الشيخ صباح الأحمد.. عام على رحيل أمير القلوب
تحل غدًا الأربعاء 29 سبتمبر، الذكرى الأولى لوفاة أمير الكويت السابق، الشيخ صباح الأحمد، الذي رحل وترك سيرة طيبة داخلية وخارجية بعدما ظلت البلاد في عهدته لمدة 14 عامًا، حفرت مواقفها خلالها اسمه بحروف من نور فى المحافل الإقليمية والعربية والدولية.
عام مر سريعًا على تاريخ 29 سبتمبر 2020، حينما نكست الكويت أعلامها واتشحت بيوتها بالسواد وعمت الأحزان مناطقها، بعد إعلان وفاة أميرها الشيخ صباح الأحمد عن عمر ناهز 91 عامًا، عرفه الكويتيون خلال فترة حكمه أبًا وأخًا وقائدًا أسهم في دفع عجلة التنمية فيها وتحقيق نهضتها وتعزيز استقرارها، وبرحيل الشيخ صباح الأحمد فقدت الكويت أحد كبار قادتها، كما فقد العالم العربي قائدًا حكيمًا لطالما كان حريصًا على توحيد كلمة الأمة ورص صفوفها ووأد الخلاف بين عواصمها، فيما فقد العالم أميرًا للإنسانية وقائدًا للسلام بين مجتمعاته باعتراف الأمم المتحدة.
بداية حكمه
تولى الشيخ الصباح الحكم في بلاده يوم 29 يناير 2006، وحرص على السير على النهج الحكيم الذي سار عليه أسلافه الحكام طوال العقود الماضية، في أداء دور فاعل في مسيرة الأمن والاستقرار في المنطقة ودرء الخلافات بين دولها وتحقيق السلام في مجتمعاتها، وظل وسيطا نزيها نال احترام الجميع.
داخليًّا قاد الأمير الراحل البلاد نحو التطور والتنمية والازدهار في مرحلة صعبة شهدت فيها المنطقة تحديات كبيرة، واهتم ببناء الإنسان باعتباره أثمن الموارد التي يملكها الوطن وعماد نهضته وتطوره ورخائه.
وحظي الشيخ الصباح، حين تولى دفة الحكم باعتباره الحاكم الخامس عشر لدولة الكويت، بتأييد شعبي ورسمي كبير وتمت مبايعته بالإجماع من أعضاء السلطتين التنفيذية والتشريعية في ذلك اليوم الميمون من يناير، ليصبح أول أمير منذ عام 1965 يؤدي اليمين الدستورية أمام مجلس الأمة.
ولطالما عرف الأمير الشيخ صباح الأحمد بانتهاج سياسة حكيمة، حافظ من خلالها على مكانة متميزة للكويت في محيطها الخليجي والعربي والدولي وشهد العالم بأسره نجاحاته الدبلوماسية في نصرة القضايا العادلة للشعوب وحماية البلاد من أي تأثير يهدد كيانها والوصول بها إلى بر الأمان في محيط مضطرب بالتهديدات.
وإذا كانت البلاد قد عاشت تحت قيادته خلال الأعوام الأربعة عشر الماضية، فقد سبقتها عقود من العمل الرسمي تبوأ خلالها عددًا من المناصب فى السلك الدبلوماسي أسهم من خلالها في تعزيز مسيرة بناء الوطن وتوطيد أركانه وترسيخ مكانته.
تكريمه خلال رحلته
ونال أمير الكويت الراحل خلال مسيرته العشرات من الأوسمة والقلادات والأوشحة كان آخرها حصوله في 18 سبتمبر عام 2020 على وسام الاستحقاق العسكري برتبة قائد أعلى من الولايات المتحدة الذي يعد أعلى وسام عسكري يمنح عن جدارة لقائد غير أمريكي تقديرًا لجهوده السامية وإنجازاته المتميزة.
والشيخ صباح الأحمد هو الابن الرابع للأمير الراحل الشيخ أحمد الجابر الصباح الذي توسم في نجله الذكاء منذ صغر سنه، فأدخله المدرسة المباركية، ثم أوفده إلى بعض الدول للدراسة واكتساب الخبرات والمهارات التي ساعدته على ممارسة العمل في المناصب الرسمية.
