هل الوضوء شرط لسجود التلاوة؟.. الإفتاء توضح كافة الأحكام
ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه “هل يشترط لسجود التلاوة أن يكون الساجد متوضئًا؟”، وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
شرع الله عزَّ وجلَّ سجود التلاوة إظهارًا لتمام العبودية له سبحانه؛ وذلك حال تلاوة المسلم أو استماعه لآية من الآيات الداعية في معناها إلى السجود لله تعالى، وهو في حق التالي للقرآن الكريم آكد منه في حق المستمع له.
وهيئته: أن يُكَبِّرَ التالي أو المستمع ويسجد عن قيام أو قعود من غير ركوع، ثم يُكَبِّر ويرفع بلا تَشَهُّد ولا تسليم.
والأصلُ في مشروعيته قوله تعالى: ﴿ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ۞ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾ [الانشقاق: 20-21]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ [الإسراء: 107]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ -وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: يَا وَيْلِي-؛ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ» أخرجه مسلم في "صحيحه".
آيات السجود في القرآن الكريم
وآيات السجود في القرآن الكريم توقيفيةٌ؛ عُلِمَتْ مواضعها: إما بنص النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها، أو بفعله صلى الله عليه وآله وسلم بالسجود عند قراءتها، واتبعه الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك، ومنَّ الله على الأمة بأن مُيِّزَت مواضعها في المصحف الشريف بإضافة خطٍّ وعلامةٍ يَدُلَّان عليها.
- فأما معرفة مواضعها بنصّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها: فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ؛ مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ، وَفِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ" أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارقطني في "السنن"، والحاكم في "المستدرك" وقال: "هذا حديث رُوَاتُهُ مِصْرِيُّونَ قد احتج الشيخان بأكثرهم، وليس في عدد سجود القرآن أتم منه ولم يخرجاه".
- وأما معرفة مواضعها بفعله صلى الله عليه وآله وسلم: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةُ؛ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ" أخرجه البخاري في "صحيحه".
وإضافة السجود إلى التلاوة هي من قبيل إضافة المُسَبَّب (السجود) إلى السبب (التلاوة أو السماع)، واختُصَّ بالتلاوة دون السماع: للاتفاقِ على كون التلاوة سببًا لها، والاختلافِ في سببية السماع، ولأن التلاوة أصلٌ فيها، أما السماع فمترتب عليها.
قال العلامة بدر الدين العيني في "البناية" (2/ 654، ط. دار الكتب العلمية): [(باب سجود التلاوة).. والإضافة فيه من قبيل إضافة المسبب إلى السبب.. وأقوى وجوه الاختصاص: اختصاص المسبب بالسبب، فإن قلت: التلاوة سببٌ في حق التالي، والسماعُ سببٌ في حقِ السامعَ؛ فكان ينبغي أن يقول: (باب في سجود التلاوة والسماع)؟ قلت: لا خلاف في كون التلاوة سببًا، واختلفوا في سببية السماع.. أو يقول: إن التلاوة أصلٌ في الباب؛ لأنها إذا لم توجد لم يوجد السماع، فكان ذكرُها مشتمِلًا على السماع من وجه، فاكتُفِي به] اهـ.
حكم سجود التلاوة
وذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنَّ سجود التلاوة سنة مؤكدة في الصلاة وفي غيرها، وهو المروي عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وعثمان بن عفان، وسلمان الفارسي، وزيد بن ثابت، وعمران بن حصين رضي الله عنهم، وأبي ثور، والأوزاعي، والليث رحمهم الله.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه قَرَأَ يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلَى المِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الجُمُعَةُ القَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا، حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ، قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ؛ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ" ولم يسجد عمر رضي الله عنه. وزاد نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "إِنَّ اللهَ لَمْ يَفْرِضِ السُّجُودَ إِلَّا أَنْ نَشَاءَ" أخرجه البخاري في "صحيحه".
وروى البخاري في "صحيحه": أنه قيل لِعِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ رضي الله عنه: الرَّجُلُ يَسْمَعُ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَجْلِسْ لَهَا؟ قَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ قَعَدَ لَهَا"؛ كَأَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَلْمَانُ رضي الله عنه: "مَا لِهَذَا غَدَوْنَا". وَقَالَ عُثْمَانُ رضِي اللهُ عنه: "إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَهَا". وقال الزُّهْرِيُّ: "لَا يَسْجُدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا.." -أي لو لم يكن طاهرًا فلا بأس بتركه السجود-، وَكَانَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ "لَا يَسْجُدُ لِسُجُودِ القَاصِّ"، والمراد بالقاصِ هنا: "الْقَارِئُ".
