حكاية الجنيه المصري.. وقصة صك العملة المصرية وإنشاء البنوك الوطنية
يخوض الجنيه المصري معركة غير متكافئة منذ سنوات؛ فالجنيه الذي كان كبير القيمة والمقام أمام العملات الأجنبية الأخرى تراجعت قيمته ولا تزال تتراجع بوتيرة متسارعة.
تحديات ضخمة يواجهها الجنيه خصمت من رصيده حتى غدا مثار شفقة وسخرية من الشعراء، مات الجنيه/ ألف رحمة ونور عليه.. هذه الكلمات مطلع قصيدة يرثي فيها الشاعر جمال بخيت العملة المحلية منذ سنوات عديدة.
يستطرد "بخيت": كان الفقيد/ راجل شديد/ وكان زمان بيجيب دهب/ ويشيل حديد.. كان هذا هو الماضي العريق للجنيه، قبل أن يدور الزمان دورته، وتتعاقب السنون، ويصبح الحال غير الحال، كما يقول "بخيت": وفى آخر العمر المديد/ سموه: حمام/ لأنه كان بيطير أوام/ لكن سقط/ من غير وداع/ من غير كلام.
في 21 مارس الماضي.. فَقَدَ الجنيه المصري نحو 18% من قيمته أمام الدولار الأمريكي، وهو أكبر انخفاض له منذ تخفيض قيمة العملة في نوفمبر 2016.. جاء هذا التطور بعد أسابيعَ من الضغط على العملة وسط سحب المستثمرين الأجانب مليارات الدولارات من أسواق الخزانة المصرية في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية.
وفي أعقاب ذلك، اتخذ البنك المركزي قرارات حاسمة في اجتماع مفاجئ للسياسة النقدية، تم على إثرها رفع أسعار الفائدة بنسبة 1% بالإضافة إلى ذلك، ارتفعت -فجأة- فوائد شهادات الاستثمار لمدة عام إلى 18% في البنوك المحلية.
وبينما كان الاقتصاد المحلي هو المسئول عن الإصلاحات في عام 2016، كانت هذه المرة الحرب في أوكرانيا هي المسئول الرئيسي عن التطورات في السياسات الاقتصادية الراهنة. لذا من وجهة نظر البنك المركزي، يعتبر هذا التخفيض في قيمة العملة بمثابة «تصحيح»، يعكس التطورات العالمية والمحلية.
ومن شأن هذا التصحيح أن يجعل الصادرات أكثر قدرة على المنافسة، ويساعد في الحفاظ على سيولة العملات الأجنبية، بجانب كسب ثقة المستثمرين الأجانب، وذلك بعد أن دفع الغزو الروسي لأوكرانيا المستثمرين الأجانب إلى سحب مليارات الدولارات من أسواق الخزانة المصرية، مما ضغط على العملة.
وفي ظل هذه التطورات المتلاحقة.. فإن هناك حزمة من التساؤلات الضاغطة تطرح نفسها مثل: هل يشهد الجنيه مزيدًا من التخفيض؟ هل تلجأ حكومة الدكتور مصطفى مدبولي إلى مزيد من القروض الخارجية؟ هل تشهد البلاد موجات متلاحقة من الغلاء ورفع الأسعار؟ وغيرها من الإشكاليات التي نجيب عليها في سطور هذا الملف.
أقدم عملة
يعتبر الجنيه المصرى أقدم عملة فى منطقة الشرق الأوسط، وكانت قيمته تصل إلى ما كان يوازى، آنذاك، ما قيمته 20 ألف جنيه فى الوقت الحالى، وأطلق اسم الجنيه على العملة المصرية لأن مصر كانت تحت الاحتلال البريطانى، وكانت عملة إنجلترا هى الجنيه الإسترلينى.
