رئيس التحرير
عصام كامل

«مدنية مصر» تغير ملامح «الشرق الأوسط».. الجيش لم يشن انقلابًا دمويًا.. وصف عزل مرسى بالانقلاب «جهل».. غضب إيرانى من سقوط الحكم الدينى بالقاهرة.. مساعدات الخليج «قزمت

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

ريثما يتردد الرئيس الأمريكي باراك أوباما في صوغ تصوّره للحدث المصري ويمضغ أعضاء في الكونجرس الأمريكي ما إذا حدث «انقلاب» في مصر يضطره إلى قطع معوناته إليها، تحركت دول الخليج العربية بتعهدات مالية بقدر 12 مليار دولار إلى مصر قزّمت عصا التهديد وجزرة الترغيب الأمريكية بقدر 250 مليون دولار سنويًا كمساعدات اقتصادية و1.5 مليار دولار كمساعدات عسكرية ذات علاقة باتفاقية «كامب ديفيد» بين مصر وإسرائيل.


حسنًا فعلت الدول الخليجية بإقدامها على إنقاذ اقتصاد مصر وحمايتها من الانهيار، وعسى أن تدرك دول مجلس التعاون الخليجي أن رهان الذين يودّون تقزيمها في المقابل هو على انحسار تسليم الأموال لأن لهذه الدول سيرة وصيت التعهد بلا تنفيذ للالتزامات. إدارة أوباما تركض وراء الحدث بلا بوصلة ولقد نجحت في جعل نفسها موضع استقطاب بين «الإخوان» التي هرولت إلى تبني صعودهم إلى السلطة وبين الحداثيين والمدنيين الذين تتمهل في توصيف انتفاضتهم نحو الحكم المدني في مصر.

الأوربيون أيضًا يتأرجحون على تعريف ما هو استكمال لثورة المصريين على احتكار السلطة وفرض الدين على الدولة، تارة مختبئين وراء «شرعية الحكومة المنتخبة» وتارة مجاهرين بما تتمادى شبكة الـ «بي بي سي»، بوصفه بلهجة بريطانية بـ «كوو داي تها» أي «انقلاب» بلا أي لجوء إلى قاموس تعريف الكلمة وواقع الحدث المصري.

روسيا من جهتها مرتاحة لأي هبوط للإسلام السياسي السنّي من السلطة فيما حليفها الإيراني يتبنى موقفًا مغايرًا، كمبدأ أساسي، وهو صعود الإسلام السياسي إلى السلطة - تمامًا كما حدث في إيران قبل أكثر من 34 سنة. الغرب مطالب بالكف عن تعطيل مسيرة الحكم المدني في المنطقة العربية، ومصر بالذات. من واشنطن إلى لندن، هرول الغرب إلى تشجيع صعود «الإخوان» إلى الحكم في مصر قبل سنة، وهو اليوم يتباطأ في دعم حكم الدولة المدنية في مصر. هذا خطأ كبير ليس فقط في حق شعوب المنطقة العربية وإنما أيضًا أنه خطأ يؤذي المصلحة الاستراتيجية الغربية في المنطقة العربية.

الجيش في مصر لم يستول على الحكم، ولم يشن انقلابًا دمويًا على حكم مدني، بل أنه أوضح أنه يسلط خريطة طريق لتسليم السلطة إلى المدنيين عبر انتخابات شرعية ودستور مدني وديمقراطية جدية.

هنا تجدر الإشارة إلى أن «الانقلاب العسكري هو قلب مجموعة صغيرة بالعنف للحكومة القائمة، والشرط الوحيد للانقلاب هو السيطرة على القوات المسلحة والشرطة والعناصر العسكرية الأخرى، كلها أو بعضها. بعكس الثورة التي يقوم بها عادة أعداد كبيرة من الناس يعملون لتغيير أساسي اجتماعي واقتصادي وسياسي، الانقلاب هو تغيير في السلطة من فوق يؤدي إلى تغيير كبار المسئولين في مواقع الحكم».

ما حدث في مصر يتنافى حرفيًا وتفصيلًا مع تعريف «الانقلاب»، على رغم ذلك يمضي المراسلون الغربيون بالتشكيك بأن ما حدث لم يكن أبدًا «كو دهِ تا». فلقد خرج 22 مليون مصري إلى الشارع ليطالب بالإصلاح للثورة التي قاموا بها قبل سنتين وصادرها «الإخوان». ثم أساءوا استخدام الحكم للاستيلاء على جميع مفاصل السلطات وفشلوا في التجاوب مع الشعب المصري. 

مراكز البحوث والدراسات الأمريكية والبريطانية التي تزعم أن لديها خبراء في مسألة الإسلاميين والإسلام السياسي وقعت في غرام صعود «الإخوان المسلمين» إلى السلطة لدرجة أعمتها عن الواقعية وأبعدتها عن الرادار الشعبي في المنطقة العربية.

