الارتقاء بالبيئة الحضرية للمدينة
باستثناء العاصمة الإدارية الجديدة، لحداثتها وقدرتها المنظومية الفائقة، ارتبط الكشك الخشبي في شوارع المدينة، ذو النافذة المفتوحة من جانب واحد، في ذاكرة المصريين، ببوابة سماوية يتكسب منها فئات من الغلابة قوتهم، وتعتبرهم أجهزة الأمن من مصادر مكافحة جرائم الإرهاب والبلطجة والطريق العام، بحكم انخراطهم مع تكتل الشارع. ومع تغير الأحوال الاقتصادية، صار الكشك مصدرًا رئيسيًا لخزانة المحافظة (القاهرة)، برسوم سنوية متزايدة لرواج مشروعاتها.
وجاءت به مبادرة رئاسية لخفض نسبة البطالة بين الشباب في بعض المحافظات الريفية وطال الكشك التطوير بالهياكل الخفيفة، بين الثابت منه والمتحرك، ولم تفلت منه شوارع مدينة القاهرة الجديدة، حيث يشتكي السكان من سلبيات بيئية وسلوكيات تتناقض مع مناطقهم المخططة من الجيل الثالث، ذات الأسواق المركزية التي تجب هذه الأكشاك الدخيلة.
الكشك فكرة عثمانية، وموطنها الأصلي الصين، استخدم للموسيقى في القصور والميادين العامة، وانتقلت من الشرق إلى فرنسا وألمانيا وإسبانيا وغيرها، ولكن لظروف تجارية تحولت لبيع الجرائد وتلبية الاحتياجات السريعة لأهل المدينة في الغرب. وقد شهدت حديقة الأزبكية بالقاهرة "كشك الموسيقي" الشهير، مركز الفرقة العسكرية المصرية (1867)، وفرق إيطالية وفرنسية مختارة، لمواكبة العصر ونشر البهجة بين أهل مصر المحروسة. وتشهد شوارع المدينة تغيرات في أنشطة الأكشاك حسب تغير المركب الاقتصادي الاجتماعي للسكان، والأمثلة كثيرة لذلك في الآونة الأخيرة.
فوضى الأكشاك
وتحرص محافظة القاهرة على بقاء الأكشاك الجديدة بمواصفاتها، للمعروضات والثلاجات، وعدم التعدي على المساحة العامة خارج الكشك، والمخالف منها يتعرض للجزاءات الإدارية. وهي تدر على خزانة المحافظة ملايين الجنيهات، بمتوسط عشرة الآلف جنيهًا، وتزيد، للكشك الواحد (2020). وقد ساهمت مرحلة الانفتاح الاقتصادي، وتلاشي الكشك القديم، مع زيادة الطلب على الجديد منه، في تفشي الفوضى بشوارع المدينة، وانتشار التعديات بالامتداد الأفقي والرأسي، لتخزين كميات كبيرة من عبوات مياه الشرب، والمياه الغازية والمأكولات السريعة، لكسب فروق أسعار الجملة، دون حماية تذكر من تقلبات الطقس ودرجة الحرارة، التي تفسد المحتوى الغذائي، والتحايل على توفير مخازن بشروط الصحة العامة والبيئة فتخالف شوارعنا بذلك أسس ومعايير التنسيق الحضاري، مقابل ترسيخ مظاهر التلوث البصري.
ولا تخلو المحلات أسفل العقارات السكنية من التكدس السلعي وتخريب الذوق العام، والتعديات العلنية بالأسواق الخدمية (وسط الكتلة السكنية) على الحدائق وشوارع الخدمة (أملاك دولة)، واستغلال السطح في التخزين العشوائي للمخلفات. لن نتحدث عن مواصفة الرصيف وخلوه من تسهيلات الحركة لذوي الاحتياجات الخاصة، ولا الاستخدامات المستجدة أسفل الكباري، دون مراعاة سلامة روادها، ومعها أكشاك توزيع اللحوم والسلع الغذائية وغيرها، المخالفة كذلك.
بل طرحت أركان حديقة مكتبة الطفل (ممشى ومتنفس سكان مدينة نصر ومحيطها) للاستثمار في أكشاك متعددة الأغراض التجارية. ناهيك عن مواقف مركبات السرفيس العشوائية، والأسواق العشوائية التي تنمو من مجرد فرشة، وغير ذلك ويؤكد المشهد الراهن التربح من كل ذلك على حساب القيم البصرية والبيئية للمدينة.
نوقشت أسباب هذه الفوضى المفرطة بالمدينة في مجلس النواب (2019)، والمطالبة بتشديد الرقابة من الوحدات المحلية وعدم التقاعس عن ذلك، مع تكامل القوانين والتشريعات الناظمة لها، والتعديلات على القانون رقم (140) لسنة (1956) ولائحته التنفيذية.
وانتهت لجنة الأسس والمعايير البيئية بالجهاز القومي للتنسيق الحضاري من إعداد الدليل الإرشادي لضبط الإيقاع العمراني (2016)، بغرض تحقيق حالة من التوافق البيئي، تخدم وتصون الصورة البصرية والجمالية، وتقلل من الآثار السلبية وتؤكد شروط العمران الأخضر المستديم. ولدخول جهات أخرى مع المحليات في إدارة هذه الإشغالات، على الحكومة إنشاء جهاز رقابي مستقل لتنظيم شوارع المدينة وضبط موقفها التخطيطي، والفصل في المخالفات والجزاءات الإدارية، ومكافحة الفساد. ومن ثم إصدار قانون موحد لذلك في داخل المدينة أو خارجها، من أجل عودة التناغم الحضري للمدينة والارتقاء بالبيئة وجودة الحياة فيها.
drhhashem@gmail.com