رئيس التحرير
عصام كامل

د. ياسمينا شاهين تكتب: نخلة رأس السنة

د. ياسمينا شاهين
د. ياسمينا شاهين

عندما تتوارى الثوابت خلف جدران الضجيج، عندما يخيمها ظلام العبث وتسدل عليها ستائر الغفلة.

عندما ترتجف أطرافها في ماء الصقيع رعبًا من أمواج في بحر لجيٍّ، يغشاه موج من فوقه موج، ظلمات بعضها فوق بعض.

عندما تمكث مرتعدة في غياهب الجب الحزين، تخشى أن تطل ولو برأسها قلق من مجون الماجنين.

عندما تتلعثم الكلمات على شفاهها وهي (صدق) خاشية من بتر لسان الفضيلة.

فيتهادى صوتها رعبا وهي (حق) خوفا من بطش الباطل. 

 

صوت الحق

نحن بكل الأسف نعيش في عالم يخاف فيه صوت الحق من صوت الباطل، لأن الباطل أصبح الآن بكل الأسف ذا قوة غاشمة ساحقة ماحقة لا تبقي ولا تذر. 

نعيش في هذا الزخم من التهلهل الفكري والأخلاقي في غياب أو - بمعنى أصح-  تغييب لمصطلحات يعدونها اليوم (Old fashion) (موضة قديمة). 

هي مصطلحات:- (الثوابت) و(المعايير) و(المبادئ ) و(القيم) و(الضمير الإنساني) و(الحق) و(الباطل) و(الجائز) و(اللاجائز) و(العيب) و(الحرام) و(الحلال) و(السفور) و(الحياء) و(المعقول) و(اللامعقول) و(المنطقي) و(اللامنطقي). 

حالة تخبط في الأفكار والمشاعر والقناعات.. أيضا حالة يرثي لها الضمير الإنساني، ويستاء منها كوكب الأرض الذي يحملنا على سطحه وضج بنا ومنَّا. 

فطول الوقت نتأمل هذا الصخب ونراقب ما يحدث حولنا والآية القرآنية ترن في ذلك الذهن الشارد المندهش دائما: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَومَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}. 

 

احتفالات

فلنتأمل معا مثلًا على سبيل المثال لا الحصر؛ "بزوغ ليلة رأس السنة الميلادية"، والعالم بأثره شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، ينفقون الأموال الطائلة - كل حسب إمكانياته - في الاستعداد المثير والبرَّاق عالميا لاستقبال تلك الليلة الليلاء.. في تنافس واضح على مستوى الدول والأفراد. 

فألعاب نارية وضوئية وزينات وحفلات وملابس تستعد لها مصانع بأسرها ومطاعم وملاهي تلهي الجميع، سفر وفنادق ومنتجعات  و... و... و..... إنفاق ضخم وميزانية عتيدة.

الدول والأفراد فقيرهم وغنيهم.. يخرجون من أموالهم بكل الرضا والقناعة والسعادة والابتهاج.

الكل معه الآن والكل قادر في هذه الليلة !! 

تعالوا نقول لهؤلاء: هناك مساكين على هذا الكوكب الحزين، ينظرون بغصة وحسرة وحيرة ودهشة عليكم. 

حين تصرخون أنتم فرحًا برأس السنة، يصرخون هم جوعًا. 

عندما تتراقصون أنتم على أنغام موسيقى الليلة، ومنكم من يتزين بالعري والسفور، يرتعشون هم وصغارهم من ضراوة البرد حيث لا يجدون ما يكفي لتغطية تلك الأجساد الضعيفة النحيلة الهزيلة الجائعة.

أطفالهم يجوبون الشوارع تسولًا لفتاتكم وبقايا موائدكم وحفلاتكم وربما موبقاتكم. 

وقت أن بعضكم يقضون ليلتهم تلك على أسرة الفنادق الفارهة والأغطية الناعمة الدافئة، هم تكون أسرَّتهم الرصيف وأغطيتهم الفضاء. 

تعالَ نناشد هؤلاء باستبدال هذا الإنفاق بجمع الأموال للفقراء والمحتاجين، في تلك اللحظة ستتذكر فورا الآية الكريمة: (وأحضرت الأنفس الشح). 

أي يغلب على الأنفس البشرية في تلك اللحظة البخل والشح والكل سيدعي عدم المقدرة والفقر والعوز. 

 

لا للكآبة

ليس المطلوب يا سادة هو "الكآبة".

ولن يتفوه عاقل بالدعوة إلى الاكتئاب.

وإنما كله بالمعقول.

كله بميزان الضمير يكون أجمل وأبهج وأفيد أيضا. 

وليكن احتفالك بصحوة ضميرك أقوى من احتفالك بليلة ستمضي هباء إن لم تجنِ فيها من الخير ما يبقى. 

وليكن منهاجك في رأس هذا العام الجديد لا يثنيك عن إدراكك أنه عام قادم بإذن الله من عمرك ستحاسب عليه.

فالليلة ياعزيزي ربما تحتفل وأنت على سطح الأرض، يا عالم ربما ستكون العام القادم في باطنها. حين لا احتفال إلا بالمتقين الصالحين المصلحين. 

ولا مكان ولا مكانة للمفسدين في الأرض وهم يظنون أنهم مصلحون.. "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون".

المبادئ لا تتجزأ والضمائر لا تموت وإنما تُغيب.

والمشاعر لا يمكن السيطرة عليها إجبارًا بالقوانين. 

فمن لم يحركه ضميره وإنسانيته، لن يحركه أي قانون ولا أي عقوبة ولا أي ملامة أو توبيخ. 

ولنتيقن جميعًا ودائمًا وأبدًا من تحقق قول الله تعالى: 

{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}. 

والحق دائمًا ياسادة، فارسًا مكتوبًا له النصر.. الحق هامة وقامة.. رفيع القدر والمقام.. عاليًا، ظاهرًا، أبلج.. تمامًا كالنخلة العالية ذات الطلع النضيد ذات الجلال والبهاء.

{وَالنَّخْل بَاسقَات لَهَا طَلْعٌ نَضِيد}، صدق الله العظيم.

الجريدة الرسمية