رئيس التحرير
عصام كامل

ياسر ثابت

لم يكن يوما داخل سياق أى سلطة أو مؤسسة ولا ساعيا إلى شهرة، بقي مثابرا بلا كلل، يعتصم بالإبداع فى مواجهة مشهد عبثى، وظل ظهره بعيدا عن مأدبة الانحناء، وأولئك الذين ينحرفون باللغة إلى المداهنة والتسول.

 

ياسر ثابت ليس مجرد كاتب تنصرف مسرعا عما يكتبه من أول سطر مثل كثيرين من مدعى الكتابة، إنما هو قابض ببراعة على كل مقومات وأدوات الكتابة، من اللغة والمعلومة والسرد حتى روعة الوصف والتعبير والتجسيد، قارئ نهم للأدب العالمى. هو أقرب إلى ساحر، عندما تقرأ له لاتملك إلا أن تقف مشدوها من فرط بلاغته، موسوعى يملك معلومات غزيرة وعميقة لا قرار لها، لديه قاموس لغوي بحجم امتداد الأفق، مثقف يختزن فى ذاكرته الحديدية العميقة كل معلومات هذا الكون.. هو ملحن - يعزف بقلمه - قيثارة الخلود وأنشودة المجد لكل قرائه، أحتاج وأنا الصحفى المخضرم لأن اقرأ له أولا، ثم أعكف على مذاكرة ما يكتبه لأتعلم منه كيف تكون الكتابة. إصداراته التى تزيد عن الثمانين كتابا يمكن أن تصنع – لمن يقرأها ويتعلم – مدرسة إبداعية فريدة لكل الأجيال.

 

يجابه بما يعتقده، ويضبط المسافة جيدا بينه وبين المؤسسة الثقافية كى يكتب دون قيود أو ضغوط تسرق أصابعه وتصادر أفكاره وتخالف ضميره، يعيش فى صمت، بعيدا عن الأضواء والصراعات، ميالا للعزلة المنتجة غير الممرورة، معافى من سموم الضغينة وسهام الحاسدين الذين لم يجدوا فيه عيبا سوى التقول عليه بأنه يصدر كتابا كل أسبوع، وكأن اعتزال الحياة إلى محراب الكتابة أصبح تهمة، ويقولون عنه ذلك دون أن يقرأوا له شيئا من إبداعاته الكثيرة ومنها وأروعها على الإطلاق من وجهة نظرى "يوميات ساحر متقاعد" و"ذنب" و"مراودة" و"أيامنا المنسية" و"الرومانسيون"، و"حكمة السيقان" و"طقوس الجنون".

 

موهوب وعبقبرى

 

ليس مدينا لأحد إلا للقارئ الذى يبحث ويفكر ويقارن، يدافع عن الأدب الحق، وعن الكتابة البليغة، ولم يعبأ بما يلاقيه من العصف والخسف والتجاهل والنكران، فى غرفة تغالى فى السكون، يفتح مظلة كلماته – كما قال عن نفسه – ليحتمى من الخيانات وخيبات الأمل، ويكتب محموما مثل وحش مسيطر قرر أن يصبح وديعا فى حضرة الجمال.

 

خلاق عندما يكتب فى السياسة، ومدهش عندما يتحدث فى الرياضة، وخبير عندما يحلل فى الاقتصاد، ومبدع عندما يكتب رواية، ومتمكن وهو يكتب فى الأدب، وغواص ماهر عندما يسبح في أعماق التاريخ، وراق عندما يتطرق إلى لغة الجسد، حيث يعرى ويكشف المستور دون أن يجرح أو يخدش بأسلوب ومرادفات بليغة تصيبك بالفرحة والدهشة فى آن واحد.

 

للأسف، هذا الموهوب الفذ العبقرى الخلوق - لم يجد بعد من يُقِّدره القدر اللائق بعطائه وموهبته، لأن المجد فى زماننا لم يعد للمبدعين أمثاله، بل للمطبلين والمنافقين، وهو يردد دائما أن كلمات المحبين والمعجبين أفضل مليون مرة من أى جائزة أو تكريم.

صاحب الـ 80 كتابا

 

الكتابة هى متعته الوحيدة فى الحياة، زاهد زاده القلم، مداده الأوجاع والألم، ناسك وعابد فى محراب الكتابة.. قارئ نهم قبل أن يكون كاتبا غزير الإنتاج، لم توقفه الظروف العصيبة والمحن الشديدة التي يمر بها عن الكتابة وبنفس الوتيرة من الغزارة والتدفق والإبداع ويتعايش معها صابرا راضيا محتسبا.

 

ياسر ثابت حالة خاصة جدا وسط أصدقائى، ربما لأنه شخص عصامى بسيط متواضع يحمل قلبا شفافا، كثيرون مثلى مقتنعون ومؤمنون بموهبته، ويرونه واحدا من أعظم المبدعين الموهوبين فى عالم الصحافة والأدب، هذا المبدع صاحب الـ 80 كتابا حتى الآن فى الفكر والأدب والاقتصاد والسياسة والتاريخ والفن والرياضة، ليس رئيس تحرير فى مؤسسة الأهرام التي عمل بها عقدين كاملين، ولا هو كاتب عمود بها، لكن إصداراته المهمة والثرية تجوب معظم معارض الكتب خارج مصر وتحقق مبيعات قياسية، ولا ينال أي مقابل أو مردود سوى تقدير القراء.

 

باختصار، ياسر ثابت فى الكتابة من وجهة نظر كثيرين هو المرادف لموهبة ميسى فى الكرة وروحانيات عبد الباسط فى تلاوة القرآن ودفء صوت نجاة فى الغناء، وعبقرية نزار قبانى فى الشعر، وإبداع بليغ حمدى فى التلحين، وتمكن صلاح جاهين فى الكاريكاتير، وقدرات التابعى وهيكل فى الصحافة، وخفة ظل نجيب الريحانى فى الفن.. وغيرهم.

 

ليس شرطا أن نكتب عن أصدقائنا وأحبتنا عندما يرحلون، لماذا لانكتب عنهم وهم أحياء، كتبت عن ياسر من قبل، وسأظل أكتب لاقتناعي التام بأنه ظاهرة فريدة ومتفردة فى عالم الكتابة، ولا أملك دوما إلا أن اقول له "لا تيأس يا صديقى.. حتما سيأتى اليوم الذى ينتبه فيه الآخرون إلى واحد من أروع المبدعين فى مصر والعالم العربى، وستلقى التكريم الذى يليق بك" ويعوضك عن كل ماواجهته من إحباط وخيبة أمل وتجاهل ونكران.

الجريدة الرسمية