«الأمهر في قراءة أشعات المخ».. الدكتورة مها زكي تكشف تفاصيل رحلتها لاكتشاف «المتلازمة الجديدة»
«متلازمة زكي».. مصطلح ظهر مؤخرًا في الأوساط الطبية، لم يهتم به الكثيرون، لم يشغل بالهم الاسم العربي الملتصق بـ«المرض المكتشف»، ربما لانشغال البعض بـ«مجريات الحياة»، وربما لأن الأمر يحتاج إلى مزيد من البحث والتقصي للتعرف أولًا على ما تعنيه «متلازمة»، ثم الانتقال إلى حكاية «زكي» الذي التصق اسمه بـ«المتلازمة».
أما «المتلازمة» فهي مجموعة من العلامات والأعراض الطبية المرتبطة مع بعضها، والمتعلقة غالبًا بمرض أو اضطراب معين، وفيما يخص «زكي» فإنه الاسم الثاني للدكتورة «مها» الباحثة المصرية التي أطلق فريق علماء الطب الجيني بمعهد الجينوم التابع لوكالة العلوم والتكنولوجيا والبحوث في سنغافورة، ومعهد رادي للأطفال للطب الجيني، في سان دييجو كاليفورنيا، اسمها على هذا المرض الوراثي الجديد، والذي يسبب العديد من التشوهات لدى الأطفال، باعتبارها أول من اكتشفته.
رحلة عالمة
«د. مها» التي ترأس حاليًا قسم الوراثة الإكلينيكية بالمركز القومي للبحوث، علاقتها بـ«الوراثة» لم تكن مجرد «عمل وظيفى»، لكن «الشغف» هو سر النجاح، وتحديدًا نجاحها فيما يعرف طبيًّا بـ«الوراثة العصبية»، التخصص الذي تعشقه «د. مها»، التي التحقت بقسم الوراثة البشرية بالمركز القومي للبحوث منذ عام ١٩٨٦، ثم حصلت على الماجستير ثم الدكتوراه التي كان موضوعها عن صغر حجم رأس الجنين وتكوين المخ تحت إشراف عالمة الوراثة الراحلة الدكتورة سامية التمتامي، وذلك عام 1998، ومن هنا تخصصت في مجال الوراثة الإكلينيكية وخاصة الوراثة العصبية.
«د.مها» لديها أكثر من 195 بحثًا منشورًا في دوريات علمية كبيرة مثل «نيتشر» و«ساينس»، وتم من خلال هذه الأبحاث وبواسطة التشخيص الدقيق للمرضى اكتشاف عدد كبير من الجينات، ما ساهم في إضافة كبيرة للعلم وللبشرية للحد من الأمراض الوراثية ورسم خريطة جينية لأمراض وراثية كثيرة لم تكن محددة من قبل، كما تم من خلال هذه الأبحاث تحديد الخواص الظاهرية لبعض الأمراض، لم يتم التعرف عليها من قبل حتى تعد مرجعًا للأطباء للمساعدة في التشخيص.
قائمة اكتشافات «د. مها» لا تضم فقط المرض الذي بات يعرف بـ«متلازمة زكي»، فقد سبق أن اكتشفت جينًا متسببًا في ضمور مخيف موجود في أكثر من 13 عائلة مصرية، وتسبب لهم في ظهور ملامح معينة، وعند إجراء مسح جيني ووجدوا أن هذا الچين يؤثر على المخيخ، ومن هنا اكتشفوا مرضًا يشبه المتلازمة يتسبب في إعاقة بالمخيخ وتغيير ملامح الوجه، كما اكتشفت متلازمة خطيرة تتسبب في التصاق جذع المخ بطبقة الأم الحنون، والتي تتسبب في إعاقة كلية جدا، بالإضافة إلى صغر حجم الرأس، وكانت تلك المتلازمة أول مرة توصف في العالم كله في هذا البحث.
تفاصيل الاكتشاف
أما فيما يخص «متلازمة زكي» فتروي «د.مها» تفاصيل هذا الاكتشاف، قائلة: «أعمل في مجال الوراثة الإكلينيكية، لذا أفحص المريض جيدا وأختبر حالته، حتى أعرف نوع المرض أو المتلازمة المصاب بها، ونحاول إيجاد حل لها على هذا الأساس، إلى أن جاءت سيدة أم لطفلين كان أكبرهما عمره نحو ٨ سنوات، والثاني عمره 5 سنوات، وكان بهما ملامح غريبة مثل صغر حجم الرأس والشعر الخفيف بالإضافة إلى إعاقات بالأطراف والعين والقلب والكلي، بالإضافة إلى تأخر ذهني، وكانت السيدة تريد حلًا لأنها ترغب في الحمل مجددا، وتخاف أن يأتي مولودها الثالث بنفس الإعاقات، وبدأت في دراسة حالة الطفلين، ولم أجد لها أي حالات مشابهة من قبل، وكنت مهتمة منذ عام 2006 بدراسة الچينات النادرة والصفات المتنحية التي تظهر، واكتشفت أن تلك الحالة بالتأكيد ناتجة عن متلازمة جديدة وجين نادر يتسبب في تلك الإعاقات أثناء تكوين الأجنة».