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ﴿وَالنَّجْمِ﴾، فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا" أخرجه البخاري -واللفظ له- ومسلم في "صحيحهما".
قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (5/ 74، ط. دار إحياء التراث): [قوله: "إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَقْرَأُ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ، فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ، حَتَّى مَا يَجِدُ بَعْضُنَا مَوْضِعًا لِمَكَانِ جَبْهَتِهِ".. فيه إثباتُ سجودِ التِّلَاوَةِ، وقد أجمعَ العلماءُ عليهِ، وهو عندنا وعند الجمهورِ: سنةٌ ليس بواجبٍ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه: واجبٌ ليس بفرضٍ؛ على اصطلاحه في الفرقِ بَيْنَ الواجبِ والفرضِ، وهو سُنَّةٌ للقارِئِ والمستمعِ لَهُ] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (1/ 446، ط. مكتبة القاهرة): [(ومن سجد فحسن، ومن ترك فلا شيء عليه) وجملة ذلك: أنَّ سجود التلاوة سنةٌ مؤكدة، وليس بواجب عند إمامنا، ومالك، والأوزاعي، والليث، والشافعي، وهو مذهب عمر، وابنه عبد الله.. ويُسَنُّ السجود للتالي والمستمع، لا نعلم في هذا خلافًا، وقد دلت عليه الأحاديث التي رويناها] اهـ.
شروط سجود التلاوة
وقد اتفق جماهير الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أنه يشترط لسجود التلاوة ما يشترط للصلاة من الطهارة: لأنه صلاة أو في معناها، والصلاة لا تصح بدون طهارة؛ لما رُوي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "لَا يَسْجُدُ الرَّجُلُ إِلَّا وَهُوَ طَاهِر" أخرجه مالك في "الموطأ"، والبيهقي في "السنن"، وذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 554، ط. دار المعرفة) وقال: "إسناده صحيح".
وعن الزُّهْرِيُّ رحمه الله قال: "لَا يَسْجُدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، فَإِذَا سَجَدْتَ وَأَنْتَ فِي حَضَرٍ فَاسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ، فَإِنْ كُنْتَ رَاكِبًا فَلَا عَلَيْكَ حَيْثُ كَانَ وَجْهُكَ" أخرجه البخاري مُعَلَّقًا.
قال العلامة البابرتي الحنفي في "العناية شرح الهداية" (2/ 11، ط. دار الفكر): [(باب سجود التلاوة).. وشرطها: الطهارة من الحدث والخبث، واستقبال القبلة، وستر العورة] اهـ.
وقال الإمام القرطبي المالكي في "الجامع لأحكام القرآن" (7/ 358، ط. عالم الكتب): [ولا خلاف في أن سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصلاة؛ من طهارة حدث ونجس، ونية، واستقبال قبلة، ووقت] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الكافي في فقه أهل المدينة" (1/ 262، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [ولا يسجد أحدٌ للتلاوة إلا على طهارة، ومستقبل القبلة، ويُكبِّر لها إن شاء، ولا تَشَهُّدَ فيها ولا تسليم، ولا يسجد في وقتٍ لا تجوز فيه الصلاة؛ هذا قوله في "موطئه"، وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه] اهـ.
وقال الإمام الشيرازي الشافعي في "المهذب" (1/ 163، ط. دار الكتب العلمية): [وحكم سجود التلاوة حكم صلاة النفل؛ يفتقر إلى الطهارة، والستارة، واستقبال القبلة؛ لأنها صلاة في الحقيقة] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع" (3/ 131، ط. دار الفكر): [وقوله: (هي شرط في صحة الصلاة) هذا مجمع عليه، ولا تصح صلاة بغير طهور؛ إما بالماء، وإما بالتيمم بشرطه، سواء صلاة الفرض والنفل، وصلاة الجنازة، وسجود التلاوة والشكر؛ هذا مذهبنا وبه قال العلماء كافة] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (1/ 444، ط. مكتبة القاهرة): [(ولا يسجد إلا وهو طاهر) وجملة ذلك: أنه يشترط للسجود ما يشترط لصلاة النافلة؛ من الطهارتين من الحدث والنجس، وستر العورة، واستقبال القبلة، والنية، ولا نعلم فيه خلافًا] اهـ.
