بين محاكمة الإبداع ومقومات الأمة المصرية.. دراسة للمستشار خفاجي تكشف حدود حرية الفن
الفن لا يمكن أن يعيش بلا حرية، وهو وثيق الصلة بالصراع بين الخير والشر والقبح والجمال قوام الحياة الإنسانية، وتثير بعض الأعمال الفنية بين الحين والآخر صخبا مجتمعيا كبيرا إذا ما مست تقاليد المجتمع وأخلاقياته من وجهة نظر الرأى العام ولا يراه الفنانون كذلك، مما يثير التشابك بين الطرفين ويلزم فض هذا التشابك من طرف محايد بسياج القانون المنظم لحياة المجتمعات.
ويثور التساؤل حول مدى حرية الفن، هل يتجرد من كل شيء ويصبح مطلقا أيًا كان أم يتقيد بضوابط تحد من حريته لصالح المجتمعات ؟
الإجابة على هذه التساؤلات نجدها فى أحدث دراسة قانونية مهمة للفقيه المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة بعنوان: "مدى حرية الفن بين محاكمة الإبداع والمقومات الأساسية للأمة المصرية" ونعرض للجزء الأول من تلك الدراسة لفض التشابك بين الرأى العام وأهل الفن فى ستة عناصر فيما يلى:
قال الفقيه المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى للفن أهل يتحملون تبعاته، ولابد للفنانين أنفسهم أن يتفقوا على إعادة صياغة مفهوم حرية الفن فى ضوء معطيات العصر بين جميع أطراف العملية الفنية بدءًا من كاتب السيناريو حتى الممثل والمخرج، وصحيح قول البعض أن السينما الذهنية خُلقت قبل السينما الواقعية للدلالة على أهمية الخيال فى حياة السينما، إلا أن ترك تلك الحرية دون تحديد إطار لها من أهل الفن ذاتهم يؤدى إلى التغول على خيال الإبداع.
وهناك فرقًا وخيطًا رفيعًا بين الحرية الإبداعية والديكتاتورية الفنية فالأولى لازمة من لوازم الحياة فى المجتمع، والثانية تتصادم مع حدود العقل أو تتجاوز أخلاق المجتمع التى لا يقوم إلا بها ،وما يرتبه ذلك من تشويه ما تعارف عليه أهل الفن والإبداع عبر أجياله من حدود دنيا تكفل له التفاعل والتأثر والتأثير فى كافة مناحى حياة المجتمع ، والرأى عندى أن الحرية مثل السلطة لها مدى دون إطلاق والفرق بينهما أن الحرية لها مدلول معنوى يرتقى بالمجتمع فى معالجة أهم مشكلاته وحقيق حياته، بينما السلطة لها مدلول مادى مغاير يفرض النظام واحترام القوانين فى المجتمع، وكلتاهما – الحرية والسلطة 0 يجب ألا تكون مطلقة، وإذا قيل أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، فالحرية المطلقة مفسدة مطلقة، فإذا ما تجاوزت حدًا يتجاوز أخلاق المجتمع سرت فى العقول فأفسدتها واستشرت فى النفوس فأسكرتها.
ثانيًا: الدستور المصرى مسايرًا الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان كفل حرية الفكر والفن والإبداع والعمل الفنى معصوما من أى أغلال أو قيود سوى التي تفرزها تقاليد المجتمع وقيمه وثوابته:
الدستور المصري
واضاف المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى أن الدستور المصرى مسايرًا في ذلك الاتفاقيات الدولية المقررة لحقوق الإنسان قد كفل حرية التعبير عن الرأي بمدلوله العام وحرية الفكر والفن والإبداع، وفي مجالاته المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وما يتفرع عن هذه الحرية من حقوق على رأسها حق النقد للظواهر والمتغيرات التي يمر بها المجتمع وباعتباره ضرورة لازمة للسلوك المنضبط في الدول الديمقراطية، ولا يقوم أي تنظيم ديمقراطي إلا به، وحق الفرد في التعبير عن ما يراه لازمًا لممارسة حقه الدستوري لا يرتبط من حيث تقريره وواجب التمكن منه بقيمة هذا الرأي ولو عارضه الغير، وإلا كان حظرًا غير مباح وإهدارا للقيمة الدستورية لحرية التعبير الذي يدور في فلكها معصوما من ثمة أغلال أو قيود إلا تلك التي تفرزها تقاليد المجتمع وقيمه وثوابته.
