علي جمعة: بعض الناس يعيشون بيننا كالذباب.. وعليهم مراجعة أنفسهم
أكد الدكتور علي جمعة، مفتى الجمهورية السابق، على إعجاز الله في ضربه المثل بالذبابة، التي جاء وصفها في القرآن الكريم بأن خلقها مُعجز برغم صغرها، حيث وصف بالضعف والإصرار على معاودة فعل الأشياء دونما الاهتمام بمشاعر الآخرين.
إعجاز خلق الذباب
وقال علي جمعة إن الذباب يذكره أيضًا بفريق من الناس يعيش بيننا لم يجد له أسوة إلا في الذباب بنفس صفاته، ناصحًا من يشعر في نفسه أنه كالذباب، فعليه أن يتدارك نفسه وأن يخرج من هذه القدوة السيئة والتأسي المنحرف، وليرجع إلى البشر وإلى أسوتهم الحسنى ولينتمي إليهم بشعوره ووجدانه ويزيد من مساحة الحب في قلبه بدلًا من الحقد والكبر والاضطراب.
وكتب الدكتور علي جمعة تدوينة على الفيس بوك "في معاجم اللغة تحليل لطيف لتلك الحشرة التي تعلمنا الصبر إذا أردنا أن نتعلمه، وهي حشرة الذباب؛ حيث إنها سميت بذلك لأن هذا النوع كلما ذبه الإنسان عنه وأبعده فإنه يعود إليه. ولا يدرك الذباب أنه غير مرغوب فيه، وأنه قد أُبعد منذ لحظات في محاولة لطرده، بل قد تكون المحاولة لقتله أيضا، وهذه الصفة تجعل منه حشرة رذيلة، وهذه الرذالة تعني أنها لا تدرك شأنها وعلاقة الآخرين بها، ولما كانت لا تدرك ضعفها ولا رغبة الآخرين في إبعادها بل وإبادتها فإنها تتصرف تصرفا غبيا، وعدم الإدراك مع الغباء يدل على أنها منعدمة الشعور والإحساس مع شيء من البلادة".
الذباب في القرآن الكريم
وقال "تحدث ربنا عن الذباب في كتابه الكريم ضاربًا به المثل حيث جمع بين الضعف وهذه الصفات التي تجعل المقابل له ضعيفا أيضا من شدة إصراره على العود وعدم اهتمامه بشعور الآخرين، كما أنه عندما يسلب منا شيئًا من طعامنا أو شرابنا، بل من دمنا إن كان من نوع مصاص الدماء فإننا لا نستطيع أن نصل إلى استرداد حقوقنا منه سواء أخذها وطار أو جعلناه تحت أيدينا وقتلناه فإننا في جميع الحالات لا نقدر على رد حقوقنا، فالمصيبة قد حلت بتسلطه علينا وسلبه منا ما استطاع أن يسلب".
وأضاف "يحكى أن بعض الخلفاء سأل الشافعي رضي الله عنه: لأي سبب خُلق الذباب؟ فقال: مذلة للملوك. وكانت ألحت عليه ذبابة، فقال الشافعي: سألني ولم يكن عندي جواب فاستنبطته من الهيئة الحاصلة".
وتابع جمعة: "وتحدث ربنا على الجانب القدري في تسليط هذه الحشرة على الإنسان، وأنه على الرغم من ضعفها وقلة حيلتها وصغر جسمها إلا أن من دون الله لا يقدر أن يخلقها، بل هي مخلوق لله، بهذه الصفات التي جعلتها كثيرة منتشرة بالرغم من كل أنواع المقاومة التي عرفها الإنسان ابتداء من (المنشة) و(المرزبة) وانتهاء بالمبيدات الحشرية المنتشرة في العالم، وما بذلته الصين للقضاء على الذباب والعصافير المسلطة على المحاصيل الزراعية".
قدرة الله وخلق الذباب
واستطرد علي جمعة قائلًا: "يقول ربنا سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج: 73]. ولما كان هذا النوع من المخلوقات التي تبين قدرة الله ويضرب الله بها الأمثال للناس لعلهم يتفكرون لما كان هذا النوع شائعا، أعطى رسول الله ﷺ حكما يدل على عالمية الإسلام، وأنه لكل زمان ومكان، ولكل الأشخاص في جميع الأحوال وأنه دين الرحمة والعفو، وأنه دين اليسر والتيسير والرفق، وأنه دين حياة؛ حيث قال فيما أخرجه البخاري في صحيحه: (في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء) .
