د. محمد الجندي وكيل كلية الدعوة يكتب: الإسلام يبسط يده بالتسامح رغم تطاول الخصوم
حيرة انتابتني وأنا أسطر مشاهدَ من التسامح الإسلامي الواردة في صفاح التاريخ؛ لأن الإسلام كله تسامح، وليست تحصى فأحصيها، ولا هي مما يستقصى فأختار بعضًا من نواحيها، لكن الضرورة دفعتني لألتقط دُررًا قليلة من عمق مليء بالجواهر المكنونة؛ إذ لا زالت طلائع سود تطبق سهوب السماء خيلًا ورجلًا، وكتائب غبراء ألحقت الوهاد بالنجاد، ومزَّقت الصدور بالسخائم والأحقاد، إنها غربان استنفرت فصدرت من أوكارها، تموج في سماء الصفاء التاريخي، لتلقي من وابل السحب الركام على سماحة الإسلام، وتغلق عن الأبصار منافذ التاريخ عند مطالعة ما تواري من عظمة المعاملة الإسلامية، ولكن الحق أبلج والباطل لجلج، إنه يرتعد أمام صولة الحق وجولة الحقيقة، فالتاريخ الإسلامي قد امتلأ إناؤه من صور التسامح العملي حتى طغى، نذكر منها غيضًا فيما يلي:
المشهد الأول: النبي بالتسامح يفتح بسائط القلوب للإسلام:
سخر الله بتسامح النبيِّ قلوب الناس له حتى زجَّ فيها عناصر الأخلاق واحدا تلو الآخر، ومن يلج مسير التاريخ يدهش في وقائعه وهو يستقرئ بين دفتيه كثيرًا من هذه المشاهد التي حطت ركاب القلوب عند باب النبي مستسلمة وخاضعة، يروي الحاكم وغيره عن زيد بن سعنة أنه قال: لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه:
يسبق حلمُه جهلَه، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، فكنت أتلطف له لأن أخالطه، فأعرف حلمه وجهله، فابتعت منه تمرا إلى أجل فأعطيته الثمن، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة، أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ قلت: ألا تقضيني حقي يا محمد فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مطل، فقال عمر: أي عدو الله، أتقول لرسول الله ما أسمع ؟!! فوالله نفسي بيده لولا ما أحاذر قسوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم، ثم قال: "أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر فأقضه حقه، وزده عشرين صاعا مكان ما رعته" ففعل، فقلت: يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه محمد حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما فقد اختبرتهما، أشهدك أني قد رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا
إنه مشهد تتوارى أمامه صور الغلو والتعسف، وليس ذلك بدعة مستحدثة، ولا أخلاق مستهجنة في منهج النبي لا.... إنه طبيعة الإسلام التي فتح بها النبي قلوبا تلهت بعبادة الحجارة والأوثان، وتلذذت بتراهات الجاهلية، وشهد التاريخ بذلك.
