رئيس التحرير
عصام كامل

أم الشهيد محمد العزب: ابني البطل استشهد أثناء تفكيك عبوة ناسفة ليحمي زملاءه | حوار

الشهيد البطل محمد
الشهيد البطل محمد العزب

رفع رأسي في كل مكان بتفوقه أخلاقيا وعلميا.. ولا أستطيع وصف مدى فخري به
 

24  عاما مرت عليّ وأنا محررة عسكرية شرفت خلالها بحضور العديد من حفلات التخرج لأسود الكليات العسكرية، وكان من بينها حفل تخرج الدفعة 104 عام 2010، وهي دفعة  الفريق أول محمود شاكر عبد المنعم، وهي نفس الدفعة التي تخرج فيها الشهيد البطل الرائد محمد على العزب، وآخر حفل تخرج يحضره الرئيس الراحل حسني مبارك قبل تنحيه عقب ثورة 25 يناير 2011 


وكان هناك تقليد متبع وهو أن الرئيس ووزير الدفاع وقتها المشير حسين طنطاوي ومدير الكلية الحربية يحضرون الإفطار مع الطلبة الأوائل وأسرهم، وبالصدفة في ذلك اليوم كنت قريبة جدا من مائدة الإفطار التي يجلس إليها الطالب محمد العزب وأسرته، وهي مثال للأسرة المصرية البسيطة، كان الأب مبتسما، أما الأم فكانت تنظر لابنها نظرات حانية، وكأنه غائب عنها منذ سنوات طوال ولم تمد يدها للطعام. 


راقبت نظراتها دون أن تشعر، كانت كأنها تعانق ابنها، وشعرت أن هذه النظرات لفلذة كبدها الذي غاب عنها ثلاثة أشهر تجسد كل معاني الحنان والحب، وحفرت هذه المشاعر داخل ذاكرتي طوال هذه السنوات لأسترجعها مرة أخرى عندما اتصلت هذا العام كعادتي بعدد من الأمهات من أسر الشهداء بمناسبة ذكرى يوم الشهيد.


تواصلت مع السيدة البطلة الصابرة سميرة قنديل أم الشهيد محمد العزب التي بدأت تروي لي تفاصيل استشهاد ابنها والدموع تغالبها، فى سياق الحوار التالى لـ"فيتو":


*بداية.. حدثينا عن الشهيد البطل؟
ابني منذ ولادته وهو رافع راسي أمام الجميع،  كان طوال فترة دراسته  من العشرة الأوائل على دفعته منذ الشهادة الابتدائية وحتى المرحلة الثانوية بقرية الرجبية بمركز السنطة بمحافظة الغربية.
وكانت كل أمنياته أن يلتحق بالكلية الجوية، ويصبح ضابطا طيارا ولكنني كنت في قرارة نفسي أقول ربنا يعطيك يا بني كل اللي أنت بتتمناه لكن كيف ونحن ناس فقراء، وعندما حصل علي الشهادة الثانوية جاءني أنا ووالده يفرحنا وقال لأبيه: جهز نفسك عشان ناوي ادخل الكلية الجوية عشان ابقي ضابط وتفتخر بيا.. صمتنا أنا ووالده لحظات، ونظر إلينا لأنه فهم ما أسكتنا، فظروفنا لا تقوى على الدراسة في الكليات العسكرية.

 

*كيف التحق إذن بالكلية الحربية؟
رغم ذلك تقدم بأوراقه للكلية الحربية وبدأ يعمل مع خاله ليوفر الأموال التي يسافر بها إلى القاهرة من أجل اختبارات الكلية الحربية وبعد 4 اختبارات توقف عن الذهاب، وشعر أنه لن يتم قبوله، وبعد 20 يوم فوجئنا بضابط من الكلية الحربية يتصل علي تليفون منزل خاله، لأننا لا نملك تليفونا ويسأل عن محمد وقال له: لماذا لم تأت لإجراء باقي الاختبارات فأجابه محمد: ظروف يا افندم.. وإن شاء الله سأحضر باقي الاختبارات..  كان فرحا بالاتصال الذي كان بمثابة رسالة من الله بأنه اختاره لكي يكون أحد أبطال مصر، وأكمل محمد كل الاختبارات بتفوق والتحق بالكلية.

*ما هو شعورك عندما تحقق حلم ابنك بالالتحاق بالكلية الحربية؟
محمد من مواليد 14 ديسمبر 1988 وترتيبه الثالث بعد أختيه، وكان وش السعد علي، كان مشرفني في كل مكان بروحه وأخلاقه وتفوقه الدائم، فقد ألحقته بالتعليم الأزهري، وكان متفوقا جدا ويحفظ القرآن الكريم كاملا، وحتى بعد التحاقه بالكلية الحربية كان الأول على دفعته في فرقة المظلات والصاعقة.
ياه....ابني محمد كان آية تمشي علي الأرض، بعد التحاقه بالكلية كنا نذهب لزيارته، كان الجميع يشكر فيه وفي أخلاقه وعندما حضر الرئيس حفل التخرج فوجئت أن ابني من الأوائل وشرفني وأنا اجلس مع كبار القادة والرئيس وهذا شرف لم أكن أستطيع نيله إلا بسبب تفوقه.

