على الأرض السلام وبالناس المسرة.. "المعراج" يشهد على لقاء النبي محمد والمسيح.. والموعظة تجمع بينهما
«أنا أولى الناس بعيسى بن مريم فى الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد».. هكذا قال رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح الذى ورد فى كتاب صحيح البخارى.
وُلد النبى محمد، صلى الله عليه وسلّم، فى عام الفيل، الموافق سنة 571 ميلادية، أي بعد ميلاد المسيح بـ571 عامًا، وبُعث برسالته فى عمر 40 عامًا، أي عام 611 ميلادية، وبالرغم من هذه الفترة الطويلة فى الزمن، لكن رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، التقى بالمسيح عيسى ابن مريم، عليه السلام، وكان اللقاء الأول بينهما فى رحلة الإسراء والمعراج.
لقاء النبي بالمسيح
لم يكن اللقاء بسيطًا أو سهلًا، فكانت بداية اللقاء فى رحلة الإسراء إلى بيت المقدس، وصفها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى حديث له ورد فى صحيح البخارى وحدث به الألبانى فى صحيح الجامع صفحة 5135، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتنى فى الحجر وقريش تسألنى عن مسراى، فسألتنى عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربا ما كربت مثله قط، فرفعه الله لى أنظر إليه، ما يسألونى عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتنى فى جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلى، فإذا رجل جعد ضرب، كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلى، أقرب الناس به شبها عروة ابن مسعود الثقفى..".
كانت الصلاة بالأنبياء بداية اللقاء، لكنها لم تكن النهاية، كان هناك لقاء آخر أكثر قربًا وحميمية بين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبين المسيح عيسى، عليه السلام، فى رحلة المعراج إلى السماء الثانية، وذلك ما أكده حديث الإسراء والمعراج، وهو حديث صحيح ذكره البخارى فى صحيحه.
ويقول النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث: "صعدَ بِى حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَة، فَاستفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أرسل إليه؟ قَالَ: نَعَمْ.. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المَجِئ جَاءَ فَفَتَحَ..".
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل إلى السماء الثانية. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَّا خَلَصْتُ إذا يَحْيَى وَعِيسَى، وَهُمَا ابْنَا الخَالَة، قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا، ثُمَّ قَالاَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِى الصَّالِحِ".
عندما صعد النبى، صلى الله عليه وسلم، السماء الثانية والتقى بالمسيح عيسى ويحيى عليهما السلام استقبلاه أحسن استقبالٍ وقالا: "مرحبًا بالأخ الصالح والنبى الصالح".
كان لقاء رسول الله بالمسيح عيسى فى السماء الثانية، كانت هذه هى السماء الوحيدة التى رأى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنين من الأنبياء مرة واحدة، وكان من الواضح أن المعنى من اللقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عيسى عليه السلام على وجه الخصوص، وذلك ما أكده البخارى فى صحيحه.
ملامح عيسى
لم يكن لقاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم بالمسيح لقاء عابرًا، فقد اهتم رسول الله بوصف ملامح عيسى عليه السلام فى أكثر من رواية؛ وفى أكثر من موقف من مواقف الإسراء والمعراج.
اهتم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بوصف عيسى بن مريم عليه السلام، وجاء فى رواية أبو هريرة رضى الله عنه حيث قال رسول، الله صلى الله عليه وسلم، "وَلَقِيتُ عِيسَى". فَنَعَتَهُ النَّبِى صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "رَبْعَة أحمر، كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ" أي "الحَمَّامَ". والرَّبْعة أي المعتدل لا بالقصير ولا بالطويل، أما سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "كأنما خرج من ديماس" أو حمَّام، هو أن رأس عيسى عليه السلام تسقط منها قطرات ماء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث آخر واصفًا عيسى عليه السلام: "إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وإذا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه ليس بينى وبينه نبى، وأنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع، إلى الحمرة والبياض، بين ممصرتين، كأن رأسه يقطر، وأن لم يصبه بلل"
كما تشابه وداع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه فى خطبة الوداع، ووداع المسيح عيسى عليه السلام لحوارييه فى موعظة الجبل.
فقد جمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أصحابه فى حجة الوداع، وقال: "استنصت الناس يا جرير، فقال لهم: "اسمعوا قولى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدًا".
وكانت الكلمات الخالدة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى الوداع "أيها الناس: أن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا.. إلا أن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع"، فأسقط دماء وربا وكبر وغطرسة الجاهلية وأول ربا أسقطه ربا عمه العباس.
وقال "أيها الناس: أن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك فاحذروه على دينكم.. اتقوا الله فى النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم.. فروجهن بكلمة الله، أن لكم عليهن حقًا ولهن عليكم حقًا وشرح بعض هذه الحقوق"
كما أمرهم النبى صلى الله عليه وسلم "أيها الناس اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشى مجدع أي "مقطع الأطراف وهذا مجاز" ما أقام فيكم كتاب الله". وأوصى بالخدم ومن تحت أيديهم قائلًا: أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون ولا تعذبوهم.
وقال "لا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه. لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض. تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا "كتاب الله وسنتى".
تشابهت خطبة الوداع بموعظة المسيح عيسى، عليه السلام، فكانت موعظة الجبل هى أعظم وأجمل مواعظه، وودع المسيح حوارييه مثلما ودع الرسول أصحابه فى خطبة الوداع.
موعظة الجبل
بدأ المسيح موعظة الجبل بالبشرى والتطويب فقال "طوبى للمساكين والحزانى والودعاء والجياع والعطاشى إلى البر والرحماء ولأنقياء القلب وللمطرودين من أجل البر"
وقال المسيح "لا تظنوا أنى جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء بل لأكمله وأتمه، قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجبًا الحكم، وأما أنا فأقول: إن كل من يغضب على أخيه باطلًا يكون مستوجبًا الحكم"
وجاء فى الموعظة "قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تزن وأما أنا فأقول لكم أن من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها فى قلبه. سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث بل أوف للرب أقسامك، وأما أنا فأقول لكم: لا تحلفوا البتة لا بالسماء ولا بالأرض ولا بأورشليم وليكن كلامك: نعم.. نعم، لا.. لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير -يقصد الشيطان".
"سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء كله، ومن سخرك ميلًا فاذهب معه اثنين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده".
وقال المسيح: "سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول: أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم.. طوبى لصانعى السلام لأنهم أبناء الله يدعون.. أنتم ملح الأرض ولكن أن فسد الملح فبماذا يملح".
كان تشابه الوداع بين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبين المسيح عيسى، عليه السلام، كأنه يخرج من بوتقة واحدة، يأمر بالعدل والرحمة وينهى عن قتل النفس والربا والكراهية والفساد.
نقلًا عن العدد الورقي…،