وقال الإمام المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (2/ 193، ط. دار إحياء التراث العربي): [(وسجود التلاوة صلاة) فيشترط له ما يشترط للنافلة، وهذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به أكثرهم] اهـ.
قال العلامة ابن سيد الناس [ت734هـ] في "النفح الشذي شرح جامع الترمذي" (1/ 49، ط. الصميعي): [وأجمَعَتِ الأمة على تحريم الصلاة بغير طهارة من ماء أو تراب، ولا فرق بين الصلاة المفروضة والنافلة، وسجود التلاوة والشكر، وصلاة الجنازة] اهـ.
وقال العلامة أبو حيان الأندلسي [ت745هـ] في "البحر المحيط في التفسير" (5/ 264، ط. دار الفكر): [ولا خلاف في أنَّ شرطَهُ شَرْطُ الصلاة؛ من طهارة خبث وحدث، ونيَّة، واستقبال] اهـ.
هل يشترط الطهارة لسجود التلاوة
۞ وخالفهم في ذلك جماعةٌ من أهل العلم: فذهبوا إلى عدم اشتراط الطهارة لسجود التلاوة، وممن قال بذلك: الإمام ابن حزم في "المحلى بالآثار" (1/ 97، ط. دار الفكر)، والشيخ ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (1/ 349، ط. دار الكتب العلمية)، والعلامة الونشريسي المالكي في "المعيار المعرب" (1/ 144، ط. وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية للمملكة المغربية)، والعلامة الشوكاني في "نيل الأوطار" (3/ 125، ط. دار الحديث).
- واستدلوا على ذلك بما يلي:
- أولًا: ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه كان "يَنْزِلُ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَيُهْرِيقُ الْمَاءَ، ثُمَّ يَرْكَبُ، فَيَقْرَأُ السَّجْدَةَ فَيَسْجُدُ وَمَا تَوَضَّأَ" أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" من حديث سعيد بن جبير رضي الله عنه.
وما رُوي عن الشعبي: فِي الرَّجُلِ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ؟ فقَالَ: "يَسْجُدُ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ" أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف".
- ثانيًا: ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ" أخرجه البخاري في "صحيحه".
- ثالثًا: بأن سجود التلاوة ليس صلاةً؛ لكونه ليس بركعة حتى يكون صلاةً أو في حكم الصلاة؛ فجاز فعله بلا وضوء.
قال الإمام ابن حزم في "المحلى بالآثار" (1/ 97، ط. دار الفكر): [والسجود في قراءة القرآن ليس ركعة ولا ركعتين فليس صلاة، وإذ ليس هو صلاة؛ فهو جائزٌ بلا وضوء، وللجنب وللحائض، وإلى غير القبلة؛ كسائر الذكر، ولا فَرْق، إذ لا يلزم الوضوء إلا للصلاة فقط] اهـ.
- ويناقش ذلك بما يلي:
- أولًا: كما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جوازُ السجود للتلاوة بغير وضوء، ورُوي عنه أيضًا عدم جواز ذلك، وإمكان الجمع بين الروايتين يُزيل ما بينهما من تعارض، وينفي نسخ إحداهما الأخرى، على القول بأن حكم الحديثين الرفع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد تقرر في قواعد الشرع أن "الجمع أَوْلَى من الترجيح"، وأن "إعمال النَّصِّ أَوْلَى من إهماله".
قال الإمام القرافي في "الذخيرة" (1/ 135، ط. دار الغرب الإسلامي): [إذا تعارض دليلان: فالعمل بكل واحد منهما من وجهٍ، أَوْلَى من العمل بأحدهما دون الآخر] اهـ.
والجمع بين الروايتين ممكن من وجهين:
- الأول: أن المراد من نهي ابن عمر رضي الله عنهما عن السجود بغير طهارة: هو الطهارةُ الكبرى -أي: الخلو من الحدث الأكبر- فلا تصح سجدة التلاوة لمن به حدثٌ أكبر، وهذا أصل في اشتراط الطهارة فيها، وتصح لمن به حدث أصغر.
- الثاني: أن النهي عن السجود بغير طهارة محمولٌ على ما إذا كان المسلم في حال الاختيار والسعة، وصحة السجود بغير طهارة محمولة على ما إذا كان في حال الضرورة والمشقة فقط.
