الأزمة الأوكرانية والدروس المستفادة
بات حديث الساعة اليوم هو الغزو الروسي لأوكرانيا وكالعادة كانت دولنا بموقع المشاهد والمشجع والشاجب والمستنكر والمتفاجئ أحيانا. ولكن القارئ الجيد لتفاعلات المشهد الحالي كان يتوقع ما حدث فكواليس هذا الغزو بدأت منذ زمن مبكر وتوقعته العديد من النظريات السياسية في العلاقات الدولية فحينما تطالع ما كتبه جون ميرشايمر، وهو أحد رواد المدرسة الواقعية الهجومية، سوف تجد أنه توقع ما حدث حيث جادل "بأن النظام الفوضوي الذي نعيشه في الوقت الراهن يجبر القوى العظمى على الانخراط في منافسات على السلطة والتصرف بقوة من أجل تعظيم النفوذ والمكانة على الصعيد الدولي، مؤكدا أن هذا السلوك بين القوى العظمى مدفوع بالأساس بغريزة البقاء نظرا لعدم اليقين بشأن نوايا الدول الأخرى".
وبالتالي فقد قرأت روسيا التحركات الأمريكية وحلف الناتو في محيطها الحيوي ودول جوارها الاستراتيجي تهديد مباشر لبقاءها كقوة عظمى على النحو الذي دفعها لإضفاء مزيد من القوة على سلوكها الخارجي من أجل تأمين بقاءها الذي رأته مهدد بعمليات الحشد العسكري التي قام بها حلف الناتو على حدودها وسعيه المستمر لتطويق النفوذ الروسي عبر كسب ولاءات دول التماس الجغرافي لروسيا عبر الانضمام للجسد الأوروبي -عضوية الاتحاد الأوروبي- أو الولاء غير العضوي الذي كانت تقوم به أوكرانيا بقراءة خاطئة لتفاعلات المشهد الدولي الذي جعلها ساحة لحرب باردة جديدة بين روسيا والولايات المتحدة والغرب عبر أراضيها.
من ناحية أخرى وبنظرة معمقة في دوافع هذا التحفيز الصراعي الذي انتهجته الولايات المتحدة نرى أنه لاينفك عن الإدراك الأمريكي المتزايد بخطورة التهديد الروسي والصيني، وهو ما كانت تعبر عنه التقديرات المستمرة من جانب مؤسسات الفكر الأمريكية بالتهديد الاستراتيجي الذي باتت تمثله روسيا والصين على المصالح الحيوية للولايات المتحدة في مناطق كثيرة من العالم، وهو ما سيكون له تداعياته على المكانة الإقليمية والدولية لها. ولذلك وجدنا استراتيجية الأمن القومي الأمريكي المؤقتة التي وضعتها إدارة الرئيس بايدن تعيد رسم خرائط التهديد ليحتل الصعود الصيني والروسي الأولوية على سلم التهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة.
الغاز الروسي
ونظرا لوجود إدارة ديمقراطية في البيت الأبيض تُعلي من قيم الديمقراطية والشرعية الدولية، كان لزاما عليها توفير غطاء شرعي يمكن من خلاله إعادة رسم خرائط النفوذ والمصالح من أجل تحييد وتقويض التهديد الروسي في إطار من الشرعية الدولية، فجاء هذا التحفيز الصراعي الذي أوجد المبرر لإلغاء العديد من عقود الشراكات الغربية مع الجانب الروسي، والتي كان من شأنها مزيد من الاعتماد الأوروبي على روسيا عبر بوابة الغاز الروسي..
وهو ما كان له تداعياته الإيجابية على تحسين القدرة الاقتصادية للدب الروسي وفرض الأمر الواقع على واشنطن التي كانت ستجد من الصعوبة ما يحول بين تأمين مصالحها ومكانتها لدى حلفاءها الأوروبيين. ولذلك طالعنا خلال الفترة الماضية حالة التلكؤ التي انتهجتها ألمانيا في تنفيذ التزاماتها تجاه خط الغاز "نورد ستريم 2"، وحينما اندلعت الأزمة خرج المستشار الألماني أولاف شولتس لإيقاف التعاقد مع روسيا.
ولكن ما كان هذا ليحدث دون أن تكون الولايات المتحدة قد خلقت بدائل لشركائها الأوروبيين يعوض هذا النقص المتوقع، وإن كان ليس بشكل كامل، فليس من المتوقع أن يتم الاستغناء بشكل كامل عن الغاز الروسي، فحن نتحدث هنا عن اعتماد أوروبي يصل الى 100% في بعض البلدان على الغاز الروسي، ولكن في الوقت ذاته ليس من المطلوب أن يتعزز الطلب الغربي عبر مزيد من الشراكات على الغاز الروسي.
