الدوسة.. حكاية كرامة منعت بفرمان عال
بقلم/ مصطفى زايد
الباحث في الشأن الصوفي
أعاد قرار شيخ المشايخ عبد الهادي القصبي مؤخرًا بمنع ممارسة الدوسة باعتبارها من الطقوس التي ابتدعتها الطريقة الرفاعية، الجدل حولها والأساس الذي زاحمت فيه هذه العادة التي بغضها العلماء وأصيب لأجلها المئات من أبناء الصوفية عبر السنوات المتعاقبة.
ففي الوقت الذي روج مؤخرًا بانتمائها إلى الطريقة الرفاعية، كان لكتب التاريخ عامة والتصوف والاستشراق خاصة رأيهم في هذه القضية التي تعود بجذورها إلى طريقة صوفية أخرى، أو بالأحرى كرامة صوفية تحولت إلى طقس منبوذ.
فـ"الدوسة" هي مظهر من مظاهر الاحتفال الصوفي الذي انتشر مؤخرًا لدي أبناء الطريقة الرفاعية، يقوم المحتفلون خلالها بوضع السيوف على أعناقهم في الوضع وقوفًا أو ركوعًا أو منسدحين على الأرض فيما يقوم الشيخ بالدوس بقدمه على تلك السيوف، وبالعودة إلى أصلها فثمة خلط في الأوراق لدى نسبتها إلى الرفاعية خاصة وأنها كرامة ظهرت على يد الشيخ يونس واقتفى أثره شيخ الطريقة السعدية ونقيب الأشراف وشيخ المشايخ في عصره الشيخ خليل البكري الصديقي المعروف بالشيخ البكري، والتي أبطلت بفرمان خديوي بعد عام من رحيله.
يذكر المؤرخ البريطاني ألفريد بتلر في كتابه "البلاط الملكي المصري"، مراحل ظهور الدوسة وموقف الدولة منها حتى اتخاذ قرار إبطالها فيقول، أن أصل تلك العادة وظهورها كان على يد شيخ السعدية ويصف تلك الاحتفالات في عهد الخديوية فيقول: "وصل الخديوي - وهو الخديوي توفيق- بحلول منتصف الظهيرة ونزل أمام خيمته، بعدها بقليل انطلقت همهمات وغمغمات تشير إلى اقتراب موكب الدراويش، وما هي إلا بضع لحظات حتى شاهدنا صفًا من الرايات الخضراء والحمراء مزخرفة بآيات من القرآن تنطلق إلى الأمام، ودفع عناصر مجموعة أخرى المسامير الصلبة في خدودهم وأذرعهم، وانشغل قسم ثالث في قرع الطبول ولف الرتالات (جمع رتالة، وتشبه الشخشيخة لكن طريقة عملها مختلفة)، وانبرى بعضهم في إدماء وجوههم وصدورهم بالمُديات والخناجر، بينما أخذ آخرون منحنى أكثر هدوءًا فرفعوا سيوفًا في الهواء نصالها مسلطة على حناجرهم، في رمزية للتضحية بالنفس".
ويكمل: "معظم الدراويش كانوا معممين في زيهم العربي، بينما ارتدى آخرون ثيابًا غريبة تخص قبائل بعينها، وحلق البعض رؤوسهم تاركين خصلة طويلة تتطاوح على أكتافهم، ولبس البعض دروعًا، وظهرت طائفة أخرى عراة الصدور حتى خصورهم، وعندما دخلوا المضمار أخذوا في الاندفاع بشدة، وزاغت عيونهم وأرغت أفواههم كالمخبولين، وشرعت مجموعة منهم في شق الثعابين بالأيدي وتقطيعها بالأسنان بشكل عنيف جدًا، ثم تناول أجزاء منها بنهم مفرط، ناهيك عن أكل الزجاج والنار".
ويمضي في حديثه: "عند اكتمال وصول المجموعات ووقوفهم على الأبسطة والحصر، كل في مكانه، صدرت إشارة لهم فانبطحوا جميعًا على بطونهم بشكل عنيف، وأخذ كبراؤهم في رصهم، والتأكد من أن أجسامهم ملتحمة ولا توجد بينها ثغرات، وكان البائسون يرتعشون ويتمتمون بأفواه مطبقة (يا الله... يا الله)، ثم خلع المرافقون نعال الراقدين ووضعوها تحت وجوههم، كما أمسكوا بكعوبهم وجذبوها جذبة خفيفة حتى يساووا بين أجسادهم في خط واحد، بغية خلق مسطح عريض وممهد للحصان، بعيدًا عن الرقاب والأرجل، وعندما انتهى تنظيم الصف بدأ تحرك الفرس الذي يحمل كبير الدراويش، مرتديًا عمامة خضراء كبيرة، وقفطانًا جملي اللون، وزنارًا مرقشًا".
ويروي أن الخديوي توفيق قال لهم كأجانب وهو يصف المحمل المبارك الذي عاد بالحجيج من مكة: "أدعم هذا الاحتفال الهام في ديننا طالما لا ضير فيه ولا أذى، العبرة عندي ألا يحتوي الاحتفال على ممارسات بربرية متوحشة تُثير الامتعاض، كما يحدث في ظرف أيام قليلة حين تشهدون معي دوسة الدراويش التي أتحفظ عليها، ولي فيها رأي مختلف، ورغم ذلك لا يبدو إبطالها أمرًا ممكنًا".