والوجه الثاني هو الأَوْلَى؛ حيث لم يَقُل بعدم اشتراط الطهارة لسجود التلاوة أحدٌ من الصحابة أو التابعين -إلا ما نُقِلَ عن الشعبي من ذلك-. وعليه: فيكون عدم الطهارة للسجود استثناءً عند وجود عذر يمنع من التطهر مع الاضطرار إلى السجود؛ كأن يكون في جَمعٍ سجدوا للتلاوة فيتحرج من ترك السجود معهم، أو يغلبه التعظيم والخشوع لله تعالى فيسجد فور سماعه أو تلاوته ما طُولِبَ بالسجود عنده. وآيات السجود لا تخلو من الأمر به مباشرة، أو الإخبار بسجود الملائكة وطَلَبِ تقليدهم، أو تَوَعُّدِ من ترك السجود لله تَكَبُّرًا؛ كما في "إرشاد الساري" للعلامة القسطلاني (2/ 286، ط. المطبعة الأميرية).
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 554، ط. دار المعرفة): [وأما ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن الليث عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر": فيجمع بينهما بأنه: أراد بقوله: "طاهرٌ" الطهارةَ الكبرى، أو: الثاني على حالة الاختيار، والأول على الضرورة.. فائدة: لم يوافق ابنَ عمر رضي الله عنه أحدٌ على جواز السجود بلا وضوء إلا الشعبي] اهـ.
- ثانيًا: ما رواه الإمام البخاري في "صحيحه": أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم "سَجَدَ بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ"، لا حجة فيه على جواز السجود بلا وضوء؛ وذلك من وجهين:
- الوجه الأول: أن القول بسجود جميع المسلمين مع احتمال عدم وضوء البعض منهم، لا يصلح دليلًا على حكم شرعي؛ لأن الأدلة لا تُبنَى على الاحتمالات، وقد تقرر في قواعد الفقه أن "الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال"، ومما يُقَوِّي عدم الاعتداد بهذا الاحتمال: ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذه التلاوة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت في الصلاة، فثَبَتَ بذلك وضوءُ جميع مَن حضر تلك الصلاة من المسلمين.
فعن سعيد بن جُبير رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ قرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فسجد، فقال المشركون: أنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير، فسجد المشركون معه.. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ﴾ إلى قوله: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج: 52]؛ وذلك أن نبيّ الله صلى الله عليه وآله وسلم بينما هو يصلي، إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب، فجعل يتلوها، فسمعه المشركون، فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير؛ ذكره الإمام الطبري في "جامع البيان" (18/ 666، ط. مؤسسة الرسالة).
وعلى افتراض أنهم لم يكونوا في صلاة، وأن بعضهم لم يكن متوضئًا وبادر إلى السجود مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خوف فوات الاقتداء به؛ فإنه إن صح الاستدلال به، فإنما يصح على جواز السجود من غير وضوء في حال الضرورة أو المشقة، لا في حالة الاختيار والسعة، فيكون الأصل أيضًا: اشتراط الطهارة له.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/ 554، ط. دار المعرفة): [يَبْعُدُ في العادة أن يكون جميع من حضر من المسلمين.. عند قراءة الآية على وضوء؛ لأنهم لم يتأهبوا لذلك، وإذا كان كذلك فمن بادر منهم إلى السجود خوف الفوات بلا وضوء وأقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك: استدل بذلك على جواز السجود بلا وضوء عند وجود المشقة بالوضوء] اهـ.
- الوجه الثاني: أن الاستدلال بسجود المشركين على جواز سجود التلاوة بغير وضوء أو تطهر: لا يصلح الاحتجاج به؛ لأن سجود المشركين لم يكن سجودًا لتلاوة آية من آيات السجود كسجود المسلمين، ولم يكن عبادة لله تعالى ولا تعظيمًا له، وإنما كان لسماعهم ذكر آلهتهم على لسان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وفرحهم بذلك، مع كونهم مما لا يصح لهم سجودٌ ولا وضوءٌ قبل الإسلام؛ فبطل الاحتجاج بفعلهم.
قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (18/ 664): [لما سمعت قريش ذلك فَرِحُوا وَسَرَّهُم، وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم.. فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة سجد فيها، فسجد المسلمون بسجود نبيهم تصديقًا لما جاء به واتباعًا لأمره، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم لما سمعوا من ذكر آلهتهم] اهـ.