إصرار هؤلاء على توصيف الحدث المصري بأنه «انقلاب» ليس خاليًا إما من الجهل أو من الرغبة بالإساءة إلى مصر البلد علمًا بأن الكونجرس الأمريكي مضطر بحكم القانون أن يوقف أي دعم لمصر إذا كان ما حدث فيها حقًا «انقلاب».

الذين يتحدثون بلغة وقف المعونات الأمريكية إلى مصر يؤذون كبار المصريين وكذلك العرب عامة ليس لأن المبالغ ضئيلة ولا تستحق كل هذا التباهي والكبرياء، بل لأن التهديد يأتي ضد ثورة شعبية تصحيحية وإصلاحية. 

الرئيس أوباما تجنب في أول رد فعل له استخدام تعبير «انقلاب» وتجنب منذ ذلك الدعوة لإعادة الرئيس المعزول محمد مرسي إلى كرسي الرئاسة. 
شدد الرئيس أوباما على أولوية الدستور والانتخابات وأعطى فرصة للجيش للتصرف بمسئولية والوفاء بتعهداته.

لكن الناطق باسمه قال مؤخرًا: إن الإدارة تنظر فيما إذا كان ما حدث هو «انقلاب» مما أعاد الانطباع السائد بأن الرئيس الأمريكي دائمًا يتردد ويركض وراء الحدث. الآن، ليس هذا وقت التردد إزاء ما يحدث في مصر. يجب على الرئيس الأمريكي أن يبلغ الجيش المصري معنى أن يثق بتعهداته بأنه لن يتحول إلى حاكم عسكري، ولن يمارس السلطة، وإنه عازم على تسليم جميع مفاصل الحكم إلى المدنيين وفق برنامج زمني سريع.

الرئيس الأمريكي مُطالب أيضًا بإيضاح دعمه لحكم الدولة المدنية المصرية بعدما اختار الشعب فصل الدين عن الدولة، لا سيما أن الانطباع لدى الكثيرين في مصر والمنطقة العربية هو أن باراك أوباما يدعم صعود الإسلاميين إلى السلطة، وبالذات «الإخوان»، ويجدر بالرئيس الأمريكي أن ينشط ديبلوماسية أمريكية - أوربية دعمًا للحكم المدني في مصر. فالديبلوماسية الأمريكية في عهد أوباما مكلفة للمنطقة العربية نتيجة ترددها نحو سوريا لسنتين والآن نحو مصر، لأسباب مختلفة.

القوات المسلحة المصرية يجب أن تلتزم وتنفذ ما تعهدت به وأن تراعي أيضًا قواعد الاشتباك حتى وإن كانت تواجه الاستفزاز والتحريض. فالإفراط في استخدام القوة العسكرية ضد «الإخوان» ليس في مصلحة مصر على رغم أن الطرف الذي لجأ إلى العنف هو «الإخوان»، والذي يقوم بالتحريض هو مرشد «الإخوان» محمد بديع الذي يدعو إلى الاستشهاد من أجل محمد مرسي.

ما شاهده الشعب المصري بعد مقتل 51 شخصًا في المواجهة بين الجيش و«الإخوان» أدى إلى تراجع في أي تعاطف شعبي مع «الإخوان» بعدما شرح العقيد الشاب أحمد على ما حدث وكشف استخدام صورة لأطفال سوريا المغدورين زعم «الإخوان» أنهم أطفال مصر الذين قتلتهم القوات المصرية. 

العقيد أحمد على أوضح أيضًا أن «الإخوان» كانوا يستدرجون عمدًا الجيش المصري ولم تكن التظاهرات مدنية وإنما كان فيها مسلحون مكلفّون بالاستفزاز.

الجيش يتلكأ بالحزم لأنه يحرص على عدم فلتان الأمور في اتجاه حرب أهلية، ولذلك إنه يتخذ خطوات لطمأنة «الإخوان» إنهم مرحب بهم في العملية الانتقالية. 

المشكلة أن «الإخوان» غاضبون لا يريدون الاعتراف بالفشل أو الهزيمة. فلقد خسروا فرصة تاريخية وهم في حال نكران لما حدث. إنهم يزعمون أنهم الوكلاء على «الشرعية» ويتوسلون إلى الغرب التدخل لإنقاذهم باسم صعود رئيسهم إلى السلطة عبر انتخابات. يتناسون أن رئيسهم قبض على جميع مفاصل السلطة وأن من حق الشعب عزل رئيس شاء حجب الثقة عنه بسبب خيانته للعملية الديمقراطية.

النصائح تتدفق على «الإخوان» منها ما يدعوه إلى الأخذ بالنموذج التركي، أي الصبر ثم الانقلاب، ومنها ما يدعوه إلى تجنب النموذج الجزائري، أي الدخول في معركة مسلحة مع الجيش لأنها انتحار. أولى المحطات هى في اعتراف «الإخوان المسلمين» أن مصر رفضت أخونة الدولة وأخونة الحكم، وأن الفصل الثاني من الثورة الشعبية أتى ضد الثيوقراطية وضد احتكار السلطة والاستفراد بها.

