فضل المواظبة على صلاة قيام الليل
أجر قيام الليل في الدُّنيا والآخرة يجتمع في قيام الليل حصول الأجر للعبد في الدُّنيا، والآخرة؛ فتتحصّل اللذّة بالقيام في الدُّنيا ويعيشها في لحظتها، كما يجد في صحيفته في الآخرة أجرًا عظيمًا، ومقامًا رفيعًا، ومن الفائدة التي تعود على العبد من قيام الليل في الحياة الدُّنيا أنّ صلاته تكون رادعًا له عن اقتراف المعاصي، أو إتيان المُنكَرات، كما يتجنّب الفحشاء؛ لقوله -تعالى-: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، كما أنّ القيام طاردٌ للعجز، والوَهَن، والكسل عن المسلم، وذلك أدعى لأن يتحصّل المسلم على الخير الذي يبغيه في دُنياه؛ إذ يُناجي ربّه ويدعوه بمصالح الدُّنيا، فيستجيب الله دعاءه؛ قال -صلّى الله عليه وسلّم-: (إنَّ مِنَ اللَّيْلِ ساعَةً، لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا، إلَّا أعْطاهُ إيَّاهُ).
أفضل وقت لقيام الليل
الوقت المشروع لقيام الليل يبدأ منذ صلاة العشاء، وينتهي بطلوع الفجر، وبذلك يكون وقته واسعًا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى صلاة الوتر، وصلاة التراويح، وقد أجاز العلماء أن يُصلّي المسلم القيام في أوّل الليل، أو في أوسطه، أو في آخره، وهو فِعل الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-؛ إذ كان يُنوّع في أوقات نومه بالليل، فمتى تيسّر له قام إلى الصلاة، وقد ورد عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قوله في فِعل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (ما كنَّا نشاءُ أن نرى رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في اللَّيلِ مصلِّيًا إلاَّ رأيناهُ ولاَ نشاءُ أن نراهُ نائمًا إلاَّ رأيناه).
ويُشار إلى أنّ للعلماء في أفضل وقت لقيام الليل أقوال، وبيانها فيما يأتي:
جمهور الفقهاء: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة، والشافعيّة، والحنابلة إلى أنّ القيام في السُّدسَين: الرابع، والخامس من الليل أفضل؛ لقول النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْل، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا).
والنصف الأخير من الليل أفضل للقيام لِمَن أراد أن يجعل الليل نصفَين، وإن أراد تقسيمه إلى أثلاث، فقيام الثُّلُث الأوسط أفضل، وينام في الثُّلثَين: الأوّل، والأخير؛ لكون المَشقّة في الوسط أكبر، والمُستيقِظين للصلاة فيه أقلّ، وكره الحنابلة والشافعية قيام الليل كلّه؛ إذ لم يرد عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قام الليل كلّه مُصلِّيًا حتى طلع الصبح إلّا فيما ورد من قيامه في العشر الأواخر من شهر رمضان؛ لحديث عائشة: (كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، إذَا دَخَلَ العَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَرَ). المالكيّة: ذهبوا إلى أنّ الصلاة في الثُّلث الأخير من الليل أفضل لِمَن اعتاد الاستيقاظ فيه، أمّا مَن اعتاد الرقود آخر الليل وعدم الاستيقاظ، فالأفضل أن يحتاط ويُصلّي في أوّل الليل.
فضل قيام الليل
قيام الليل من العبادات التي لها فضائل تعود على العبد بالنَّفع في دُنياه، وآخرته، وقد كثُرَت النصوص التي تحثُّ على قيام الليل، وتدعو إليه في الكتاب، والسنّة النبويّة؛ فقد أمر به الله -تعالى- نبيّه -عليه الصلاة والسلام- فقال: (وَمِنَ الْلّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً لّكَ عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَامًا مّحْمُودًا)
وممّا ورد في الثناء على هذه العبادة وعلى فاعليها في القرآن الكريم، قوله -تعالى-: (وَعِبَادُ الرّحْمََنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىَ الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا* وَالّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجّدًا وَقِيَامًا) ولقيام الليل فضائل عظيمة وجليلة أخرى، يُذكَر منها ما يأتي:
أثنى الله -تعالى- على مَن يقومون الليل، ووعدهم بالجزاء الوافي؛ قال -تعالى-: (تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا*فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
بيَّنَ الله -تعالى- أنّ قيام الليل من علامات المُتّقين، وهم يتّقون بقيام الليل عذابَ الله -تعالى-، ويرجون أن تكون لهم الجنّة، وهي صفة من صفات عباد الرحمن الصالحين؛ قال -تعالى-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ*كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ).