وأشار المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى إن الإبداع - في مستقر القول - ينصرف إلى كل مختلف عن المألوف من الأمور، ولكون الاختلاف سمته فإن الإتفاق عليه يغدو مستحيلا، وهو بصوره المختلفة حق من الحقوق التي حرص الدستور على تقريرها، وأوجب على الدولة كفالتها على وجه يحقق حمايتها المتمثلة في كونها أداة التقدم والنمو في كافة المجالات، وصون الإبداع السينمائي وحمايته باعتباره أحد صور الإبداع لا يستقيم أمره أو يستوي على صحيح مقصده إلا بتقييمه في إطار كونه عملًا فنيًا، والسينما بأدواتها المختلفة وسيلة من وسائل التنوير بكل فكر جديد يجلی ماض لم يفاخر ويرسم خطوطًا لمستقبل حسبما يتخيله المبدع بلا حدود إلا رقابة ذاتية من القائمين على هذا الحق، يقدرون أطرها بما لا يحد من طاقات المبدع ولا يمنع طرح الأفكار والإبداعات على المتلقين مع تباينها واختلافها ليكون لهم حق الرفض والقبول في إطار إحترام فکری متبادل، حتى ولو تناولت الأعمال الفنية والسينمائية الواقع الاجتماعي للأسر المصرية بالنقد تصريحا أو تلميحا، فالمهم فى المادة الفنية أن تتضمن احترامًا لفكر المشاهد ولو كان بسيطًا من أوساط الناس.
وتابع المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى إن عبقرية الإنسان المصرى وقدرة مفكريه وكُتابه وأدبائه على صوغ الحياة الاجتماعية والسياسية والإقتصادية والثقافية داخل مصر وخارجها وفي كافة المحافل الدولية تتجلى عند تمكينهم من القيام بدورهم في إطار مفهوم لا يغيب يتمثل في أن الحرية المسئولة هي دواء كل الفتن وانقاذ إفساد الذوق العام، وأنه قد أقل إلى غير رجعة مصادرة الرأي وحجب الفكر وترويج فقر الفكر خاصة أن الأديان والعقائد السماوية تدعم وترسى حرية الفكر والإبداع طالما لا ينال من الأصول الثابتة للأمة المصرية التى تعارفت عليها عبر أجيالها ومبادئها الراسخة اللازمة لبقائها.
ويجب الاستناد إلى قيم هذا المجتمع وتقاليده وحضارته وميراثه الفكري والفني والأدبي تؤكد على أن الشعب يجب أن يتنفس ومفكريه حرية التعبير وإن تجاوزت ممارستهم حد المألوف طالما كان هذا التجاوز لا ينال من ثوابت الأمة وعقيدتها ومستهدفا كشف وتصحيح الواقع الإجتماعي للمجتمع ليكون هذا النهج دستور الإصلاح والتطور في ظل ما يموج به العالم من متغيرات تحتاج إلى استكشاف المستقبل وآفاقه في إطار من زخم الماضي يأكد حضارته وسابق إبداعاته.
وأوضح المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى أنه قد يصادف العمل الفنى كالأفلام استجابة الجماهير بدليل أنه حقق إيرادًا كبيرًا، ذلك أن إيرادات الشباك لا تصلح وحدها مبررًا لصلاحية استمرار عرض الفيلم، فاتجاه جانب من الجماهير أو نوعية معينة منه على ارتياد دور العرض وتكالبهم على مشاهدة الأفلام الهابطة ليس قرينة على سلامة الفيلم من النواحي الاجتماعية والخلقية، كما أن عزوف الجماهير عن مشاهدة فيلم أخر لا يعني أنه قد سقط في زمرة الأفلام الهابطة، فإيرادات الشباك صعودًا أو هبوطًا ليست دليلًا قاطعًا على صلاحية الفيلم من وجهة نظر الرقابة الفنية ومن وجهة نظر غالبية الجماهير، فالعبرة إذن بما يحدثه الفيلم من إنعكاسات على المجتمع، لا بما يحققه الشباك من إيرادات مادية.
الإبداع الفني الثقافي
وشدد المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى على أنه ولئن كان الدستور قد جعل الدولة تكفل للمواطنين حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي وتوفر وسائل التشجيع اللازمة لتحقيق ذلك، إلا أنه يتعين التفرقة بين كفالة حرية البحث والابداع الأدبي والفني والثقافي وبين استغلال ما تفرزه العقول وما تتفتق عنه إبداعات النفس البشرية بعرض ذلك على الجماهير في سوق العرض العام والخاص، فالجانب الأول يمثل مظهرًا داخليًا للحق وهو مطلق ويعد حقًا متروكا لكل فرد فيما بينه وبين نفسه حسبما يمليه عليه معدنه، وما يجول بخاطره وما يسوقه إليه ضميره. أما الجانب الثانى فيعد مظهرًا خارجيًا لهذا الحق وهو نسبى وثيق الصلة بالجانب الاجتماعي وهو ليس متروكًا للفرد إلا في الحدود وبالضوابط التي تضعها الدولة نحو تلك الممارسات مستلهمة في ذلك نبض الجماهير وإيقاع الرأي العام مستمدًا من مختلف مصادره، وقد تكفل المشرع بوضع الضوابط الخاصة باستعمال حرية الفن في سوق الحياة الاجتماعية وبما يتفق من علة تقريرها.