رحلة ٦٠ عامًا مع الفوانيس.. شاهد حكاية صانع السعادة من الصفيح
بيت محدود المساحة يقع في شارع جانبي خلف مسجد السيدة عائشة بمصر القديمة في محافظة القاهرة، يتناهى صوت الطرق على المعدن كلما اقتربت من بوابة هذا المنزل، وما إن تصل وترى بعض الفوانيس "الصاج" تتراص بجوار بعضها عند مدخل المنزل، تعرف بأنك قد وصلت إلى منزل الحاج رشوان، أحد أقدم صانعي فانوس الصاج أو المعدن في مصر، هذا المكان الذي يكون أول من يستقبل نفحات الشهر الفضيل وبين جنباته تفوح رائحة البهجة والبركة، تلك التي تحكيها أيادي عم رشوان وأبنائه الثلاث.
عم رشوان في المهنة وعمره 8 سنوات
منذ أن كان عمر عم رشوان عبدالحافظ ثماني سنوات، أمسك للفانوس الصاج لأول مرة في حياته، عمل لمدة ستة أشهر صبي لدى احد صنايعية الفوانيس الصاج في مصر، "أول مرة اتعلمت الصانعة دي في الستينات في منطقة اسمها بركة الفيل، وصنعت الفانوس البدائي اللي جواه شمعة ده هو ده أساس الفانوس قعدت 6 شهور صبي مساعد لصنايعي واتطور الفانوس شوية واختلف".
عاصر عم رشوان منذ الستينات حتى اليوم العديد من مراحل التطور التي أدخلت على الفانوس الصاج، ولكن ظلت الخامة التي يصنع منها الفانوس كما هي، "الفانوس ميبقاش فانوس غير لما يكون مصنوع من الصفيح أو زي ما بتقولوا الصاج".
في بداية الستينات حينما تطور الفانوس أكثر مما كان عليه قديما ومع ظهور جيل الفتية مثل عم رشوان، ظهر ما يعرف بـ "الفانوس أبو باب"، والذي يفتح من الأمام وتوضع به الشمعة من الداخل، ولشدة تعلقه به ورغم مرور كل هذه السنوات إلا أنه مازال رفقة أبنائه الثلاث يصنع هذا الشكل من الفوانيس الصاج، إلى جانب العديد من الأنواع والأحجام المختلفة، "اتطور الفانوس أكتر أبو باب بقى شكل تاني هو ده اللي كان في الستينات، ولحد النهاردة شغالين عليه لكن حصل فيه تطوير موقفناش عند ده بس، عملنا أحجام كبيرة أكبر حجم فانوس اتعمل عندي في ورشتي عمله ابني شريف 6 متر".
وإلى جانب ذلك حرص العم رشوان على صناعة الفانوس البرج ذي الثلاث أمتار ونصف، وبمرور الوقت أدخل الخشب مع الصاج وأطلق عليه اسم "الفانوس المفرغ"، فلم يستطع عك رشوان أن يتخلى عن مكونات الفانوس الذهبي الصاج الذي كبر وشاهد كيف كان أحد أهم مظاهر الاحتفال بشهر رمضان، "أي فانوس تاني غير الصاج مش فانوس.. انتو بتقولوا صاج لكن هو اسمه صفيح ".
ورشة عم رشوان التي تتواجد في الطابق الأرضي لمنزله الكائن خلف مسجد السيدة عائشة، لم تكن المكان الأول له فقد جاب العديد من المناطق في مصر القديمة وهو يحمل أدواته وفي قلبه عشقه الذي لا ينتهي لصناعة الفوانيس،" إنتي لما تشوفي الفانوس ده بتقولي ده خلاص رمضان قرب، ده اللي خلاني كملت في المهنة دي لحد دلوقتي، لفيت مناطق وأماكن كثيرة جدا كان ليا في الخيلفة ورشة ومعي صنايعية، ولكنهم مشيوا وراحوا أماكن مختلفة وكان لي في عين الصيرة والسيدة نفيسة لكن الحمد لله استقريت في البيت".
استقراره في المنزل وتحويل طابقه الأرضي إلى الورشة المخصصة لصناعة الفوانيس التي تخرج إلى العديد محافظات الجمهورية بل إلى الدول العربية أيضا، فالفانوس المصري الصاج لا يصنع إلا في مصر، جعله يعلم أبنائه المهنة ذاتها، فتدخل إلى البيت فتجد الأب يجلس وأمامه القطع الصاج يفصلها ويضعها إلى جوار بعضها ليحملها شريف الابن الأكبر يلصقها ويلحمها بصورة دقيقة وبحرفة الصانع الذي تشرب المهنة فشغفته حبا،: ولادي كلهم صنايعية مستقلين بذاتهم وزي منا اتعلمت هما اتعلموا وبيعلموا أولادهم أحفادي عشان الصانعة تستمر".
فحكاية الأب الذي عاش أكثر من ستين عاما يصنع فوانيس رمضان الصاج وتنقله ورشة ليذهب لأخرى، هكذا دون ان يمل أو يترك تلك الصانعة التي يعدها أكثر ما يبهج الكبير والصغير بأجواء شهر رمضان، يبدو أنها ستستمر وستروى من قبل الأبناء ثم الأحفاد بعد ذلك:"بيقولوا لي لا مش هنخليها تضيع من عندنا وفي استمرارية فيها، ولادي شغالين في الصانعة علشان الصانعة متموتش يبقى فيه استمرارية حتى أحفادي مستمرين بعد أولادي إن شاء الله".
الاستعداد لشهر رمضان
يظن البعض أن موسم صناعة وبيع الفوانيس الصاج يقتصر فقط على شهر رمضان أو الأيام القليلة التي تسبقه، ولكن العمل قائم على قدم وساق طوال العام، وحينما تهل أيام شهر رمضان يحصل العم رشوان وابنائه الثلاثة الذي يقوم كل منهم بمهمته التي وكلت إليه، على قسط قصير من الراحة تستمر ثلاثين يوما فقط:" إحنا بنبدأ نستعد لرمضان من بعد رمضان يعني بعد العيد الصغير بشتغل مش باخد غير شهر راحة وهو شهر رمضان عشان مفيش طلب في رمضان فبعد العيد نبدأ تاني، إحنا ورش معدودة والانتاج كتير"، فلا يوجد مكان أو أي بقعة أخرى في العالم تصنع هذا الفانوس الصاج ذهبي اللون.