هل الروح هي النفس؟ وهل الروح هي التي تعذب أم النفس؟.. دار الإفتاء تجيب
ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه “هل الروح هي النفس؟ وهل الروح هي التي تعذب أم النفس؟”، وجاء رد الدار على هذآ السؤال كالتالي:
إنَّ كلمتَي الروح والنفس ترددتا في آيات كثيرة في القرآن الكريم، وكثر ورود الكلمة الأخيرة مفردة ومجموعة قرابة الثلاثمائة مرة أو تزيد.
واختلف العلماء في الروح والنفس، هل هما شيءٌ واحدٌ؟ أو هما شيئان متغايران؟
فقال فريق: إنهما يطلقان على شيء واحد، وقد صحَّ في الأخبار إطلاق كلٍّ منها على الأخرى، من هذا ما أخرجه البزَّار بسند صحيحٍ عن أبي هريرة: "إن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين فَوَدَّ لو خرجت -يعني نفسُه-، والله يحب لقاءه، وإن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء، فتأتيه أرواح المؤمنين فيستخبرونه عن معارفهم من أهل الأرض"، فهذا الحديث يؤيد إطلاق الروح على النفس والنفس على الروح.
الفرق بين الروح والنفس
وقال الفريق الآخر: إنهما شيئان؛ فالروح ما به الحياة، والنفس هذا الجسد مع الروح، فللنفس يدان وعينان ورجلان ورأس يديرها وهي تلتذ وتفرح وتتألم وتحزن، فالروح جسمٌ نورانيٌّ علويٌّ حيٌّ يسري في الجسد المحسوس بإذنِ الله وأمرِه سريانَ الماء في الورد لا يقبل التحلُّل ولا التبدل ولا التمزق ولا التفرق، يعطي للجسم المحسوس الحياة وتوابعها، ويترقى الإنسان باعتباره نفسًا بالنواميس التي سنَّها الله وأمر بها؛ فهو حين يولد يكون كباقي جنسه الحيواني لا يعرف إلا الأكل والشرب، ثم تظهر له باقي الصفات النفسية من الشهوة والغضب والمرض والحسد والحلم والشجاعة، فإذا غلبت عليه إنابته إلى الله وإخلاصه في العبادة تغلَّبت روحه على نفسه فأحبَّ الله وامتثل أوامره وابتعد عما نهى عنه، وإذا تغلبت نفسه على روحه كانت شقوته.
معنى الروح في القرآن
وقد جاءت الروح في القرآن الكريم وفي السنة بمعانٍ:
فهي تارة الوحي؛ كما في قوله تعالى: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [غافر: 15]، ويسمى القرآنُ روحًا باعتباره أحيا الناس من الكفر الشبيه بالموت،
وأُطلق الروح على جبريل عليه السلام؛ كما في قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ • عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [الشعراء: 193-194]، وقوله: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: 253]،
وفي الحديث الشريف: «تحابُّوا بروح الله» رواه أبو داود، قيل: المراد بالروح هنا: أمر النبوة أو القرآن، وهو المعنى عند أكثر العلماء في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: 52].
لكن الروح المسؤول عنها هي ما سأل عنها اليهودُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم فأجابهم الله في القرآن بقوله سبحانه: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85]؛ فهذه الروح التي يحيا بها الإنسان قد استأثر الله في علمه بكنهها وحقيقتها لم يخبر بذلك أحدًا من خلقه ولم يعط علمه العباد، وهي التي نفخها في آدم وفي بنيه من بعده وهي من خلق الله سرٌّ أودعه في المخلوقات.
معنى النفس
وكلمة النفس تجري على لسان العرب في معانٍ؛ فيقولون: خرجت نفسه، أي: روحه، وفي نفس فلان أن يفعل كذا، أي: في رُوعه وفكره، كما يقولون: قتل فلان نفسه، أو أهلك نفسه، أي: أوقع الإهلاك بذاته كلها وحقيقته، فمعنى النفس في هذا: جملة الإنسان وحقيقته؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29].
وتطلق كلمة النفس على الدم، فيقال: سالت نفسه؛ ذلك لأن النفس تخرج بخروجه.