ظلت مصر بدون وحدة نقدية محددة حتى عام 1834، عندما أصدر محمد على فرمانًا بإصدار عملة مصرية، تقوم على نظام المعدنين الذهب والفضة، فكانت وحدة النقود قطعة ذهبية قيمتها 20 قرشا وتسمى الريال الذهبى، وقطعة من الفضة بقيمة 20 قرشًا وتسمى الريال الفضة، حتى صدرت أولى العملات المصرية عام 1836. (من كتاب فنون مصرية على العملات الورقية، للدكتور أشرف رضا).
أول بنك تجاري
وفى عام 1898 أنشئ أول بنك تجارى يمارس العمليات المصرفية فى مصر، وهو البنك الأهلى، ومنحته الحكومة امتياز إصدار النقد لمدة 50 عامًا، وفى يوم 1 يناير من العام 1899 صدر أول جنيه ورقى، وظلت النقود المتداولة فى مصر من العام 1899 إلى عام 1914 متأرجحة بين الذهب والجنيهات الإسترلينية بالإضافة إلى أوراق النقد المصرى القابل للصرف بالذهب.
وعندما أصدر البنك الأهلى الجنيه الورقى الأول عام 1899 كانت قيمته تساوى 7.4 جرام من الذهب، واستخدم هذا المعيار حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى فى عام 1914، حيث تم ربط الجنيه المصرى بالجنيه الإسترلينى، وكان الجنيه الإسترلينى يساوى (0.9) جنيه مصرى.
وكان أول إصدار للجنيه المصرى "أبو جملين" قيمته تساوى 7.43 جرامًا من الذهب، وتبلغ وزن أوقية الذهب 28.8 جرام، بسعر 20 دولارا، ما يعنى أن الجنيه كان يساوى 5.2 دولارًا.
وفى عام 1914 صدر مرسوم خاص بجعل أوراق النقد المصرية أداة الإبراء القانونى والعملة الرسمية لمصر، وأوقفت قابلية تحويلها إلى ذهب، وأصبح الجنيه المصرى الورقى، هو الوحدة الأساسية للعملة منذ ذلك التاريخ. وكان "جنيه المعبد" هو الإصدار الثانى للجنيه المصرى، تم إصداره فى 21 سبتمبر 1914.
أما الإصدار الثالث لتصميم الجنيه المصرى فكان فى عهد الملك فؤاد فى يونيو 1924، وتزامن إصدار هذا الجنيه مع أزهى عصور مصر الاقتصادية، وكان سعر صرف الجنيه هو خمسة دولارات.
تطور العملة
فى عهد الملك أحمد فؤاد لاحظ المصريون وجود صورة خادم يدعى إدريس على الجنيه، وكان إدريس هو أول مَن تنبأ للأمير أحمد فؤاد بأنه سيصبح ملكًا على مصر بعد رؤية له فى منامه؛ فمازحه أحمد فؤاد أنه إذا حكم مصر سيضع صورة إدريس على الجنيه، وتحقق بالفعل حلم إدريس فوضع الملك أحمد فؤاد صورته على أول جنيه تصدره حكومته، وصدر جنيه إدريس الفلاح فى 8 يوليو 1928، وكان الإصدار الرابع للجنيه المصرى حاملًا صورة "إدريس".
فى عام 1930 بدأ ولأول مرة استخدام العلامة المائية على أوراق النقد لحمايتها من التزوير، وصدر الجنيه الشهير بـ"جنيه السند" أو "الجنيه الإنجليزي".
وفى ديسمبر 1946 صدر جنيه فاروق الذى حمل صورة حاكم مصر لأول مرة، وبإصدار تلك العملة بدأ الانهيار الحقيقى للجنيه المصرى حيث أصبحت مصر عضوًا فى صندوق النقد الدولى ذلك العام.
الملك فاروق
ففى فترة حكم الملك فاروق الفترة من عام 1936 حتى 1952، كان سعر الجنيه يعادل 5 دولارات، ثم حديث انهيار الجنيه ليصبح سعر الجنيه يعادل 4 دولار. محققًا خسارة بنسبة 20 % على مدى 16 سنة. أي بمعدل انخفاض تقريبى 1.2% فى السنة.
