قراء بالواسطة!
في أثناء الحقبة التي تولت الدكتورة هاجر سعد الدين خلالها مسؤولية شبكة القرآن الكريم، بين عامي (1998-2006)، اقترح القارئ الشيخ أحمد محمد عامر الذي عاش بين عامي 1927-2016 عليها إعادة اختبار قراء القرآن الكريم ممن تم اعتمادهم منذ تسعينيات القرن الماضي.
القارئ الراحل، رحمه اللهُ، باعتباره من القراء الأعلام المُتقنين وعاصر أكابر دولة التلاوة المنهارة، كان يسوؤه ويُحزنه تسللُ بعض الأصوات الشاذة والضعيفة والشائهة إلى الإذاعة بطرق وأساليب، ليس من بينها: إتقان التلاوة وحُسن الأداء!
ورغم أن الدكتورة هاجر سعد الدين، تكاد تكون أبرز مَن تولوا مسؤولية أقدم إذاعة دينية في العالم الإسلامي، فإنها آثرت السلامة، ولم تشأ أن تُقحم نفسها في عش الدبابير، ونأتْ جانبًا عن معركة لن تكون محسومة لصالحها بأي حال، وقد تعجَّل بإبعادها سريعًا عن منصبها الاستثنائي، فهي السيدة الوحيدة التي نالت شرف رئاسة شبكة القرآن الكريم.
إذن.. لماذا التذكيرُ بهذه الواقعة الآن، لا سيما أنَّ أحد طرفيها أحيل إلى التقاعد، والثاني انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل ست سنوات؟
الإجابة.. تتلخص في أنَّ لجنة الاختبار والاستماع الموحدة بالإذاعة المصرية اعتمدتْ مؤخرًا قارئًا رفضته من قبل؛ لأنه غير مُتقن ومُقلد، ولا يمتلك شخصية في الأداء والتلاوة؛ على خلفية ضغوط مُورست عليها، وليس لأنه أصبح أفضل، وهو أمر مثير للحزن والجدل؛ إذ كيف يمكن التهاون في أمر يخصُّ كتاب الله تعالى على هذا النحو المريب؟!
تحدثتُ في سلسلة مقالات متتالية من قبل عن قارئ شديد الضعف تسلل إلى الإذاعة عبر مسؤول رفيع سابق، وكان يتم الدفع به في المناسبات والأمسيات الدينية وقرآن الفجر، وكشفتُ معلومات مُحزنة، دفعتْ في النهاية مسؤولي الإذاعة إلى تجميد القارئ الطبيب، وبطبيعة الحال ما كان هذا ليحدث لولا أن الواسطة الكبيرة التي دفعت بهذا القارئ الضعيف، دون وجه حق إلى مُرتقى صعب، أحيلت إلى التقاعد وفقدتْ نفوذها إلى الأبد، وتفرغت لشغل المقاولات. ولولا ذلك لبقيَ القارئ الضعيف رغم أنوف الجميع.
دولة التلاوة
اللافتُ.. أنَّ رئيس الإذاعة في ذلك الوقت تبرأ من القارئ الطبيب، وقال: إنه لم يكن يملك وسيلة لرفض الفرمان العالي الذي أمره باعتماده دون اختبار من الأساس، بل زاد على ذلك بأنه لم يكن الوحيد الذي تم اعتماده خلال فوضى السنوات الأخيرة!
هذه الفوضى الغاشمة التى تسيطر على لجنة الاختبار والاستماع الموحدة، قادتنا في النهاية إلى جيلين أو ثلاثة أجيال من القراء المتشابهين صوتًا وأداءً وعجزًا وترديًا، ولا يكاد القراء المجيدون بينهم يُحصوَنَ عددًا، أو يتجاوزون أصابع اليد الواحدة!
دولة التلاوة.. التي صدَّرتْ للعالم بأسره أصواتًا خالدة، رغم رحيل أصحابها من عقود طويلة، تخلتْ طواعية عن الحفاظ على هذا الذوق الرفيع، وارتضت التنازل عنه؛ واستغنت عن القيود الثقيلة التي كانت تضعها لقبول واعتماد أي صوت جديد، وما أكثر القراء المُجيدين الذين ذاقوا الأمرَّين قبل اعتمادهم رسميًّا، ولعل أبرزهم: القارئ الشيخ محمد محمود الطبلاوي الذي عاش بين عامي (1934-2020)، الذي رفضته لجنة الاختبار تسع مرات، كما رفضت المبتهل الأشهر الشيخ نصر الدين طوبار (1920-1986) ست مرات، أرأيتم المفارقة البائسة!
نحن لا نتطلع إلى استنساخ القراء العظام: علي محمود ومحمد رفعت ومصطفى إسماعيل ومحمود خليل الحصري وعبد الباسط عبد الصمد ومحمد صديق المنشاوي ومحمود علي البنا وغيرهم من الأكابر المغاوير، فهذا ربما يكون من المستحيلات، ولكن نتطلع إلى أصوات مُتقنة وحناجرَ تمتلك الحد الأدنى من الجودة، وهذا لن يحدث إلا من خلال طريقين لا ثالث لهما..
أمَّا الأول: فهو أن يضطلع رئيس الهيئة الوطنية للإعلام حسين زين بمسؤوليته كاملة، ويتخذ قرارًا تاريخيًّا بتشكيل لجنة عُليا نزيهة لإعادة اختبار جميع الأصوات التي لم تثبت كفاءتها خلال السنوات الأخيرة، والتي شاب تمريرها الشبهات، بحيث تعيد اعتماد مَن يستحق، وتستبعد مَن لا يستحق، انحيازًا لكتاب الله وقرآنه المجيد الذي أمرنا بأن نتلوه حق تلاوته، والثاني: هو تكليف أعضاء اللجنة بالنزول إلى الأقاليم للبحث والتنقيب عن مواهب حقيقية، لا يمتلك أصحابها رفاهية الاعتماد بسجلات ماسبيرو عبر بساط الريح الذي يختصر المسافات ويكسر القيود!
وللتذكرة.. فإنَّ الإذاعة المصرية هي التي ذهبت بنفسها إلى أعماق الصعيد في أربعينيات القرن الماضي؛ لإقناع القارئ الشاب يومئذ الشيخ محمد صديق المنشاوي (1920-1969) باعتماده قارئًا رسميًّا، وليحقق خلال 16 عامًا فقط ما لم ولن تحققه الأجيال الجديدة من القراء الذين يحاربون من أجل اعتمادهم من دون وجه حق؛ بحثًا عن وجاهة اجتماعية، وضمانة لزيادة أجورهم والسفريات المدفوعة للخارج، فهل نتحرك لوقف هذه الفوضى، وننقذ ما تبقى من دولة التلاوة؟!