ثاني المحطات هى الكف عن التصوّر بأن ثمانية عقود من معركة الإخوان من أجل الاستحواذ على السلطة تعني تلقائيًا حق الإخوان بالاستحواذ والاستفراد بالسلطة. لهم الحق في المشاركة ولا حق لهم بالإقصاء. هم الذين أقصوا الآخرين. اليوم، إنهم يرفضون دعوة رئيس الوزراء الموقت أن يكون لهم وزيران في الحكومة ويضربون بعرض الحائط تعهدات القيادات المدنية بأن لا إقصاء لهم، ولا محاكمات.

لقد راهن «الإخوان» على وعود قطرية وتركية بأن الغرب سيتبناهم ويدعمهم مهما كان. الشعب شاء أن يتحدى هذه الوعود وأن يراهن على مشيئته وليس على مشيئة الغرب أو سواه. استعد «الإخوان» لإرضاء الغرب كي يهيمنوا على السلطة وراهنوا على «حليف» جديد اعتبروه سابقًا «عدوًا». حان اليوم الموعد مع مواجهة الواقع بتواضع وعقلانية لإعادة النظر في الأخطاء والقبول بالشراكة بدلًا من الاستفراد.

الجيش يحاول استقطاب «الإخوان» وحزب «النور» السلفي في خطوات بعضها مسيء للعملية التشاورية التي تعهد إجراءها مع القيادات المدنية. لذلك أسرع إلى إعلان دستوري مؤقت نص على أن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيس للتشريع، بلا أخذ رأي القيادات المدنية المعارضة لإعادة إحياء المادة 219 التي أقحمها «الإخوان» على الدستور وعرّفت الشريعة الإسلامية بما يجعلها الأساس للقوانين.

المدنيون يريدون أن يكون لمنصب رئيس الوزراء صلاحيات أكبر من صلاحيات الرئيس. الجيش لم يلب ذلك حتى الآن وهو يجعل من رئيس الوزراء منصبًا مجردًا من الصلاحيات. الجيش يتحدث عن انتخابات برلمانية أولًا، ثم الانتخابات الرئاسية. 

المدنيون يريدون انتخابات رئاسية أولًا لإعطاء الوقت للتنظيم للانتخابات البرلمانية كي لا تطول الفترة الانتقالية ووكالة الجيش على البلاد. وبالتأكيد، أن الأولوية للدستور المدني الذي تريده القيادات المدنية ضمانًا للديمقراطية.

الأولوية أيضًا للاقتصاد، ولذلك، إن تعهدات المملكة العربية السعودية وودولة الإمارات العربية بمبلغ 8 مليارات، والكويت بمبلغ 4 مليارات إنما هى حيوية لإنقاذ مصر. لكن مصر في حاجة إلى مؤسسات وخطة تنمية. فالخزينة المصرية فارغة ومن دون الإنفاق الحكيم لهذه الأموال، إن مصر مزعزعة. على الجيش أن يحسن السيطرة، وعلى رئيس الوزراء أن يجند الشباب في حكومته وأن تتسم الحكومة بالحيوية والديناميكية كي لا تطول المرحلة الانتقالية. الجيش يقود الآن، إنما من الضروري أن يتجنب تولي الحكم بأي شكل كان.

المرحلة الآتية مخيفة إذا قرر «الإخوان» أن يجعلوا منها مرحلة عنف وانتقام وتخريب وتفجير علاجًا لليأس. إنها مرحلة تتطلب إجراءات داخلية حكيمة، ومالًا عربيًا سخيًا، ودعمًا دوليًا لمصر الدولة المدنية.

إنها لحظة تاريخية لمصر وللمنطقة العربية. فالحكم الديني في إيران زاد على ثلاثة عقود ومهما عارضت إيران الشيعية «الإخوان» السنّة، إن خصمها الكبير هو الحكم المدني الليبرالي. لذلك إنها ليست مرتاحة لهزيمة «الإخوان» وإخراجهم من السلطة. 

تركيا أيضًا اليوم ذات حكم ديني عبر حزب «العدالة والتنمية» الذي يقوده رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. وتركيا أيضًا غاضبة جدًا من إسقاط حزب «الحرية والعدالة» و«الإخوان» في مصر. 

إسرائيل أيضًا حكمها ديني وهى تسعى وراء إقرار العالم بـ «الدولة اليهودية».

الواحة للحكم المدني في الشرق الأوسط هى مصر. حينذاك، وعندما تستقر مصر على حكم مدني تتغير معالم الشرق الأوسط نحو الأفضل للمنطقة العربية ولمنطقة الشرق الأوسط على السواء.
الجريدة الرسمية