رئيس التحرير
عصام كامل

وثائق بريطانية تنشر لأول مرة: المؤامرات الإثيوبية على مصر بدأت منذ عهد هيلا سلاسي

هيلا سلاسي مع عبد
هيلا سلاسي مع عبد الناصر

كشفت وثائق بريطانية أن المؤامرات الإثيوبية على مصر، ليست وليدة الأمس القريب، بل يمكن القول إنها بدأت منذ عهد الإمبراطور هيلا سلاسي.

 وذكرت الوثائق أن إمبراطور إثيوبيا الراحل هيلا سيلاسي سعى لمنع التقارب بين مصر والسودان بعد انتهاء الاحتلال البريطاني للبلدين، حسب "بي بي سي".

ووفق الوثائق، التي تنشر لأول مرة، فإن هيلا سيلاسي، آخر أباطرة إثيوبيا، نصح البريطانيين بالعدول عن خطة الجلاء عن مصر عام 1954، محذرًا من أن الانسحاب البريطاني "سوف يترك فراغا له عواقبه".

الإمبراطور في المملكة المتحدة

واعتبرت وزارة الخارجية البريطانية أن موقف الإمبراطور يؤكد مخاوفها من صعوبة المساعي المبذولة، حينئذ، لتسوية الخلافات الحادة بين إثيوبيا من ناحية والسودان ومصر من ناحية أخرى بشأن مياه النيل.

وجاء تحذير الإمبراطور الإثيوبي خلال زيارة رسمية للمملكة المتحدة في شهر أكتوبر عام 1954، وقبل أيام من توقيع مصر وبريطانيا رسميا ما عرف تاريخيا باتفاقية الجلاء. 

وبمقتضى الاتفاقية الموقعة في 19 أكتوبر عام 1954، خرج آخر جندي بريطاني في يوم 18 يونيو عام 1956 من القاعدة الإنجليزية في قناة السويس بعد احتلال لمصر دام حوالى 73 عاما.

يستقبل عبد الناصر في أديس أبابا

واستُقبل هيلا سيلاسي خلال زيارته بحفاوة بالغة تعكس عمق العلاقات بين إثيوبيا والمملكة المتحدة بعد مساعدة البريطانيين للإثيوبيين في التخلص من الاحتلال الإيطالي. 

وفي عشاء على هامش أحد اللقاءات خلال الزيارة، دار نقاش بين الضيف الإثيوبي وسير إيفون كيركباتريك، الوكيل الدائم لوزارة الخارجية البريطانية، عن سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط وإفريقيا.

ونقل سير إيفون، في تقرير سري تضمن أهم ما جاء في النقاش، عن هيلا سيلاسي قوله إن "عليه التزاما بأن يقول إنه لا يمكنه أن يوافق على سياستنا تجاه مصر". 

وبرر الإمبراطور موقفه الرافض لجلاء الإنجليز عن مصر قائلا: إن "الحكومة المصرية الحالية (بقيادة جمال عبد الناصر في ذلك الوقت) ليست مستقرة على الإطلاق".  

وحذر من أنه بانسحاب بريطانيا في هذه الظروف، "سوف يكون هناك فراغ مرعب".

ورد الدبلوماسي البريطاني، وفق الوثيقة نفسها، بطمأنة هيلا سيلاسي بأن قرار بلاده الجلاء عن مصر "مدروس جيدا" وقائم على رؤية تقول إن "الإبقاء على قواعد عسكرية على النمط التقليدي أصبح أمرا من الماضي ومن الأفضل أن ننفق أموالنا في مكان آخر".

النفوذ المصري في السودان

غير أن النقاش الذي طال بين هيلا سيلاسي والدبلوماسي البريطاني بيّن أن الإمبراطور كان يتحسب للنفوذ المصري في السودان المجاور لبلاده.

وقال سير إيفون: إن النقاش "كشف عن حقيقة ما كان في ذهنه، وهو احتمال سيطرة المصريين على السودان".

قبل زيارة إمبراطور إثيوبيا للمملكة المتحدة، كان صلاح سالم قد زار السودان، مبعوثا من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ما زاد من قلق إثيوبيا من النفوذ المصري الذي خشيه هيلا سيلاسي.

وكان سالم، وهو من مواليد السودان، أول مسؤول مصري يزور جنوب السودان عام 1954 في إطار مشروع مصري لتحقيق المصالحة بين شمال وجنوب البلاد قبل انسحاب بريطانيا من مصر عام 1954 ومن السودان عام 1956.

الإمبراطور "يعاند"

ونقل تقرير سير إيفون عن الإمبراطور الإثيوبي اتهامه للمصريين بمحاولة رشوة السياسيين السودانيين. وزعم هيلا سيلاسي أن سالم "أحضر، خلال زيارته الأخيرة إلى الجنوب (السودان)، مليوني جنيه استرليني معه لتوزيعها"، وحذر من احتمال تمكن مصر من السيطرة على السياسيين السودانيين. 

وأضاف: "السودانيون يفتقدون إلى الخبرة ويمكن رشوتهم، ومن المؤكد أنهم سوف يقعون في شرك مداهنات ورشاوى المصريين". 

وتشير الوثيقة إلى أن كلام الإمبراطور الإثيوبي لم تقنع الدبلوماسي البريطاني، الذي حاججه بأنه من المفترض أن تخدم حالة عدم الاستقرار المزعومة في مصر مصلحة إثيوبيا. وقال وكيل وزارة الخارجية البريطانية الدائم إنه رد على هيلا سيلاسي بأنه "لو أن النظام المصري غير مستقر كما يعتقد، فإن الخطر عليه من مصر لن يكون هائلا جدا".