ومما يؤكد أن الطريقة السعدية هي أصل (الدوسة) ما قاله المستشرق الإنكليزي إدوارد لين الذي أقام في القاهرة فترة، عن طقوس "الدوسة"، في كتابه "المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم"، قائلًا: "غالبية الدراويش لم يمسهم سوء، بل وثب كل منهم واقفًا بعد ما مر الحصان عليه، نظرًا لكرامات شيوخ الطريقة السعدية التي منحت الدراويش قوة خارقة، مكّنتهم من تحمل مرور الحصان على أجسامهم دون أن يلحقهم أذى".
يكشف المؤرخ البريطاني عن رغبة الخديوي توفيق في إلغائها وتردده كثيرًا في اتخاذ هذا القرار الغاية في صعوبة وكيف حالف القدر من تحقيق رغبته فيقول: "بالرغم من علمه بوحشية الاحتفالات وهمجيتها فإنه لم يمتلك العزم لإلغاء عادة دينية متأصلة استحوذت على مخيلة الناس، وتجاسرت على الاختلاف معه في الرأي، فنبّهته إلى أن من واجبه أن يحسم قضية إبطال هذا الاحتفال وعدم السماح باستمراره، وعندما أخبرته كيف عاينت البؤساء المساكين وهم يتلوّون من الألم علّق قائلًا: ′الفرس ليس منتعلًا، أصدرت أوامر خاصة بألا يحدث ذلك′، فأجبته: معذرة، ولكني رأيت قدميه بأم عيني، وتبيّن لي أنهما مزودتان بحدوتين من الحديد".
ويكمل: "توفي الشيخ البكري، شيخ الدراويش، ثم مندوبه الذي وطئ بحصانه الأجسام لسنوات، ثم ما لبث أن سقط الحصان المستخدم في الدوسة مريضًا، فشرع الناس يتساءلون: ما هذا الذي يحدث بعد إعراب أفندينا عن رغبته في إبطال الدوسة؟، لماذا يموت الشيخ البكري أولًا، ثم الشيخ الذي يعتلي الحصان، ثم يخر الحصان مريضًا، ولا نعرف من سيلقى حتفه باكرًا، من المؤكد أن الله يقف مع الخديوي ويؤيده، مؤكدًا أن الخديوي نجح في إبطال الطقس الذي وصفه بتلر بـ"الدموي".
لم يتوقف الخديوي عند حد إبطالها بل سعى من خلال الأزهر أن يبين الحكم الشرعي فيها، فيقول الدكتور محمد عمارة، في كتابه "الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده"، وكذلك محمد رشيد رضا في مؤلفه "تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده"، رأي الشيخ محمد عبده وعلماء الأزهر في إبطال "الدوسة"، حيث لعب الشيخ محمد عبده وقتها دورًا في تفصيل حرمتها وتأييد إبطالها ونشر رأيه في الوقائع المصرية.
وتحت عنوان "تنبيه رسمي... بطلان الدوسة" الذي نشر في "الوقائع" (العدد 1038 في 15 فبراير لعام 1881، كتب الشيخ محمد عبده يقول: "أطلقنا في بعض أعداد جريدتنا السابقة (مقال نشر في العدد 1035) من عهد قريب لسان الشكر والثناء للجناب الخديوي، وهيئة الحكومة المصرية الحاضرة، وللسيد البكري، على عنايتهم بإبطال بدع كثيرة ليست من الدين في شيء، بل هي مناقضة للدين المحمدي على خط مستقيم، ومن أفظعها الدوسة، وهي أن ينطرح الناس مصطفين أحدهم لجنب الآخر، ثم يعلو أحد المشايخ على ظهورهم بحصان يدوسهم واحدا بعد واحد، حتى ينتهي إلى آخرهم؟".
ويكشف الشيخ محمد عبده عن دور شيخ الأزهر ومفتي الجمهورية في إبطال احتفال "الدوسة"، فيقول: "وإنا لنعلم علم اليقين أن شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية، قد وقع لديه هذا الأمر، أعني إبطال الدوسة، موقع الاستحسان؛ لعلمه أنها كانت من المنكرات الشرعية، وكان يتمنى التفات الحكومة إلى إبطالها، وهو متشكر من الحكومة التي أقرت السيد البكري على إزالتها، ولما عاد الخديوي للمذاكرة معه في هذا الشأن، بين شيخ الأزهر ما في هذه البدعة من المحظورات الشرعية، كإهانة المؤمنين، والتعرض للخطر، فإنه لا يؤمن أن تفلت رجل الحيوان الضخم كالحصان الذي يركبه الشيخ للدوسة، فترض عضوًا يابسًا أو تبتك آخر رخوًا، ويكون فيه تلف المصاب، وإن التعرض للخطر من المحظورات الشرعية المحرمة الارتكاب".
ووفقًا للشيخ الراحل، أمر الخديوي شيخ الأزهر أن ينبه على بعض المشايخ ليبينوا ذلك للعامة، حتى يقتنعوا بحرمة هذه البدعة، مؤكدًا: "نبّه على كثير من الوعاظ والمدرسين، وأوعز إليهم أن يشرحوا للعامة حقيقة الأمر، ويقفوهم على أن أمثال هذه البدع مما لا أصل له في الدين، على أن أصل الدوسة فيما تقول العامة كانت كرامة للشيخ يونس، بأن يدوس حصانه على آنية من الزجاج ولا تنكسر، وهي مرة واحدة، فكيف تبدل الزجاج بالإنسان، وصارت عادة مستقرة".