* في يوم التخرج انتابتك أحاسيس غريبة.. ارو لنا ذكرياتك عن هذا اليوم؟
هذا اليوم محفور في ذاكرتي لأنني فوجئت أن ابني أحد الأوائل، وكانت سعادتي لا تقدر عندما سمعت اسمه من الأوائل، وكرمه رئيس الجمهورية بالإضافة إلى أنني سأحضر الإفطار مع الرئيس في نفس القاعة، وعندما حضر محمد ونظرت لوجهه لم أستطع الكلام وفضلت احضن فيه ودموعي تملأ وجهي من الفرح، وأشعر بالفخر والدهشة أنا في حلم ولا علم وأنظر لابني، وكأنني أنظر لبطل جديد..
مش أنا بس اللي فخورة بيه لا العالم كله.....ولكن محمد كان حزينا، كان نفسه يبقي الأول أو الثاني ولكن كان ترتيبه الخامس في الأوائل فكان حزينا رغم كل الفرح اللي كنا أنا ووالده ومعلميه نشعر به.

* لكن كيف كانت الحياة مع محمد؟

بعد تخرجه التحق محمد بسلاح المدرعات وكان يقول لنا إنه سلاح الفرسان من زمان، وبحلم أكون فيه قائد زي عظماء العسكرية المصرية،  ومن أول مرتب حصل عليه عمل جمعية مع زملائه بألف جنيه فى الشهر
وأصر أن نعمل بها عمرة انا ووالده ثم عمل مع القوات المسلحة عقب  قيام ثورة يناير لتأمين المتظاهرين في ميدان التحرير حوالي عام، وبعدها نقل إلى سيناء ولكنه لم يخبرنى وقال إنه ذاهب لمكان بدون شبكة حتى لا تقلقي علي، ومتخافيش ابنك راجل، وفى شهر يوليو 2015 تزوج من أخت أحد أصدقائه واستمرت خدمته فى أرض سيناء المباركة حتى جاءت عملية حق الشهيد.

*احكي لنا عن تفاصيل استشهاده؟
بعد زواجه كان يعيش معنا هو وزوجته في نفس المنزل، كان في إجازة، وانتهت هذه الأجازة في يوم الأحد واستشهد الثلاثاء، هذه الأجازة كانت غريبة، محمد كان فيها متوتر كثير الحركة، وجهه يبدو شاحبا ومتعرق أغلب الوقت وعيناه زائغتان في كل مكان، وكأنه يريد أن يقول شيئا، ويوم سفره استيقظ الساعة 4 صباحا صلي الفجر وفطر معنا ثم سافر الساعة 6 ونصف صباحا، ولم يتصل بنا بعدها.

*وكيف علمتم بنبأ استشهاده؟
يوم الثلاثاء 23 فبراير 2016  كان غريبا جدا، كنت أشعر بأن قلبي مخطوف منذ الصباح، وفيه حاجة ناقصاني مش عارفة إيه حتى اتصل أحد أصدقائه وأخبرني بالخبر الذي وقع علي كالصاعقة، ولكنه كان موصيني ألا أصرخ إذا حدث له شيء، ولكنه ضنايا قطعة مني مهما حاولت وصف شعوري وألمي لن أجد الكلمات المناسبة لذلك.
ولكن عزائي الوحيد أن ابني شهيد والشهداء أحياء عند ربهم، بالإضافة إلا أنه مات بطلا يدافع عن الأرض والأرض عند الفلاحين عرض، وأيضا مات جدع، لأنه فدى زملائه أثناء عملية تمشيط لمنطقته في سيناء بالدبابة هو وزملاؤه، حيث وجد أسلاك قنبلة نزل يفككها وأصر أن يفككها بنفسه، وعندما بدأ تفكيكها وجدها ثلاث قنابل، فك الأولي والثانية وحاول زملاؤه إبعاده، خصوصا وأنه عريس حديث لم يفرح بعد بشبابه، إلا أنه رفض تماما مشاركتهم، وأبعدهم وقام بفك العبوات الأولى والثانية إلا أن الثالثة أخفتها يد الغدر تحت الأرض فانفجرت فيه.

ولم يكن مر على زواجه سوى سبعة أشهر، وزوجته حامل فى الشهر السادس، وقد وضعت بعد استشهاده بنتا أسميناها حرة، كما أوصي قبل  استشهاده وكان هذا الاسم  لفتاة جميلة  من سيناء تمر أمامه بالشيخ زويد كل يوم اسمها حرة.
ابني مات بطل وكان يقول لأصدقائه إنه عارف لما يستشهد إن أمي هتبقي قوية لأنها تعرف منزلة الشهداء، وهي إنسانة طول عمرها صلبة تقف علي قدميها مثل الصخر ربتنا وكبرتنا علي الرجولة والشهامة، وعندما جاء زملاؤه وقالوا هذا الكلام ربط ربنا علي قلبي الصبر حتي ألقاه وكل جمعة اصحي بدري اذهب إلي المقابر وأجلس أمام قبره أقرأ القرآن وأتحدث معه وكأنه عايش أمامي وبيكلمني.
كان نفسه يعوضنا أنا وابوه وخواته عن حاجات كتير اتحرمنا منها، لكنه ملحقش  بس الحمد لله ربنا أكرمنا بحاجات كتير بسببه، عمري ما كنت أفكر أحلم  بيها فى يوم وهي زيارتي لبيت الله الحرام بالإضافة إلي أنه أعطاني شرفا كبيرا امشي بيه وارفع رأسي في البلد كلها، فأنا أم البطل أم الشهيد محمد العزب خيرة شباب القرية.

 

الحوار منقول بتصرف عن النسخة الورقية لـ"فيتو". 

الجريدة الرسمية
عاجل