فضَّلَ الله -تعالى- الذين يقومون الليل على غيرهم من الناس بالأجر والمكانة عنده؛ فقال: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).
بيَّنَ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أنّ قيام الليل من أسباب دخول الجنّة، وهو وَعدٌ من الله لعباده؛ قال -صلّى الله عليه وسلّم-: (أيُّها النَّاسُ أفشوا السَّلامَ وأطعِموا الطَّعامَ وصلُّوا والنَّاسُ نيامٌ تدخلوا الجنَّةَ بسلامٍ)، ولا تكون ثمرة قيام الليل في الآخرة فقط؛ فالذي يقوم الليل يشعر بحلاوة، ولَذّة، وراحة، وسكينة في الدُّنيا أيضًا. بيَّن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أنّ أفضل الصلاة بعد صلاة الفَرض هي صلاة قيام الليل؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: (وأَفْضَلُ الصَّلاةِ، بَعْدَ الفَرِيضَةِ، صَلاةُ اللَّيْلِ).
وضَّحَ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أنّ قيام الليل شَرَف المؤمن وعِزّه؛ فهو إثبات حُبّه لله -تعالى-، وإخلاصه له، وإيمانه به، فيُجازيه الله؛ فيرفع مكانته ومنزلته، وهو من الفضائل التي يستحقّ أن يُغبَط عليها المسلم؛ قال -صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه عن جبريل -عليه السلام-: (شرفَ المؤمنِ قيامُهُ بالليلِ).
بيَّن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أنّ قيام الليل سببٌ لتحقيق رحمة الله -تعالى- بالعبد، وبالأمّة؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: (رحمَ اللهُ رجلاٌ قامَ من الليلِ فصلَّى وأيْقظَ امرأتَه فصلتْ فإن أبَتْ نضحَ في وجهِها الماءَ، رحم اللهُ امرأةً قامتْ من الليلِ فصلَّت وأيقظتْ زوجَها فصلَّى، فإن أبَى نضحتْ في وجهِه الماءَ).
وقد أوصى -عليه السلام- أمّته بأن يقوموا الليل لتتحقق لهم فضائل قيامه.
مواعيد قيام الليل
قال الشيخ عويضة عثمان، أمين الفتوى بدار الإفتاء، إن أفضل وقت لصلاة قيام الليل هي أنت تكون في الثّلث الأخير من اللّيل، كما أنه لا يشترط لإدائها وقت معين منه، فتبدأ الصلاة بعدَ انتهاء صلاةِ العشاء إلى طلوع الفجر الثّاني.
واستشهد «عثمان» فى إجابته عن سؤال: «ما هو أفضل وقت لصلاة قيام الليل؟»، بما جاء في الحديث الصّحيح عن النّبي- صلى الله عليه وسلم- قوله: «أحَبُّ الصّلاة إلى الله صلاة داود عليه السّلام، وأحَبُّ الصّيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف اللّيل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يومًا ويُفطر يومًا».
واستدل أيضًا على أن كل الأوقات مناسبة لقيام الليل من بعد صلاة العشاء حتى طلوع الفجر، بقوله - صلى الله عليه وسلم -،«ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له م
ن ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر».
عدد ركعات قيام الليل
اختلف الفُقهاء في عدد ركعات قيام الليل، وجاءت أقوالهم كما يأتي: الحنفية: قالوا إنّ أكثر عدد ركعات قيام الليل هو ثماني ركعات، أمّا أوسطها أربع ركعات، وأقلّها أثنتان، واستدلّوا على ذلك بثبوته عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بالقول والفِعل.
المالكية: بيَّنوا أنّ ما ورد عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- روايتان؛ إحداها تُبيّن صلاته قيام الليل اثنتي عشرة ركعة، والأُخرى تُبيّن صلاته قيام الليل عشرَ ركعات، وعند الجَمع بينهما يظهر أنّه كان يبدأ صلاته بركعتَين خفيفتَين، كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: (كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ، افْتَتَحَ صَلَاتَهُ برَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ)
وكانت عائشة -رضي الله عنها- تعتبر هاتَين الركعتَين من القيام حينًا، ولا تعتبرهما منه حينًا آخر؛ لأنّهما للوضوء وحلّ عُقَد الشيطان؛ فقد قالت في رواية أخرى إنّها عشر ركعات، وقد قِيل إنّها خمس عشرة ركعة، وقِيل سبع عشرة.