وقال جمعة: "والأصل عند وقوع ميتة في أكل أو شرب أن هذا الطعام ينجس فلابد من إلقائه وعدم أكله؛ لأن أكل النجس حرام، هذا هو الحكم الأصلي، واستثنى منه هنا الذباب لأنه بشيوعه وعموم البلوى به، ورأفة بالفقراء في دول الجفاف أو بالبدو أو حين الكوارث والحروب أو المجاعات؛ لأنه لوقع الذباب في إناء واحد منهم ولم يكن الحكم جواز أكل ذلك لوجب عليه أن يهدر الأكل الذي هو في أشد الحاجة إليه، فكان وراء هذا الحديث الذي يأنف منه كثير من الناس حكمًا رحيمًا بآخرين، وهذا أساس لهم لفهم النصوص الشرعية، فالحديث ليس فيه إلا توجيهًا يخفف عن من ابتلى بشيء من ذلك، أما أنا فأنا ائنف أن أغمس الذباب في أكلي ولا أفعله؛ لأن هذا ليس أمرًا شرعيًا جاء به الشرع وألزمني به، بل هو رخصة ورحمة تثبت ما ذكرناه".
وأضاف: "وكثير من الناس لا يفرق بين المستويين، مستوى الرخصة التي تناسب عالمية الإسلام، ومستوى الواجب اللازم أو المندوب المطلوب لإقامة حياة أكثر سعادة، وهؤلاء على ثلاثة أقسام: قسم حول هذا إلى ذاك ودعا إليه شريعة، وقسم أنكر فمنهم من رفض أن يكون هذا حديثًا، وقسم اعترض على الإسلام في ذاته".
وتابع: "وقواعد فهم الشريعة مهمة للغاية في هذا المقام، فهي لا تجعل هناك إرهابًا فكريًا عند سماع ما تأباه النفوس أو تعافه الثقافات، بل الشأن حينئذ التفكر والتدبر والسؤال وليعلم من ينكر هذا أنه لم يرتكب إثما بسؤاله فقد علمنا سيد البشر ﷺ أنه كان يعاف بعض الطعام ولا يحبه ويترك غيره يأكله".
الناس والذباب
وعن صفات الذباب والناس قال جمعة: "وذكرني الذباب أيضًا بفريق من الناس يعيش بيننا لم يجد له أسوة إلا في الذباب بهذه الصفات المذكورة فإذا شعر أحد من الناس في نفسه أنه كذلك فالنصيحة له أن يتدارك نفسه وأن يخرج من هذه القدوة السيئة والتأسي المنحرف، وليرجع إلى البشر وإلى أسوتهم الحسنى ولينتمي إليهم بشعوره ووجدانه ويزيد من مساحة الحب في قلبه بدلًا من الحقد والكبر والاضطراب وإن كان شعور الذبابيين بذلك لن يأتي إلا بأمر الله وهدايته؛ لأن المفترض أنه بليد الحس والشعور، اللهم لا تجعلنا منهم وقنا شرهم".
وتابع: "ومن صفات الذباب أيضًا أنه يقف على كل شيء، على الأقذار وعلى الطعام وعلى الأجسام، على السائل والجامد، لا يبالي أين وقف، ولا من أين يأخذ ما يأخذ، ومن مثال ذلك أننا نراه يلتف حول الجيد ويلتف حول الرديء ويمكن مع كثرته لا نعرف على ماذا يقف على حلوى أو قمامة؟ ولذلك في عالم الإنسان لم تكن الكثرة أبدا مقياسًا للحق، فكم رأينا باطلًا قد التف الناس حوله التفاف الذباب على القمامة، وكم رأينا حقا قد خلا من أي تبع قال تعالى: ﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ﴾ [المائدة: 100].
وقال "ويذكرني الذباب بالفرق بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى؛ حيث نجد في حضارتنا وموروثنا هذه الأداة التي ندفع بها الذباب مصنوعة من شعر الخيل، والدفع بها إما أن يبعدها وهو الغالب، وإما أن يقتلها ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الحشرة تريبة وفي موضع معين. في حين أن الأداة التي عند الآخرين صنعت من بلاستيك وقد شاعت فينا لما تركنا فلسفة حضارتنا وأنها كانت حضارة رحيمة بالإنسان والأكوان، وهذه الأداة الأخرى تقتل مباشرة، وأداتنا عند القتل لا تحطم الجسد وهذه تحطم الجسد تحطيما شديدًا، وأظن الأمر على بساطته يحتاج إلى مراجعة شاملة".
واختتم علي جمعة حديثه قائلًا: "ويذكرني الذباب بعيونه المركبة التي ترى من كل اتجاه بأنه ليس مثالًا للمؤمن الذي أمر بغض البصر وعدم التدخل في شئون الآخرين وعدم التلصص عليهم قال تعالى: ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾، وقال سبحانه: ﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ﴾، وقال جل شأنه: ﴿ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾.