إلى فرنسا لرؤية هذا العالم الآخر ويغترف مما لديهم من علم وثقافة، ثم يعود بعد أن نضجت شخصيته الإنسانية وشخصيته العلمية ليفيض عطاءا في مواقع قيادية مهمة ومؤثرة ليصبح في النهاية الإمام الأكبر على رأس أهم مؤسسة علمية شرعية وأهم مرجعية إسلامية في العالم.
مفتاح الشخصية
مشتق من اسمه فهو الطيب، والطيب بمعنى الطيبة والجودة في الخصال والفعال، فكل من يتعامل معه يشعر بطيبته، وكل من يتابع مسيرته يلمح خصالا وأفعالا راقية ونبيلة وممتازة كالحزم والذكاء وعلو الهمة والكرم ونصرة الضعيف والمظلوم والزهد والتجرد والورع والتسامح والإعراض عن الجاهلين وعن سفاسف الأمور والتطلع لمعاليها، والعمل الدؤب المتميز والهدوء والتواضع وعمق التفكير والقوة في الحق والثبات على المبدأ ورفض الدنية.
الانطباعات الأولى
حين تطالع وجهه تلمح عينين واسعتين خاشعتين قانعتين راضيتين ناعستين ثاقبتين، مع مسحة حزن نبيل تعبر عنها تلك العينين مع قسمات الوجه، وطيبة وسماحة لا تخطئها العين وهو كثير الصمت، ولكن إذا تحدث انهمرت كلماته قوية وهادئة وحازمة ومؤكدة وقليلة ومركزة ومهذبة وموجهة نحو الهدف مباشرة.
يتميز بالهدوء الذي يحوي بداخله عالم ملئ بالحيوية الفكرية واليقظة الذهنية، ويتميز بالصمت الإيجابي الذي يستوعب مايدور حوله في يقظة وعمق ويختزن ما يريد اختزانه ليخرج وقت الحاجة فكرا عميقا ورأيا صائبا.
ويتميز بتواضع جم في كبرياء هادئ ونبيل، يحبه ويحترمه كل من يتعامل معه ويتحدث عنه تلاميذه ومريدوه ومرؤسوه بإجلال وتوقير، ويصفونه حتى بينهم وبين أنفسهم ب "فضيلة الإمام".
ينطبق عليه تماما لفظ الإمام الأكبر، كما ينطبق قبل ذلك على الشيخ عبدالحليم محمود والشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والإمام الطيب يجمع محاسن هذين الإمامين الجليلين، ففيه هدوء وسماحة وطيبة وروحانية وصوفية الشيخ عبدالحليم محمود، وفيه قوة وصرامة وجدية وحزم الشيخ جاد الحق.
وعلى الرغم من طيبته وسماحته وهدوئه وتواضعه إلا أنه شديد الصلابة في الحق خاصة ما يمس حوزة الدين، فهو يقف كالطود الشامخ أمام أي محاولات لاستخدام الدين لأي أغراض مهما كانت الضغوط عليه، ويفعل ذلك بهدوء دون عنترية أو استعراضية وبأدب جم يفرض احترامه حتى على أشد مناوئيه.
وهو لا يحب الظهور الإعلامي أو الظهور عموما ولهذا تجده مقلا في أحاديثه رغم علمه الغزير والعميق، ويفضل العمل أكثر من الكلام، وخاصة العمل المؤسسي المنظم والمؤثر.
مَولدُه ونشأتُه
وُلِدَ أحمد محمد أحمد الطيب الحسَاني، بقرية القُرنةِ التابعة لمحافظة الأَقْصُر في صعيد مصر عام 1946م، لأسرةٍ صوفية زاهدةٍ عريقةٍ طيبةٍ، وبيتِ عِلمٍ وصلاحٍ، ويعود نَسَبُ أسرتهِ من قِبل آبائهم إلى سيدنا الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. نشَأ في القُرنة في كَنَفِ والدِه، وحفظَ القرآنَ وقرأَ المتونَ العلميَّةَ على الطريقةِ الأزهريةِ الأصيلةِ، والتحقَ بمعهدِ (إسنا الدينيِّ)، ثم بمعهدِ (قنا الدينيِّ). ثم التحق بقسم العقيدةِ والفلسفةِ بكليةِ أصولِ الدينِ بالقاهرةِ، حتى تخرَّجَ فيها بتفوقٍ عامَ 1969م.