المشهد الثاني: التاريخ الإسلامي يجسد (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ):
لعل القارئ يعجب ـ مع اتساع مساحة الزمن بين عهد النبوة وأيامنا ـ حين يستقرئ التاريخ ويمر على منهج النبي في تعامله مع غير المسلم، إنه جسد قول الله تعالى "لا إكراه في الدين" ويذعن لقوله: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" فمزق بنور تلك الفضيلة المتسامحة الظلمات، وجلا بروح الإسلام غياهب الضلالات، وقد ذكر المؤرخون أن رجلا يقال له " الحصين من بني سالم بن عوف "، كان له ولدان نصرانيان وهو مسلم، فسأل الرسول rعما إذا كان يجوز له أن يكرههما على اعتناق الإسلام وهما يرفضان كل دين غير المسيحية، الرسول r عن ذلك ، كما كانت إحدى نساء بني قريظة وتدعى " ريحانة " من نصيب النبي r بعد محاربته قومها، فعرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب، فقالت: بل تتركني في ملكك، وأبت إلا اليهودية، فقربها الرسول r حتى أسلمت بعد ذلك، كما كتب إلى معاذ بن جبل وهو باليمن ألا تفتن يهوديا عن يهوديته
المشهد الثالث: متسامحون تربوا في معية النبي:
لا يستطيع عقل أن ينكر الحقيقة، إلا عقل مظلم خابي الشعاع، ويالها من حقائق سردها التاريخ، تنبي عن مشاهد تترى من تسامح الصحابة لتقول للعالم: " إن محمدا فينا باق بسماحته ما بقيت في الأرض حياة " إنه خلد الرسالة المتوالد مع تدافع الأرحام إلى يوم القيامة، وهنا نتوارى في خطو حفيف لنلتقط بعضا من المشاهد التسامحية في تاريخ الصحابة فيما يلي:
كان الفاروق عمر tبالشام وحانت الصلاة، وهو في كنيسة القيامة، طلب منه البطريق أن يصلي بها، وهم أن يفعل، ثم اعتذر بأنه يخشى أن يصلي بالكنيسة فيدعي المسلمون فيما بعد أنها مسجد لهم فيأخذوها من النصارى، وكتب للمسلمين كتابا يوصيهم فيه بألا يصلوا على الدرجة التي صلى عليها إلا واحدا واحدا، غير مؤذنين للصلاة مجتمعين، وتتوالى الأحداث ويخوض عمر الفاروق الغمار السمح، فلم ينزل على أحد بجوائح السطوات، ولم يجس الخلال بوابل النقمات، إن امرأة جاءته ( وهو خليفة المسلمين ) في حاجة وكانت مشركة، فدعاها للإسلام فأبت، فقضى لها حاجتها، لكنه خشي أن يكون في تصرفه هذا ما ينطوي على إكراهها للدخول في الإسلام، فاستغفر الله عما فعل وقال:
"اللهم إني أرشدت ولم أكره".
وعلى نفس النسيج المتناغم يسير "عثمان بن عفان" فكان يعطف على شاعر نصراني، وهو أبو زبيد.
وتسير المنظومة التاريخية ممزوجة بالتسامح تباعا، دون تعطيل لهذا النظام المتناسق المتشابك الذي لا تحول بين اتصاله الأيام والسنين، ففي فتوح البلدان كإيران وبلاد ما وراء النهر، رسمت حوافر الخيول شعارات التسامح، ونقشت على الصخور منظومتة مع خطوها المنتظم في الوديان والفيافي، ويضرب " خالد بن الوليد " مثالا عظيما في معاهداته مع الكتابيين، فكان من نصوصها: "ألا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة، وعلى أن يخرجوا الصلبان في أعيادهم "، كما نصت معاهدة "حذيفة بن اليمان" مع أهل الذمة على إعطائهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأرواحهم، ولا يغيرون على ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم ولهم المنعة، ولم يقتصر تسامح الفاتحين على الكتابيين، ولكن أرباب الوثنيات لم يحرموا من روحها، فعند فتوح السند أيام الدولة الأُموية، استطاع "محمد بن القاسم" أن يرتفع بالبوذيين إلى مصاف أهل الكتاب، كما حدث مع الزرادشتيين في إيران، فقد ضم ابن القاسم البوذيين إلى مصاف المعاهدين، ليتمتعوا بكافة الحريات، وصالحهم على ألا يقتلهم، ولا يعرض لبيوت عبادتهم، ككنائس النصارى وبيع اليهود وبيوت المجوس، بهذا المنهج ملأت النجوم سائر الأغوار، وأزالت الكديات والأوعار، فشاعت انسيابية في الحياة الإنسانية، وغاب التسيب والاستبداد، وما تلك إلا ملامح من كتاب كبير، ملئ بالمشاهد السمحة المنسجمة مع التاريخ الإسلامي.