قال الإمام ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (3/ 57، ط. مكتبة الرشد): [ذهب فقهاء الأمصار إلى أنه لا يجوز سجود التلاوة إلا على وضوء، فإن ذهب البخاري إلى الاحتجاج بقول ابن عمر رضي الله عنه والشعبي: نسجد مع المشركين؛ فلا حجة فيه؛ لأن سجود المشركين لم يكن على وجه العبادة لله والتعظيم له، وإنما كان.. من ذكر آلهتهم من قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ۞ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم: 19-20].. فلا يُستنبط من سجود المشركين جواز السجود على غير وضوء] اهـ.
بالإضافة إلى أن تبويب الإمام البخاري لذلك الحديث تحت باب (المشرك نجس ليس له وضوء) يستفاد منه: أنَّ من ليس له وضوءٌ وهو مقدمة العبادة؛ فكيف يكون له سجودُ عبادةٍ يستدل بها على حكم من الأحكام!
قال الإمام ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (3/ 57): [الاحتجاج بقول ابن عمر رضي الله عنه والشعبي: نسجد مع المشركين، فلا حجة فيه.. لأن المشرك نجس لا يصح له وضوءٌ ولا سجودٌ إلا بعد عقد الإسلام، وإن كان أراد البخاريُّ الردَّ على ابن عمر رضي الله عنه والشعبي بقوله: "والمشرك نجس ليس له وضوء"؛ فهو أشبه بالصواب إن شاء الله تعالى] اهـ.
- ثالثًا: القول بأن سجود التلاوة ليس صلاةً فيجوز بدون طهارة: غير مُسَلَّمٍ به؛ لأنه وإن لم يكن على هيئة الصلاة التامة لِخُلُوِّهِ من القراءة والركوع، إلا أنه جزءُ صلاة وفي معناها، وله حكمها؛ إذ يشترط فيه تكبيرٌ وقِبلةٌ على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، فشابه بذلك صلاة الجنازة حيث لا ركوع فيها ولا سجود، ومع ذلك سمَّاها الشرعُ صلاةً وأثبت لها حكمها.
قال الإمام الشيرازي الشافعي في "المهذب" (1/ 163): [وحكم سجود التلاوة حكم صلاة النفل.. لأنها صلاة في الحقيقة] اهـ.
وقال العلامة ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام بأحاديث الأحكام" (4/ 456، 457، ط. دار النوادر): [اسم الصلاة منطلقٌ على سجود التلاوة، وقد أخذوا منه اشتراطَ شروطِ الصلاة على ما هو مذهب المشهورين من العلماء] اهـ.
وهيئة السجود هي أقرب ما يكون العبد فيها إلى ربه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى اللهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه"؛ فكان القول باشتراط الطهارة فيه أَوْلَى وأَلْيَقَ بتعظيم الله تعالى وتقديسه، بألَّا يُقْبِل عليه عبده إلا وهو طاهرٌ من كل حدث، خاصة أن سجود التلاوة ليس فرضًا؛ فجاز تركه بلا إثم إن لم يكن على طهارة، مراعاةً للتأدب في حضرة الله المولى تعالى.
وفي الذكر سعةٌ لمن لم يسجد لعذرٍ ولو كان متطهرًا؛ كأن يقول: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
قال العلامة القليوبي في "حاشيته شرح المحلي على المنهاج" (1/ 235، ط. دار الفكر): [يقوم مقام السجود للتلاوة أو الشكر ما يقوم مقام التحية لمن لم يُرد فعلها ولو متطهرًا؛ وهو: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر] اهـ.
وقال العلامة سليمان الجمل في "حاشيته على شرح المنهج" (1/ 467، ط. دار الفكر): [فإن لم يتمكن من التطهير أو من فعلها لِشُغْلٍ قال أربع مرات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قياسًا على ما قاله بعضهم من سن ذلك لمن لم يتمكن من تحية المسجد لحدث أو شغل وينبغي أن يقال مثل ذلك في سجدة الشكر أيضًا] اهـ.
وبناءً على ذلك: فإن سجود التلاوة عند مواضعه من القرآن الكريم سنة مؤكدة في حق التالي والسامع؛ فيثاب فاعله ولا يؤاخذ تاركه، ويشترط له الطهارة من الحدثين الأكبر والأصغر، وفي الذكر سعةٌ لمن لم يسجد ولو كان متطهرًا؛ كأن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.