تلقَّى العلمَ في الأزهر على يدِ كبارِ علمائِه في جميع مَراحِله التعليميَّة، وقد حَرِصَ منذُ صِغَرِه على حُضورِ مجالسِ الصالحين والعارفين ومجالسِ المُصالَحاتِ والمحاكمِ العُرفيَّةِ التي قادَها جَدُّه الشيخُ أحمد الطيِّب، ووالده الشيخ محمد الطيب في "ساحة الطيب"، وعندما بلغ من العمر 25 عامًا أصبح مشاركًا ومحققًا في مجالس المصالحات وفض النزاعات مع والده وأشقائه، فكان يُشاركُ ويتعلَّمُ أصولَ التربيةِ والسلوكِ والحكمةِ في الطريق إلى الله. وقد كان لنشأته في هذه الأسرة الأصيلة كريمة النسب وكريمة العطاء أثر كبير في توجهاته نحو العطاء الوافر والإصلاح وخدمة الدين ورعاية الناس.
تميز وصعود
تعد حياة الدكتور أحمد الطيب العلمية والدينية الأزهرية نموذجا للعمل الدءوب والترقي في مدارج الصعود الإنساني الراقي والمتميز، حيث حصل على الليسانس فى العقيدة والفلسفة من جامعة الأزهر بمصر عام 1969م والماجستير فى العقيدة والفلسفة من جامعة الأزهر بمصر عام 1971م، والدكتوراه فى العقيدة والفلسفة من جامعة الأزهر بمصر عام 1977م.
وعمل الدكتور الطيب معيدًا بقسم العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر من 2 سبتمبر 1969م، كما عمل كمدرس مساعد للعقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر من 5 أكتوبر 1972م، ثم مدرس العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر من 24 أغسطس 1977م، وأستاذ مساعد للعقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر من 1 سبتمبر 1982م، وأستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر من 6 يناير 1988م.
انتدب الأستاذ الطيب ليكون عميدا لكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بمحافظة قنا اعتبارًا من 27 أكتوبر 1990م حتى 31 أغسطس 1991م، ثم انتدب عميدا لكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بأسوان فى الفترة من 9 نوفمبر 1997م وحتى 3 أكتوبر 1999م، وبعدها عين عميدا لكلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية العالمية بباكستان فى العام الدراسي 1999/ 2000م.
ويلاحظ هنا عودته للصعيد في قنا ثم أسوان، ثم انطلاقه للعالم الإسلامي في الجامعة الإسلامية العالمية بباكستان، كل هذا بعد أن درس في فرنسا لتكتمل معالم شخصية تستوعب البيئات والثقافات المختلفة من الصعيد إلى القاهرة إلى باريس إلى الصعيد مرة أخرى ثم باكستان، ومن هنا ستنشأ معالم شخصية إنسانية ذات رؤية عالمية متسعة الأفق، وفي هذه الرحلة تعلم اللغتين الإنجليزية والفرنسية وأصبح يتحدثهما بطلاقة، إضافة إلى اللغة العربية الأم والتي يشهد العلماء أنه لا يخطئ في كلمة واحدة منها نحوا أو صرفا مهما طال حديثه.
وبعد فترة من العمل الجامعي شغل منصب مفتي جمهورية مصر العربية من 10 مارس 2002م حتى 27 سبتمبر 2003م، ثم رئيسًا لجامعة الأزهر إلى أن صدر قرار جمهوري بتعيينه شيخا للأزهر. وأيضا تولّى الأستاذ الطّيب عددا من المهام الدينية الأزهرية الأخرى ومنها: رئيس اللجنة الدينية باتحاد الإذاعة والتليفزيون وعضو مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتليفزيون وعضو مجمع البحوث الإسلامية وعضو المجلس الأعلى للشئوون الإسلامية وعضو الجمعية الفلسفية المصرية.
ويلاحظ من مشوار حياته تقلده للعديد من المناصب القيادية الهامة والرفيعة وربما يرجع ذلك لمهارات قيادية اكتسبها منذ نشأته في أسرة عريقة تقود حركة صوفية وتمارس دورا اجتماعيا في الأقصر.