وبدأت مسيرة العطاء لأمير البلاد الراحل في عام 1954 حينما عين عضوًا في اللجنة التنفيذية العليا التي عهد إليها آنذاك مهمة تنظيم مصالح الحكومة ودوائرها الرسمية.
وفي عام 1955 تولى الشيخ صباح الأحمد منصب رئيس دائرة الشؤون الاجتماعية والعمل، فنظم العلاقة بين العمال وأصحاب العمل لاسيما في ضوء تدفق العمال من دول عربية وأجنبية إلى الكويت، واستحدث مراكز التدريب الفني والمهني للشباب ورعاية الطفولة والأمومة والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة وشجع الجمعيات النسائية والأندية الرياضية.
أولى أمير الكويت الراحل، اهتمامًا بالفنون، فأنشأ أول مركز لرعاية الفنون الشعبية في الكويت عام 1956 وفي عام 1957 أضيفت إلى مهامه رئاسة دائرة المطبوعات والنشر، فأصدر الجريدة الرسمية للكويت «الكويت اليوم» وأنشأ مطبعة الحكومة لتلبية احتياجاتها من المطبوعات وأشرف على إصدار مجلة «العربي».
وأبدى الأمير الراحل اهتمامًا كبيرًا بإحياء التراث العربي وإعادة نشر الكتب والمخطوطات القديمة، فشكل لجنة خاصة لمشروع "كتابة تاريخ الكويت" وأسهم في إصدار قانون المطبوعات والنشر الذي كان له دور مميز في تحقيق الصحافة الكويتية مكانة مرموقة بين مثيلاتها العربية.
المجلس التأسيسي
وبعد استقلال دولة الكويت عام 1961 عين عضوًا في المجلس التأسيسي الذي عهدت إليه مهمة وضع دستور البلاد، ثم عين في أول تشكيل وزاري عام 1962 وزيرًا للإرشاد والأنباء.
في 28 يناير 1963 وبعد إجراء أول انتخابات تشريعية لاختيار أعضاء مجلس الأمة، عين وزيرًا للخارجية لتبدأ مسيرته مع العمل السياسي الخارجي والدبلوماسية التي برع فيها، فاستحق لقب مهندس السياسة الخارجية الكويتية وعميد الدبلوماسيين في العالم، بعد أن قضى 40 عامًا على رأس تلك الوزارة ربانًا لسفينتها في أصعب الظروف والمواقف السياسية التي شهدتها البلاد.
رفع علم الكويت
ويستذكر الكويتيون بكل فخر الدور الكبير للشيخ صباح الأحمد، عندما كان وزيرًا للخارجية حين رفع علم الكويت فوق مبنى الأمم المتحدة بعد قبولها عضوًا فيها في 11 مايو 1963.
ولطالما أعربت الدول العربية عن تقديرها لجهود الشيخ صباح في جمع الأشقاء وسعيه الدؤوب لحل الخلافات، عندما شارك في وضع حد للحرب الأهلية باليمن في أغسطس 1966 وأسهم في توقيع اتفاق سلام بين اليمن الجنوبي واليمن الشمالي في أكتوبر 1972، إضافة إلى نجاحه عام 1984 بإنهاء الحرب الإعلامية وإقامة علاقات دبلوماسية بين سلطنة عمان وجمهورية اليمن الديمقراطية.
اختط الأمير الراحل الشيخ الصباح الأحمد، منذ نحو خمسة عقود منهجًا واضحًا للسياسة الخارجية للكويت، فجنب بلاده أخطارًا كبيرة في مراحل حرجة في تاريخها من خلال انتهاج مبدأ التوازن في التعامل مع القضايا السياسية، ومن أبرزها الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت من عام 1980 حتى عام 1988 وما نتج عنها من تداعيات أثرت على أمن الكويت واستقرارها داخليًّا وخارجيًّا.
وبذل الشيخ صباح طوال سنوات قيادته لوزارة الخارجية، جهدًا كبيرًا في تعزيز وتطوير علاقات الكويت الخارجية مع مختلف دول العالم لاسيما الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن ومع الأمم المتحدة ومنظماتها المتنوعة.
