الفاروق وأهل الكتاب
ما أحوجنا هذه الأيام لرجل مثل عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- باعتباره مثالا نادرا للعدل والإنصاف، وأحد القلائل الذين فهموا جوهر الإسلام ورسالة الدين الحنيف بعد النبى- صلى الله عليه وسلم..
وعلى مدى شهر رمضان الكريم سينصب حديثنا على "الفاروق".. كيف تعامل مع الإسلام ونصوص القرآن والأحاديث الشريفة، كيف تعامل مع أهل الكتاب من المسيحيين واليهود، كيف تعامل مع الرعية والولاة، كيف كان يحاسب أهله.. ولينظر الحكام والشيوخ "المتأسلمين" إلى الفارق بينهم وبين ما كان يقوله ويفعله ابن الخطاب، لعلهم يعقلون..
كان تعامل الفاروق عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- مع أهل الكتاب من المسيحيين واليهود مثالا نادرا للعدل بين رعايا الدولة الإسلامية، في الوقت الذي كانت فيه الدولتان الفرس والروم تعاملان أصحاب البلاد التي احتلوها على أنهم مجرد عبيد، أو أقل درجة من العبيد.. لا يحق لهم تملك الأرض التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم.. في نفس الوقت الذي كانوا يعانون فيه أشد المعاناة من الاضطهاد والتمييز، رغم كون بعضهم من المسيحيين أيضا.
وفى المقابل منح الفاروق أهل الكتاب حرية العقيدة، وأمّنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ومعابدهم، يتساوى في ذلك المسيحيون واليهود.
ومما يروى في كتب التاريخ الإسلامى أن الفاروق كان عالما باللغة العبرية، وهى اللغة التي نزلت بها "التوراة"، وهناك شواهد كثيرة تفيد بأن عمر كان يقرأ "التوراة بالعبرية" على النبى - صلى الله عليه وسلم- وكان وجه النبى يتغير.
ومن الأمور المهمة أن عمر بن الخطاب ساوى بين أموال أهل الذمة وأزواجهم، وأموال المسلمين وأزواجهم وأرواحهم.. فعندما يقتل مسلم مسيحيا، كان الفاروق لا يتوانى في تسليم القاتل المسلم إلى ورثة المقتول المسيحيى.. وهناك واقعة شهيرة رواها الإمام الشافعى - رضى الله عنه- تؤكد ذلك، وهى خاصة برجل من قبيلة بكر بن وائل اسمه "حنين".
بل إن عمر بن الخطاب منع المسلمين من شراء أراضى المسيحيين واليهود في بلاد الشام والعراق، خشية أن يكون الشراء قد تم بالتخويف والإكراه أو بالإغراء.. وأبقى الأراضى على ما كانت عليه قبل الفتح.
ورغم مساواة عمر أهل الكتاب بالمسلمين، إلا أن هناك اتهامات للفاروق بأنه منع الذميين من بناء أماكن جديدة للعبادة، وألا تدق نواقيسهم، وألا يعمدوا أبناءهم.. بل إنه طرد نصارى نجران واليهود عن شبه الجزيرة العربية..
والحقيقة أن كل ذلك مردود عليه.. فالمعاهدة التي أبرمها الفاروق مع أهل الكتاب كانت تنص على ذلك.. فلا تدق النواقيس في أي وقت، بل يجب الالتزام بمواعيد محددة؛ حتى لا تتعارض مع أوقات صلاة المسلمين، وبالتالى ستحدث فتنة بين أصحاب البلد الأصليين وبين المسلمين الفاتحين.
وبالنسبة لعدم التعميد فإن ذلك لم يكن حالة عامة، بل خاصة بقبيلة بنى تغلب، التي آمن منها كثير من الرجال، وكانوا يتركون أولادهم الصغار يُعَمّدون، فأمرهم بترك التعميد حتى يكبر الأطفال وتكون لهم حرية الاختيار.
وكان طرد نصارى نجران واليهود عن الجزيرة العربية لأنهم أحدثوا المشاكل، وأثاروا القلاقل، وأظهروا العداوة للإسلام، بل إنهم تعدوا على ابن خليفة المسلمين، فطردهم عمر إلى الشام والعراق.. ولم يتركهم هكذا، بل وفّر لهم أراضٍ هناك للبناء عليها، وعوضهم من بيت المال، ووضع عنهم الجزية والخراج حتى يستقروا في أرضهم الجديدة، ويزرعوا محاصيلهم ويحصدونها أيضا..
وللحديث بقية إن شاء الله