ثورة عظيمة .. ومخاوف أعظم
ثورة 30 يونيو حالة ستُدرس في التاريخ لشعب ينتفض، شعب خرج قرابة نصفه في تظاهرات سلمية حضارية وصفت بأنها الأكثر عددا في التاريخ الحديث، للاعتراض على رئيس «فاشل» يريد أن يكون «دكتاتور».. شعب أسقط ثلاثة رؤساء في أقل من 30 شهرا لأنهم أسالوا دماء عدد منهم.. شعب اتفق على أن يتقابل في مكان معين ويوم وساعة محددة، وقد كان، وتقابل 33 مليونا في الوقت والمكان والهدف.. دون أن ينتظر أحد منهم ليتأكد من سلمية التظاهرات، ودون أن ينتظر أحد ليرى رد فعل جهاز الشرطة وهل ستؤيد النظام أم ستنحاز للشعب، وهل ستحدث اشتباكات مفتعلة لاختراق المتظاهرين أم ستمر الأحداث دون مشاهد دموية ثم على إثر ذلك يقرر، لم يحدث أي شيء من هذا القبيل، ولهذا استحق احترام واهتمام العالم.. عظمة ثورة 30 يونيو لم تكن فقط أنها الأكبر في عدد المتظاهرين وسلميتهم وتوحد كل هذه الأعداد على هدف واحد دون قائد، ولكن تلك الثورة كانت عظيمة في مدى الوعي لشعب يتهم نفسه، أكثر من غيره، بالجهل أكثر من غيره، شعب يتهم نفسه بالكسل أكثر مما يتهمه الآخرون، ويتهم نفسه بقبول الظلم أكثر مما يتهمه جلادوه، وأثبت لنفسه قبل أن يثبت للعالم مدى وعيه، وظهر ذلك في:
الوعي الديني: وظهر ذلك حينما أدرك المصري في وقت قصير الفارق بين حملة الدين وبين المتاجرين به، بين صاحب الفضيلة وبين من يدّعيها، ومن يستخدمون الدين طمعا في الدنيا.. ولهذا فوسط شعب يتم وصفه بأنه متدين يسهل خداعه باسم الدين، نجده لا تخدعه كل هذه الألاعيب ويكشفهم.
الوعي الإعلامي: وهذا هو بيت القصيد فالإعلام قام بدور ولا أروع لنجاح تلك الثورة ولكشف جماعة الإخوان وتيارات الإسلام السياسي، وقد أصلح الإعلام المصري كل أخطائه وخطاياه في عهد مبارك وتفاعل مع هموم المواطن ضد الحاكم، ومع المقهور ضد القاهر، ومع الضعيف ضد القوي.. وللإعلاميين مثل لميس الحديدي وإبراهيم عيسى وباسم يوسف، ولرجال الأعمال أمثال محمد الأمين صاحب قناة «سي بي سي» وطارق عمار صاحب قناة «أون تي في» كل هؤلاء لهم دين كبير على المصريين، حينما وقفوا وقفة شجاعة لأجل حرية مجتمع بأكمله، ضد نظام فاشي مجرم يملك نائبا عاما «خصوصي» يمكن أن يلقي بهم في السجون.
وعي المؤسسات الدينية: فالكنيسة تجاوزت نصائح التهدئة ورفض التظاهرات العصيان المدني إلى رفض الوصاية على الأقباط وأكدت أن دورها روحي فقط وليس لها أي سلطان على أبنائها خارج أسوارها.. كذلك الأزهر الذي قام بدور مهم في دحض خطابات التكفير التي أطلقها شيوخ الإخوان والموالون لهم بشأن الخروج على الحاكم أو تكفير الخروج في التظاهرات .
وعي القوات المسلحة: والتي استفادت جيدا من السبعة عشر شهرا، حين حكمت المرحلة المؤقتة بعد سقوط مبارك، وأصلح السيسي ما فعله طنطاوي، حين انحاز للشعب ضد الرئيس، وانحاز للداخل المصري وليس للخارج الأمريكي، كذلك حينما فوّت الفرصة على المتربصين بتأكيد أن القوات المسلحة لم ولن تكون طرفا في المعادلة السياسية، وأن دورها سيكون مثل أي دور للأجهزة العسكرية في الدول الديمقراطية.
لكن على قدر عظمة تلك الثورة وكل المشاركين بها من شعب وجيش وشرطة وقضاء وأزهر وكنيسة، وعلى قدر اللحظات السعيدة التي عشناها في أعقاب بيان السيسي ونحن نرى مصر الجديدة المدنية تقترب، على قدر عظم المخاوف مما نراه منذ ذلك البيان وحتى الآن من أداء للسلطة المؤقتة.. وإن كنا لا نستطيع الحكم بعد لكن تبقى هناك مخاوف حقيقية جراء التخبط الذي نراه على مدى الأسبوع الأول لرئاسة المستشار «عدلي منصور» والتي تعكس قصورا في فهم الثورة وأهدافها وجدواها.. فمواد الإعلان الدستوري التي تمت إضافتها والخاصة بالدولة الدينية والمواد التي تم حذفها والخاصة بحظر الأحزاب الدينية جاءت لمغازلة حزب «النور» السلفي وهو الحزب الديني الوحيد على طاولة المفاوضات، كذلك التراجع عن تعيين البرادعي رئيسا للوزراء وتعيين حازم الببلاوي الذي قارب الثمانين من عمره جاء أيضا إرضاءً لحزب النور السلفي.. ناهيك عن موقف السلطة المؤقتة من مذبحة الأقباط في قرية «الضبعية» بمحافظة الأقصر حين تم قتل أربعة أقباط أحدهم تم قتله عن طريق ربطه بأحجار وإلقائه في النيل، بالإضافة إلى حرق منازل ومحال يملكها أقباط بل وحصارهم داخل كنيسة القرية دون أن يتحرك ساكن لأحد، تماما مثلما كان يفعل المخلوعان مبارك ومرسي.. وأخيرا الرد على جماعة تدعو للعنف ضد المصريين، وتتحدث عن اغتيالات لقيادات عسكرية وعن الاستعانة بإرهابيين من الخارج ضد معارضيهم في الداخل، جماعة يعترف قادتها على الملأ أنهم خلف عمليات قتل في سيناء ومطروح والصعيد، جماعة ثار عليها المصريون وأسقطوها، لنجد السلطة الحالية تتحدث عنهم بأنهم فصيل وطني يجب احتواؤه.
نشعر بالقلق حينما نرى نفس مشهد 12 فبراير، فهناك حزب ديني له خطة لاتباعه فقط يملي شروطه على الآخرين مقابل سلطة مؤقتة ضعيفة مرتعشة خائفة تلبي طلباته.. هناك ثورة يقوم بها «شباب» ليقضي عليها «عواجيز» لا يعرفون فكر الثورة على الإطلاق.
المخاوف تبدأ.. نرى ثورة يقوم بها شجعان ويحصدها الانتهازيون.. نريد ثورة تضيء لنا الطريق لا ثورة تحرقنا.. لو لم نستفد من أخطاء الماضي، لو كرر «عدلي» ما فعله «طنطاوي» وكرر «النور» ما فعله «الإخوان».. فإلى اللقاء مع معاناة جديدة وموجة ثالثة من الثورة .