الغزو العراقي
وشهدت الكويت نتيجة ذلك استقرارًا في سياستها الخارجية وثباتًا اتضحت ثماره في الثاني من أغسطس عام 1990، عندما وقف العالم أجمع مناصرًا للحق الكويتي في وجه الغزو العراقي وأثمر ذلك صدور قرار مجلس الأمن رقم 678 الذي أجاز استخدام كل الوسائل بما فيها العسكرية ضد العراق ما لم يسحب قواته من الكويت.
ولعل احتضان دولة الكويت اليوم لعشرات الممثليات الدبلوماسية على أراضيها من سفارات وقنصليات ومراكز لمنظمات دولية وإقليمية، لهو دليل ناصع على نجاح سياسة فقيد الكويت الدبلوماسية وحسن قيادته للسياسة الخارجية الكويتية.
وأسندت إليه مناصب عدة إضافة إلى منصب وزير الخارجية، فعين وزيرًا للإعلام بالوكالة ما بين 2 فبراير 1971 و3 فبراير 1975 وفي 16 فبراير 1978، عين نائبًا لرئيس مجلس الوزراء وفي 4 مارس 1981 تسلم حقيبة الإعلام بالوكالة إضافة إلى وزارة الخارجية حتى 9 فبراير 1982.
في 3 مارس 1985 عين نائبًا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرًا للخارجية حتى 18 أكتوبر 1992 عندما تولى منصب النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية.
في 13 يوليو 2003 صدر مرسوم أميري بتعيين فقيد الكويت رئيسًا لمجلس الوزراء وهي المرة الأولى في تاريخ الكويت التي يتم فيها الفصل بين منصبي ولاية العهد ورئاسة مجلس الوزراء.
الدبلوماسية والاستثمارات
ولم يقتصر نجاح أمير الكويت الراحل عند السياسة الخارجية فقط، وإنما استمر هذا العطاء والنجاح عند توليه قيادة دفة السياسة الداخلية للبلاد، فقد حرص خلال توليه منصب رئاسة الوزراء على تبني رؤية استشرافية للتنمية في الكويت تشمل مختلف قطاعات الدولة وعلى رأسها القطاع الاقتصادي.
ولتعزيز تلك الرؤية وتنفيذها قام الشيخ صباح الأحمد رحمه الله، بتشجيع القطاع الخاص وفتح فرص العمل الحر أمام الشباب الذين وضعهم في مقدمة اهتماماته، من خلال دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، سعيًا إلى تحقيق الهدف الأمثل الذي سعى إليه وهو تحويل البلاد إلى مركز مالي وتجاري إقليمي لتستعيد الكويت دورها التاريخي كـ "لؤلؤة الخليج".
واستمر فقيد الكويت في مسيرة العطاء رئيسًا لمجلس الوزراء حتى يناير عام 2006 عندما اجتمع ذلك المجلس واتخذ قرارًا بالإجماع بتزكيته أميرًا للبلاد وفقًا لقانون توارث الإمارة.
وعلى الصعيد الخارجي، تبوأت الكويت مكانة مرموقة بين دول العالم استحقت عليه اختيارها من قبل الأمم المتحدة "مركزًا للعمل الإنساني" وأطلق على فقيد الكويت حينها لقب "قائد للعمل الإنساني" لا سيما بعد أن استضافت الكويت المؤتمر الدولي للمانحين لدعم الوضع الإنساني في سوريا لثلاث دورات متتالية وقدمت تبرعات سخية لإغاثة اللاجئين السوريين.
ولم تنس الكويت القضية الفلسطينية التي اعتبرتها قضيتها العربية الأولى منذ بدايتها وحتى اليوم، فاستمر الدعم الكويتي للفلسطينيين وازدادت وتيرته في عهد الأمير الراحل.
وعرف عن الشيخ الصباح خلال مسيرته فى العمل الدبلوماسي وبعدها أمير للبلاد، بحبه لمصر وشعبها، ووقف إلى جوار الدولة المصرية فى جميع الأزمات التي مرت بها، وكان مساندًا قويًّا لها في المحافل الدولية، وعندما هدفت جماعة الإخوان "الإرهابية" لإحداث وقيعة بين الشعبين المصري والكويتي، فوت عليهم الفرصة بحكمة معهودة عنه.