عبد الناصر يستقبل الضيف الإثيوبي

غير أن الإمبراطور ظل على عناده، حسب تعبير الدبلوماسي البريطاني، ليرد قائلا إنه "ينظر بأكبر قدر من الريبة إلى احتمال وجود قوات مصرية ترقب حدوده".

وبناء على موقف الإمبراطور من مصر، توقعت الخارجية البريطانية صعوبة كبيرة في تحقيق توافق بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا لحل الخلافات المستعصية بشأن مياه النيل.

وكان الدبلوماسيون البريطانيون يرعون مباحثات غير رسمية بين مصر وإثيوبيا والسودان في محاولة للتوصل إلى تسوية مرضية لكل الأطراف. 

وواصلت بريطانيا مساعيها رغم أن بعض دبلوماسييها المتابعين للملف الشائك كانوا يعتقدون بأن الإثيوبيين مصممون على الضغط على مصر بورقة مياه النيل، وأن ما يمنعهم من ذلك هو فقط ضعف القدرة المالية اللازمة لترجمة أفكارهم بشأن مياه النيل إلى مشروعات على أرض الواقع.

وبعد عدة عقود، صدقت التنبؤات البريطانية، وتمكنت إثيوبيا من بناء سد النهضة، الذي أدى إلى أزمة بين إثيوبيا ومصر والسودان.

دعوة لدفن الخلافات

وفي تقييمها للموقف العام بشأن العلاقات بين إثيوبيا من ناحية، ومصر والسودان من ناحية أخرى، أشارت إدارة الشؤون الإفريقية في وزارة الخارجية البريطانية إلى أنها لم تفاجأ بما صدر عن هيلا سيلاسي.

وقال رئيس الإدارة، في تعليقه على ما دار بين الإمبراطور الإثيوبي وسير إيفون، إن تصريحات هيلا سيلاسي "تؤكد كل التقارير التي نكتبها دائما عن وجهات نظر الإمبراطور بشأن مصر والسودان".

وحذر من أن آراء الإمبراطور "توضح على وجه الخصوص صعوبة جمع مصر والسودان وإثيوبيا معا لمناقشة التحكم على في مياه النيل الأزرق، المصدر الرئيسي لمياه نهر النيل.

وداي حلفا

وسبقت زيارةَ الإمبراطور الإثيوبي، التي استمرت أسبوعين لبريطانيا، زيارتُه إلى وداي حلفا، شمالي السودان.

وأبلغ ضابط الاتصال الإثيوبي في الخرطوم الحاكم العام البريطاني في العاصمة السودانية، بأن الإمبراطور عبر عن استعداده لمساعدة السودانيين في الاتحاد وضمان استقلال حقيقي بعد الانسحاب البريطاني، بهدف منع التقارب بين السودان ومصر.

ووفق ضباط الاتصال الإثيوبي، فإن الإمبراطور أبلغ وزير الإرشاد القومي السوداني بأنه "مع مغادرة البريطانيين الآن البلاد (السودان)، يجب على السودانيين فعلا الاتحاد ودفن خلافاتهم وإنجاز استقلال حقيقى".

وفي تقرير عن اللقاء، نقل الحاكم البريطاني عن الضابط الإثيوبي تأكيده أن هيلا سيلاسي "عبر عن أمله في أن يزور السودانيون أديس أبابا كي يبحث معهم السبل التي قد يساعد بها (الإمبراطور) الأمة (السودانية) الجديدة".

وخلال اللقاء نفسه، قال ضابط الاتصال الإثيوبي: إن "أصدقاء الدراسة السودانيين القدامى يتسلمون الآن المناصب من البريطانيين، ومن المؤكد أنهم لن يخضعوا للمصريين".

وانتقد ما اعتبره تناقضا بين أقوال وسلوك السودانيين، وقال إن "علاقة كلامهم بأفعالهم قليلة".

وضرب مثالا بطريقة استقبال مبعوث عبد الناصر، في السودان.

الإمبراطور في الولايات المتحدة

الترحيب بمبعوث عبد الناصر

وقال: إن حكومة الحزب الوطني الاتحادي في السودان، في ذلك الوقت، "رحبت بصلاح سالم، واحتفت به، ورتبت له جولة بدلا من إعادته إلى بلاده".

 وعبر المسؤول الإثيوبي صراحة عن قلق يساور بلاده من العلاقة بين الحكومة السودانية ومصر.

وقال الحاكم البريطاني إن ضباط الإتصال الإثيوبي "عبر عن مخاوف من أن أعضاء حكومة (الحزب الوطني الاتحادي السودانية) مرتبطون بقدر أكبر من اللازم بمصر بالتاريخ الماضي وبالأموال الحالية".

ووفق التصور الإثيوبي في ذلك الوقت، فإن الحكومة لا تساير رأي الشعب السوداني "الذي يبدو أنه مؤيد للاستقلال" التام عن مصر.

وحذر ضابط الاتصال الإثيوبي من عواقب هذا الوضع. 

وقال "إذا فشل الرأي العام في فرض رغباته وتمكنت الحكومة بشكل ما من تسليم البلاد لسلطة المصريين، فسوف تندلع حرب أهلية بعد أن يغادر البريطانيون البلاد".

الجريدة الرسمية