ولم تقتصر حياة الطيب على التدريس والإفتاء فقط، بل قام خلال رحلته الماضية بتأليف عدد من الكتب، أبرزها ‹مباحث العلة والمعلول من كتاب المواقف»، "أصول نظرية العلم عند الأشعري"، "مفهوم الحركة بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة الماركسية»،» مباحث الوجود والماهية من كتاب المواقف»،» مدخل لدراسة المنطق القديم»،» بحوث فى الثقافة الإسلامية بالاشتراك مع آخرين»، «تعليق على قسم الإلهيات من كتاب تهذيب الكلام للتفتازاني»،» الجانب النقدي في فلسفة أبي البركات البغدادي".
بساطة وعطاء:
ورغم تقلده العديد من المناصب مازال الدكتور أحمد الطيب يقيم في شقته بالقاهرة بمفرده تاركًا الأسرة في مسقط رأسه بالقرية، ويواظب على زيارتها لمدة 3 أيام كل أسبوعين وأحيانا ثلاثة كي لا تنقطع صلته بجذوره وأهل قريته. وهو حين يعود إلى القرية تراه يرتدي الجلباب الصعيدي والكوفية الصعيدية ويجلس بين محبيه ومريديه وطالبي الحاجة منه في بساطة وهدوء وتواضع.
ويقيم نجلا الشيخ وهما المهندس محمود والابنة زينب بالأقصر، كما يتابع الشيخ بنفسه وبواسطه أبناء العائلة ساحة الطيب بالأقصر وهي ساحة مملوكة للعائلة، يجتمع فيها شيخ الأزهر بأهل قريته وأهالي القرى المجاورة، وتقدم فيها واجبات الضيافة الكاملة، ويمارس فيها الشيخ دوره كمحكم عرفي لحل الخلافات والنزاعات بين العائلات، كما يستقبل فيها ضيوفه من المصريين والعرب والأجانب، ويزوره فيها أحيانا بعض السياح الأجانب المتوافدين على الأقصر.
وللشيخ وعائلته ساحة أخرى في القاهرة يمتلكها شقيقه الأكبر الشيخ محمد الطيب وهو شيخ طريقة صوفية وهذه الساحة تتوافر بها كافة مقومات الإقامة والضيافة للراغبين من أبناء القرية والقرى المجاورة، سواء مسلمون أو أقباط أو من أي مكان آخر في زيارة القاهرة وقضاء مصالحهم فيها، وتستقبلهم الساحة وتوفر لهم كل ما يحتاجون إليه، كما توجد جمعية خيرية تتولى استضافة الفتيات اليتيمات وتربيتهن والتكفل بنفقاتهن حتى الزواج، واستقبال الحالات المرضية وتوفير العلاج لها، وكل أبناء الطيب يقومون بخدمة الزائرين والمقيمين في الساحة بالأقصر والقاهرة. وتقوم الجمعية تقوم بمهام أخرى منها سداد ديون الغارمات، وتقديم الخدمات لمن يطلبها، وحل الخلافات والنزاعات.
مواقف الطيب
لشيخ الأزهر مواقف أخرى منها أنه لا يتقاضى راتبا عن منصبه كشيخ للأزهر، ويقول إنه يؤدي عمله في خدمة الإسلام، ولا يستحق عليه أجرا إلا من الله، كما تنازل عن الكثير من مخصصاته زهدا وتقشفا، وخصص الكثير من المعونات من الأزهر للمتضررين من السيول والنكبات، وبناء المستشفيات، وتعويض ضحايا الإرهاب، وقدم الكثير من رحلات الحج والعمرة لأقارب وذوي الضحايا.
وقد تعرض شيخ الأزهر لحملات هجوم من جهات متعددة فهاجمه العلمانيون لرغبتهم في إبعاد الأزهر عن دوره الإيجابي والفاعل في حياة الناس أو لرغبتهم في أن يقدم الأزهر وشيخه دينا معدلا يرضي أذواقهم ويناسب المزاج العصري العالمي، وهاجمه المتطرفون الإسلاميون لوقوفه ضد دعاوى التطرف والإرهاب، وضغط عليه السياسيون ليقف موقفا متوافقا مع توجهاتهم أو توقعاتهم، وهاجمه الإعلاميون في مناسبات عديدة للتأثير في مواقفه وتوجهاته، وقد صمد الشيخ أمام كل هذه الموجات، وحافظ على هدوئه واتزانه وأدبه الجم، ولم يخضع لأية مطالب تؤثر على التمسك بثوابت الدين ومبادئه، وكان مجددا في الإسلام بالضوابط الشرعية الصحيحة وليس بأهواء الناس وأطماعهم