ومع بداية إصدار الجنيه المصرى وحتى قبل ثورة يوليو 52 كانت قيمة الجنيه المصرى قوية، ونتيجة لذلك ربطت بريطانيا الجنيه المصرى بعملتها، نظرًا لقوة الجنيه، فكانت مصر تُصدر كل منتجاتها من خلال أسطولها، وعبر قناة السويس للدول الأوروبية القوية والغنية فى العالم، لذا كان الطلب على الجنيه المصرى كبيرًا، وزدات قيمته وقوته وارتبط بالذهب فزادت قيمته أكثر، وكان الجنيه مستندا للاحتياطى من الذهب.
ثورة يوليو
عقب ثورة 23 يوليو 1952، وفى إطار التغييرات، للتحول من الملكية إلى الجمهورية أزال البنك المركزى المصرى صورة الملك فاروق عن الجنيه. وبداية من العام 1956 وحتى العام 1973 دخلت مصر عدة حروب كبرى، فتناقص احتياطيها من الذهب وقلت الصادرات وتحولت مصر من دولة منتجة لدولة مستهلكة، فزاد الطلب على الدولار باعتباره عملة عالمية وقل الطلب على الجنيه، فبدأت قيمته تقل تدريجيًا، وخاصة مع توقف قناة السويس عقب الحرب، وتناقص الموارد فزاد الاستيراد على حساب التصنيع والإنتاج المحلى.
ففى حقبة الرئيس جمال عبد الناصر فى الفترة من 1954 حتى 1970 كان الجنيه يعادل 4 دولار، لكن سعر الجنيه تراجع سعره ليصبح الجنيه يعادل 2.5 دولار، وحقق خسارة تعادل 37.7% على مدى 16 عامًا. بمعدل انخفاض 2.3 % فى العام.
وفى حقبة الرئيس السادات فى الفترة من 1970 وحتى 1981، وعقب نهاية حرب أكتوبر، ومحاولة التخلص من المشكلات التى تواجه الاقتصاد فرفع الدعم عن السلع، لتحرير الأسعار وتقليل الاستيراد لكنه فتح باب الانفتاح فزاد الاستيراد أكثر، وزاد الطلب على الدولار، ونقصت الصادرات وقلت قيمة الجنيه أمام الدولار.
كان سعر الجنيه يعادل 2.5 دولار، وتراجع سعره، وأصبح سعر الجنيه 1.25 دولار، محققًا خسارة بنسبة 50% فى 11 سنة، بمعدل 4.5% فى السنة.
وفى عهد الرئيس حسنى مبارك فى الفترة من عام 1981 وحتى 2011، كان سعر الجنيه يعادل 1.25 دولار، فى ثمانينيات القرن الماضى، لكن سعر الجنيه تراجع أمام الدولار لتبلغ قيمته 5.8 جنيه حتى عام 2011. محققًا خسارة بلغت 625% فى فترة 30 عامًا، بمعدل 20.8% فى السنة.
الإخوان
ومع حكم الإخوان فى الفترة من 2012 حتى 2013 كان سعر الدولار يبلغ 6.05 جنيه، لكن الجنيه تراجع أمام الدولار، ليصبح سعر الدولار 7.05 جنيه، محققا خسارة 16.5% فى عام واحد.
وفى عام 2016 تم تحرير سعر الجنيه؛ حيث كان يبلغ سعر الدولار 8.88 جنيهًا، وبمجرد صدور قرار التحرير وضع البنك المركزى المصرى سعرًا استرشاديًا لصرف الدولار عند 13 جنيهًا، لتشهد السوق حالة من الارتباك وقيام التجار بالمضاربة، لينتهى عام 2016 وقد قفز سعر صرف الدولار إلى مستوى 19.60 جنيه.
وبحلول العام 2017 بدأت السوق تدخل فى مرحلة الاستقرار ويشهد الدولار تراجعًا ليسجل مستوى 18.30 جنيه، ثم واصل التراجع إلى مستوى 17.25 جنيه خلال العام 2019 لينتهى سعر صرف الدولار إلى مستوى 15.64 جنيه حتى 2022.