الغاز القطري والإيراني
ولذلك رأينا في كواليس اندلاع تلك الأزمة تحركات أمريكية من أجل الحفاظ من ناحية على التوازن في اسعار الطاقة، وكذلك المعروض للوفاء بمتطلبات الأسواق الأوروبية، فجاء لقاء الرئيس الأمريكي مع أمير قطر، ثالث أكبر منتج للغاز في العالم بعد روسيا وإيران، كأول رئيس عربي يلتقي بالرئيس الأمريكي منذ توليه. وكذلك نرى في الفترة الراهنة دخول الاتفاق النووي لإيران مراحله الأخيرة، والذي سيترتب عليه إعادة رفع العقوبات المفروضة على إيران، وهو ما سيتطلب استيعاب لزيادة حصة إيران في صادرات الغاز والنفط، وهي ثاني أكبر منتج للغاز بعد روسيا. ومن ثم، يصب هذا كله في الاستراتيجية الأمريكية لإعادة توزيع المصالح بما يضمن مصالحها ومصالح شركائها الغربيين، ويحييد في الوقت ذاته النفوذ الروسي المتصاعد.
الدولة الطموحة
القارئ لهذا المشهد وتفاصيله المعقدة يجعلنا نتأمل الدروس المستفادة من تلك الأزمة من أجل ضمان مصالحنا في واقع دولي فوضوي لا يعترف سوى بلغة القوة والمصالح، ولذلك نحتاج هنا أن نتجاوز اللغة الخطابية التي يرددها البعض في متابعة الأزمة بخيار الانحياز أو الحياد، وانما نحتاج هنا تغليب خيار المصلحة والاستفادة من الظرف الراهن باقتناص الفرصة لتأمين المصالح المصرية في شراكاتها مع طرفي الأزمة، وفقًا لاستراتيجية "التحوط" "Hedging"، وهو مفهوم تم تطويره من جانب بعض المفكرين الغربيين لتنظيم السلوك الخارجي لما يُعرف بـ "الدولة الطموحة"..
وتساعد استراتيجية التحوط في توفير درجة من المرونة لمساحة حركة الدولة المتحوطة في نطاق آمن خاصة في أوقات عدم اليقين الاستراتيجي التي نشهدها على المستوى الدولي في الفترة الراهنة. أي تساعد هذه الاستراتيجية في تجنب موقف لا تستطيع فيه الدول اتخاذ قرار بشأن بدائل أكثر وضوحا مثل الموازنة أو التحرك والانخراط أو الحياد.
تركيا وإسرائيل
والمتابع لردود الفعل لكل من تركيا وإسرائيل حيال الأزمة يمكن أن يستوعب تكتيكات هذه الاستراتيجية في السلوك الخارجي لكلا البلدين، فلم تبادر أيا من الدولتين بإدانة التدخل الروسي في بداية الأزمة رغم العلاقة الاستراتيجية التي تجمعهما مع الولايات المتحدة، إلا أن بيانات الدولتين حاولت انتهاج لغة تعكس موقف يوازن بين مصالحهما الاستراتيجية مع المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، وكذلك مصالحهما الحيوية مع روسيا، التي تتيح على سبيل المثال المرونة العالية لإسرائيل في تنفيذ ضرباتها في سوريا..
وقد دفع هذا الموقف المتحوط من جانب إسرائيل التردد في الانحياز للموقف الأوكراني ومن وراءه الموقف الأمريكي في بداية الأزمة، خشية توتر علاقاتها مع روسيا، وجاء بيانها حول الأزمة بلغة رأها المسؤولون الأوكرانيون محايد حيث دعت إسرائيل إلى "الحفاظ على وحدة أراضي أوكرانيا"، وأنها "تأمل أن يوجد حل دبلوماسي يقود إلى الهدوء"، دون توجيه أية انتقاد لروسيا أو الرئيس الروسي بوتين.
ومن ثم، تشكل تلك المواقف خلفية مهمة للتفكير من أجل صياغة موقف مصري يأخذ اعتباراته المصلحية في الأساس الأول ليس فقط حيال هذه الأزمة وإنما كنهج لسلوكها الخارجي العام في هذه البيئة الدولية المضطربة، والتي تنذر بمزيد من الأزمات التي يبدو أن مناطق شرق أوروبا (أوكرانيا) وشرق أسيا (تايوان) ستتقاسمها مع منطقتنا التي لعنت بالصراعات والأزمات التي لا تنتهي، وهذا نتاج طبيعي مع تراجع الدور الأمريكي وصعود قوى جديدة كالصين وروسيا، والتي ستفرض بدورها درجة من التنافسية وفق قواعد جديدة للعبة لن تكون الولايات المتحدة وحدها هي المحدد الرئيس لها.