حبيب الجماهير.. هكذا يرى المصريون والعرب جمال عبد الناصر في ذكرى ميلاده
مر أكثر من نصف قرن على وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ورغم إثارة ذكراه للجدل بشكل دائم والسجالات التي تدور بين المؤيدين والمعارضين، لكن سيرة الرجل ما زالت تحظى بتبجيل يثير الدهشة بين قطاعات واسعة من الجمهور المصري والعربي بل وفي بعض بلدان العالم.
يبدو عبد الناصر في ذكرى ميلاده من يناير كل عام دائما وكأنه قائد أسطوري، ينجح حتى بعد وفاته في إعادة إنتاج شعبيته بين شرائح عمرية متباينة، وأجيال وطبقات مختلفة، يفعل ذلك في أكثر الأوقات اضطرابا من عمر الأوطان وربما هذا سبب رفع صوره بكثافة في ميدان التحرير عام 2011 وعدة ميادين عربية باعتباره البطل التاريخي الأول للعدالة الاجتماعية بلا منازع، والعدالة كانت أحد مطالب الثورات العربية.
ابن عصره
تبرر قطاعات كبيرة من الشارع العربي سياسات عبد الناصر، تراه ابن عصره وإنتاج الزمن والحقبة التي شهدت تقلبات الحياة السياسية والفكرية من عشرينيات لأربعينيات القرن الماضي، ومعروف عن هذه الحقبة تشبعها بأفكار الاستقلال والتحرر من الاحتلال البريطاني، ويغفر هؤلاء لـ جمال عبد الناصر الهوس بالأبطال المحررين لأوطانهم من الغزاة، وأحلامه المُكلفة للجميع بالخلاص العسكري.
كان جمال عبد الناصر يقتنع بشدة بفلسفة فلاديمير لينين قائد الثورة البلشفية في روسيا وشعاره «القمة لا تستطيع.. والقاع لا يريد»، اعتبر ناصر هذه الكلمات العميقة العنوان الأسمى للسياسة في مصر والمنطقة، فلا خلاص بنظره إلا بتحول جذري في الطابع السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
في 23 يوليو 1952 نجح ناصر ابن الـ 34 عامًا في قيادة الضباط الأحرار و اطاح بالنظام الملكي وأعلن الجمهورية، ومع أن اللواء محمد نجيب كان الرئيس الأول للجمهورية، لكن الجمهور المصري والعربي لا يربط الثورة إلا بعبد الناصر ومشروعه في مصر والمنطقة.
بطل عصره
ترى الجماهير أن عبد الناصر كان زعيما الناس في أمس الحاجة إليه، يعدون منافعه بتعزيز الهوية المصرية والعربية والاستقلال، وهذه التعطش هو الذي جعل المشروع الناصري للقومية العربية بحلول نهاية الخمسينيات من القرن الماضي الأيديولوجية صاحبة الجماهيرية الساحقة في العالم العربي.
يتذكر المصريين والعرب ـ بعيدا عن تنظيرات الساسة ـ عبد الناصر حتى الآن باعتباره الزعيم الذي دافع عن استقلال مصر والعرب، وصاحب الإعلان عن تأميم قناة السويس التي كانت تعطي أرباحا خارقة للغرب، بينما لم يحصل أصحابها الحقيقيون ـ المصريون ـ على أكثر من 15٪ من الدخل وفي بعض المراحل انخفضت هذه الحصة إلى 6٪ في الوقت الذي كانت الجمهورية الناشئة في حاجة ماسة إلى أموال طائلة لبناء نهضتها الصناعية.
يتذكر الشارع المصري والعربي مبادرة عبد الناصر بانتشال الفقراء من الحاجة ومشروعه للإصلاح الزراعي الذي رفعه إلى مرتبة البطل القومي على الساحة الدولية وليس المصرية والعربية وحدها، حيث تقرب إليه الاتحاد السوفيتي بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية والفنية.
كان عبد الناصر ويبدو أنه لايزال يمتلك السحر الذي يفتن الجماهير، رجلًا صارما وسيما فخما، لديه ابتسامة ونظرات وجرس صوت يجعل العدو يرتعد عند سماعه، والمفتتن به يشعر بقشعريرة تشعلها جاذبية لا تُصدق.
بين الانفتاح والتقدمية
يتذكر الناس لعبد الناصر أنه كان يجمع بين الانفتاح والتقدمية والتدين في تجربة شديدة المصرية ـ بالتأكيد لا تخلو من أخطاء ــ من التدين الشديد بحس صوفي خاص، وصلاة بانتظام، وانفتاح كبير على رجال الدين، إلى الانتماء للحداثة والعصرية ورفض التشدد، والتواضع الكبير في ممارسة الحياة اليومية، من القمصان البسيطة بألوان الباستيل، إلى تناول أصناف طعام لا يتناولها إلا عموم الشعب.
في ذكرى عبد الناصر، تظل للسياسة اعتباراتها وللتجربة خصوصيتها والحق في نقدها بل وذمها أو استحسانها، ولرجل الشارع أيضا اعتباراته، فجمال عبد الناصر سيبقى بالنسبة له هو الذي أنشأ في مصر نظامًا مجانيًا للتعليم والرعاية الطبية وبنى المدارس والمصانع والشركات وجعل العدالة الاجتماعية للفقراء والكرامة الإنسانية في المقدمة.