"ن الفتنة" لمحمود عبد الدايم .. أبطال هامشيون قادرون على البوح
بالطبع المحبة تغفر.. لذلك فهذا اعتراف مني في البداية أنها قراءة مُغلّفة بالحب، متغاضية عن الهفوات، مكتفية بإبداع كاتب يعرف جيدًا ماذا يريد قوله، لكن عزائي للقرّاء أننا كعشّاق للكتابة، لا نقبل من يجور عليها.. حتى لو صديق.. نلوم أنفسنا مرارًا بسبب كلمة لم يلحظها قارىء أصلًا، لذلك- ورغم الحب- فتلك قراءة لم تبخس الكتابة حقها.
من يقرأ المجموعة القصصية "ن الفتنة" للكاتب والقاص محمود عبد الدايم سيجد ما يريده.. هذا وعد، سواء بلاغة العبارة.. دقة التوصيف.. اختصار الكلمات غير المُخل بالمعنى، ومن أراد أحلاما ضائعة.. لحظات انكسار..وهم.. خداع.. حديث مع النفس.. لعن الذات، لن يبحث كثيرًا، بل ومن تمنى دخول البارات ومنعه خجله.. أخلاقه.. دينه، سيصحبه الكاتب في نزهة حلال لأبواب الحانات كاشفًا له عما يدور فيها دون كذب أو تجميل.
لكن من يريد متعة أكثر، أو لأني هكذا، عليه أن يستدعي المجموعة السابقة لـ"عبد الدايم" والتي عنوّنها بـ"خمورجي يروي التاريخ" وحذف "علنًا"، ليعرف هل تنحّى عن مساره كما زعم لي– على الأقل- أم أنه مازال يدور في نفس الفلك الذي لا أرى ضرورة أن يخرج عنه، في زمن يرتدي فيه فنانون زي الواعظين ويطالبنا كتّاب بـ"الأدب النظيف"، وأقول لنفسي لو استجاب الجميع وكتبوا عن الأماكن "المُطهرة" فمن سيكشف لنا عما يدور في الأماكن "البذيئة"، علمًا بأن عدم الكتابة لن يمنع أحد من احتضان كأسه ليلًا.
لم يتخل عبد الدايم في مجموعته الثانية عن خطه السردي، مازال أبطاله سكارى بالفطرة، يسكنون البارات.. يتأكد ذلك مع أول صفحة للمجموعة.. أول قصة.. خاتم ميت. هكذا اختار عنوانها، كأنه حتى وإن قرر الابتعاد يحتاج لمن يضبط بوصلته قليلًا، ولا ضير في ذلك، بل ضرورة، كما سكن إحسان عبد القدوس غرف النوم وتقوقع نجيب محفوظ في قاهرته القديمة وطاف إبراهيم نصر الله في شوارع القدس ولعن غسان كنفاني جدران حيفا ولم يتركها، لكل منّا هوية يجب أن يتمسك بها.. على الأقل في لحظات الانتقال.
لن أسرد تفاصيل قصة.. تلك كتابة مُملة يكرهها الكاتب والقارئ معًا، لكن مازال أبطال عبد الدايم يجسدّون نسخا مختلفة لوجهِ واحد..ربما تكرار لذاته، فهم دومًا قادرون على الجلوس في البارات ودفع الثمن مضاعفة، يمكنهم استقلال المترو، تلميع الحذاء، ركوب الميكروباص، أبطاله من الهامشيين الذين ليس لهم قصة يمكن من خلالها أن يبوحوا، وهذا إبداعه بالتحديد، أنه جعل هؤلاء يتحدثون، فلا هم فقراء يتسوّلون أو يشتكون مًر الحاجة، أو أصحاب قصص نجاح عصامية بدأت من الصفر ووصلت حد السماء.
هم من يُولدوا مستورين ويظلّون هكذا بين بين، يحلمون بتزويج الفتيات والاطمئنان على الأولاد ورحلة عمرة تمحي ما سبق من ذنوب، اسأل هل قصد ذلك أم أنه ينتمي لتلك الطبقة فلا يريد أن يغادرها ابدًا، شخصيًا تمنيت رؤية قصة فيها بطل.. ضحية.. من سار ضد التيار، لكن أبطال عبد الدايم لا يتحدون التيار.. يسايرونه.. يشاكسونه.. يقتنصون لحظات انتصارهم خلسة ويُخرجون لسانهم بعد الهروب.
هذا يفسّر لي ولك أيها القارئ، قلة الحوارات في قصص الكاتب.. ربما انعدامها، فأصحاب الطبقة المتوسطة.. الهامشيون المشغولون بالحياة اليومية.. اللاهثون وراء لقمة العيش حتى لا يسقطوا من الحسابات.. غير المالكين لأوقات الـ"الأوفر ثينكينج"، يتحدثون دومًا لأنفسهم فقط، يعاتبونها.. يراجعونها، حتى يوم أن تعجبهم فتاة لن يتقرّبوا إليها، كما فعل عبد الدايم حين طاردته نفسه في قصة "انعكاس على زجاج النافذة"، ترفع عن إدارة نقاش.. همس لنفسه بضع كلمات وغادر.. لا أخذ وعطاء لديه.. ولا لزوم لنقطتي القول.
وتبقى الصفة الأخيرة لأبطال عبد الدايم الرضا.. حتى عن الأحوال الرديئة.. الهزائم الشخصية.. خيبات الأمل المتتالية.. يتصالحون معها ويكتمون غضبهم بالداخل، يتأملون العالم من حولهم كأنهم ليسوا جزءا منه، ويتجرَعون كأس الهزيمة بـ"مَزة" تُخفف مرارة الأيام، هم على الهامش.. الهامش تمامًا.
شخصيًا لدي شغف بقصة "المعاش".. ربما رأيتها تصلح لأكثر من ذلك، رواية.. تفصيل أكثر لمن يريد عمل بعد سن التقاعد.. اختياره للبديل وسكن أجساد الآخرين، قصة استدعت لدي نائب عزرائيل ليوسف السباعي وهو يختار ضحاياه، لكن عبد الدايم اختار أيضًا الهامشيين غير آبه بميزان الذنوب والحسنات والفضيلة والشرف.
وأخيرًا تمنيّت أن أرى متمردًا في قصصه البالغة تسعة عشر لأني أدرك أن أبطاله وقت ثورتهم سيكسرون زجاجات البارات ويحطّمون الأتوبيسات التي تزحم الطريق ويصفعون امرأة رفضت تقبيل عاشقها علنًا.
وأخيرًا مرة أخرى.. وهذه للكاتب فقط.. فتلك كتابة صيغت بعد "الثالثة" دون أي فواصل، تعرف قصدي، ولعلك تُدرك الآن مدى صدقها بعيدًا عن المجاملة، أما القرّاء فمن يملك شغف التفاصيل الصغيرة عليه قراءة "عبد الدايم"