«البحث».. واحدة من المهارات التي تتقنها «د.مها»، ففور اكتشافها «المتلازمة الجديدة» سارعت بالتواصل مع الدكتور جوزيف جليسون، أستاذ علم الأعصاب بمعهد رادي للأطفال للطب الجيني في كلية الطب بجامعة كاليفورنيا في سان دييجو، بشأن تلك المتلازمة الجديدة، وذلك في 2011، وبعد دراسات عديدة في دول أخرى تم اكتشاف حالتين في سنغافورة مشابهتين لتلك الموجودة في مصر، ليقرر «د. جليسون» إعادة الأبحاث مرة أخرى ليكتشف أن الجين الذي يتسبب في ذلك هو جين يسمى (ws)، وهو الذي يؤثر على تكوين الجنين، ولذلك أجريت هذه الدراسات على حيوانات التجارب.
المتلازمة الجديدة
«الاكتشاف» لم يكن المحطة الأخيرة التي توقف فيها قطار شغف «د.مها»، حيث تابعت رحلة البحث عن علاج للمتلازمة الجديدة، غير أنها أكدت أنه «حتى وقتنا الحالي لم يكتشف علاج بشري حتى الآن، لكننا لا زلنا في مرحلة حيوانات التجارب حيث حقنت فئران التجارب بالجين المتسبب في المتلازمة، فخرجت الفئران المولودة مصابة بنفس الإعاقات، ثم حقنت فئران أخرى لديها الجين المتسبب في المتلازمة بمحفزات لهذا الچين المصاب، فكانت النتائج أفضل وتراجع عدد الإعاقات بنسبة 75%، لذا فنحن حتى الآن في مرحلة التجارب على الحيوانات، لكنها الخطوة الأولى لإيجاد علاج».
وبنبرة لم تخل من فخر، روت «د.مها» كواليس إطلاق اسمها على المتلازمة الجديدة، وقالت: «قرر الباحثون تسمية المتلازمة باسمي نظرًا لاكتشافي أول حالة مصابة بها في مصر، وكان الفريق البحثي يتكون من باحثين من مصر والهند وسنغافورة والبرازيل والإمارات وأمريكا، لكن كان دائمًا المشرف على البحث يصفني بأني أمهرهم في قراءة أشعات المخ، حتى أنه جرى اختياري عضوا في الشبكة الأوروبية لتشوهات المخ، رغم أن تلك الشبكة تعد مشروعا كبيرا جدا مقتصرا على أوروبا فقط، لكني كنت العضو الوحيد من الشرق الأوسط».
وتابعت: لم يتم تحديد عدد المصابين بالمتلازمة حتى الآن، بعد لكن بعد نشر البحث بمواصفات تلك المتلازمة وأعراضها ستكون هي المرشد في اكتشاف الحالات؛ لأنها قد تكون هناك حالات كثيرة موجودة مصابة بها، لكن لم يتم تشخيصها على أساس تلك المتلازمة.
«البحث عن الأمراض الجديدة» ليس العمل الوحيد الذي يشغل عقل «د.مها»، لا سيما أنها حاليا عضو في اللجنة العليا لعلاج الضمور الشوكي لدى الأطفال، وهو المنصب الذي أتاح لها أن تؤكد بأن «الطفرة التي يشهدها القطاع الصحي، والتي امتدت إلى أمراض الضمور العضلي الشوكي، بفتح 23 عيادة لعلاج أمراض الضمور العضلي الشوكي على مستوى الجمهورية، إضافة إلى افتتاح عيادات متخصصة في الأمراض الوراثية عموما، ستحدث نقلة كبيرة في الصحة العامة، وستسهل مهمة عمل حصر بالأمراض الوراثية وأسبابها وأنواعها وإيجاد حلول لها، خاصة أن زواج الأقارب منتشر جدا في مصر، وهو السبب الرئيس في انتشار الأمراض الوراثية وظهور الصفات المتنحية التي تنتشر بمجرد التحامها مع بعضها البعض».
نقلًا عن العدد الورقي…