الشافعية: بَيَّنوا أنّ قيام الليل من السُّنَن، وليس له عدد مُحدَّد من الركعات، ووقته يكون بعد القيام من النوم، وقبل أداء صلاة الفجر.
الحنابلة: قالوا إنّ هُناك اختلافًا في عدد ركعات قيام الليل؛ لأنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- كان يُصلّي ثلاث عشرة ركعة أحيانًا، فقد جاء أنّه: (كان رسولُ اللَّهِ - صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ - يصلِّي من اللَّيلِ ثلاثَ عشرةَ ركعةً).
كما جاء عن عائشة -رضي الله عنها- قولها: (ما كانَ يَزِيدُ في رَمَضَانَ ولَا في غيرِهِ علَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً)، وكان يقسّمها أربعًا أربعًا، ويُصلّي بعدها الوَتر ثلاثًا، وقد بيّنوا أنّ منها ركعتَي الفجر، وفي رواية أُخرى أنّ منها الوَتر وركعتَي الفجر، وكان يُصلّي بين العشاء والفجر إحدى عشرة ركعة، ويُسلّم بين كُلّ ركعتَين، ثُمّ يوتر، وهذه الروايات جاءت في أحاديث مُتَّفق عليها، ويُحتمل أنّ الروايات التي جاءت فيها الزيادة عن إحدى عشرة ركعة لم تكن ركعتا الوضوء منها، أو أنّه صلّى في ليلة ثلاث عشرة ركعة، وفي ليلة إحدى عشرة ركعة.
وقد ذهبت جماهير السَّلَف والخَلَف إلى جواز الزيادة في قيام الليل عن الأعداد الواردة في الأحاديث؛ فقد جاء عن ابن عبدالبَرّ أنّ المُسلمين أجمعوا على عدم تحديد قيام الليل بعدد مُعيَّن من الركعات، وأنّها من النوافل التي تُقرّب العبد إلى ربّه؛ فمَن شاء فليستكثر، ومن شاء فليُقلِّل؛ واستدلّوا على ذلك بقول النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (عَلَيْكَ بكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فإنَّكَ لا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بهَا دَرَجَةً، وحَطَّ عَنْكَ بهَا خَطِيئَةً) وتخصيص النبيّ -عليه الصلاة والسلام- نفسَه بهذا العدد لا يعني عدم جواز الزيادة عليه؛ بدليل أنّ فِعله -عليه الصلاة والسلام- لا يُخصّص قوله كما هو عند عُلماء الأُصول، وتحديده أفضلَ قيام الليل؛ وهو قيام نبيّ الله داود -عليه السلام-، قال -عليه السلام-: (كانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ويقومُ ثُلُثَهُ، ويَنَامُ سُدُسَهُ) لا يعني عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة، كما أنّه -صلّى الله عليه وسلّم- لم يُحدِّد قيام الليل بعدد مُعيَّن؛ فقد ورد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنّه جمع الناس على أُبيّ بن كعب، وتميم الداريّ -رضي الله عنهما-، اللذَين كانا يقرآن بهم طِوال السُّوَر، ويُصلِّيان إحدى وعشرين ركعة، ثمّ ينصرفون عند صلاة الفجر، كما ورد عنه أنّه جمعَهم على إحدى عشرة ركعة.
أقلّ عدد ركعات قيام الليل اتَّفق الفُقهاء على أنّ أقلّ عدد ركعات قيام الليل يكون بركعتَين خفيفتَين يُؤدّيهما المسلم؛ وذلك لِما ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال: (إذا قامَ أحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلْيَفْتَتِحْ صَلاتَهُ برَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) وأقلّ قيام الليل قيامه بركعة من الوَتر؛ لحديث النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، إذ قال: (الوِترُ حقٌّ، فمن أحبَّ أنْ يوترَ بخَمسِ ركعاتٍ، فليفعلْ، ومن أحبَّ أنْ يوترَ بثلاثٍ، فليفعلْ ومن أحبَّ أنْ يوترَ بواحدةٍ، فليفعلْ ووجب التنويه إلى أنّ المسلم كُلّما زاد في قيامه، كان ذلك أفضل له، وأعظمَ أجرًا؛ وذلك لكثرة الأدلّة الواردة في فَضله.