وقد أطلق القرآن هذه الكلمة على الله في قوله: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [المائدة: 116] والمعنى: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك، أو كما قال ابن الأنباري: إن النفس في هذه الآية: الغيب، ويؤكد ما انتهت به الآية: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة: 116]؛ أي تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم.
فلفظ "الروح" و"النفس" من الألفاظ التي تؤدي أكثر من معنًى يحددها السباق والسياق واللحاق، وهما في الواقع متغايرتان في الدلالة حسبما تقدم، وإن حلَّتْ إحداهما محلَّ الأخرى في كثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، لكن على سبيل المجاز لا الحقيقة.
وقد اختلف أهل العلم في الروح هل تموت أو لا تموت؟ فذهبت طائفة إلى أنها تموت؛ لقول الله سبحانه: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: 88]، وقالت طائفة أخرى إنها لا تموت؛ للأحاديث الدالَّة على نعيمها وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله تعالى إلى الجسد.
قال القاضي محمود الألوسي في "تفسيره" (15/109، ط. دار الطباعة المنيرية): [والصواب أن يقال: موت الروح هو مفارقتها للجسد، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل فهي لا تموت بل تبقى مفارقة ما شاء الله تعالى ثم تعود إلى الجسد وتبقى معه في نعيم أو عذاب أبد الآبدين ودهر الداهرين، وهي مستثناة ممن يصعق عند النفخ في الصور على أن الصعق لا يلزم منه الموت، والهلاك ليس مختصًّا بالعدم، بل يتحقق بخروج الشيء عن حد الانتفاع به ونحو ذلك] اهـ.
وتقدم اختيار تغاير النفس والروح بمعنى ما يَصْدُق عليه كل من هذين اللفظين؛ إذ النفس هي مجموع الجسد والروح، أما هذه فذاتية نورانية يقذفها الله من فضله في الإنسان عند خلقه إياه، ومتى فارقت الروح البدن بموته كان مستقرها مختلفًا، فأرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أعلى علِّيين؛ فقد صحَّ أن آخر ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم الرفيق الأعلى» رواه البخاري.
ومستقر أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح أطفال المؤمنين ما هو قريب من ذلك، وأرواح غير المسلمين والمؤمنين في سجين، وفي كل هذا تُرْوَى أخبارٌ وآثارٌ تُطَالعُ في محلِّها من كتب الحديث، وإذا كان هذا المعنى هو الوارد في المنقول، والثواب والعقاب أمر غيبيٌّ مفوَّض إلى الله سبحانه، وإذا كانت الروح بعد افتراقها عن الجسد هي التي تذهب إلى الجنة أو إلى سجين كما جاءت الأخبار، كان العذاب للروح حتى يبعث الناس يوم القيامة، فيكون الثواب والعقاب للنفس التي هي الإنسان أي الجسد والروح معًا؛ اقرأ إن شئت قول الله تعالى: ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 25]، وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ [آل عمران: 30]، وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [هود: 105]، وقوله تعالى: ﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [النحل: 111]، وقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: 38]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ • ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [الفجر: 27-28]، فهذه الآيات وأمثالها مما جاء في القرآن الكريم، وما جاء في السنة كل أولئك يدلُّ على أن العذاب للنفس إنما يكون بعد البعث من القبور والنشور يوم القيامة، أما عذاب الروح وحدها فبعد مفارقتها للجسد بالموت، وبعد السؤال في القبر تكون في عليين أو في سجِّين، وهذا لا ينافي عذاب القبر للروح والجسد لمن استحقه، كما جاء ذكره في الأحاديث الشريفة.
ومنها ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبرين، فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير»، ثم قال: «بلى أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله» رواه البخاري، وهذا ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة خلافًا لابن حزم وابن هبيرة.
هذا، وما استأثر الله بعلمه لا ينبغي الاشتغال به، فلا تذهبن إلى ما نقل عن الفلاسفة قديمًا وحديثًا فإنهم انطلقوا إلى ما لا يعرفون فتاهُوا ولا يزالون، واقرأ دائمًا قول الله سبحانه: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85]، وابتعد في عظاتك للناس عن المتشابهات حتى لا تزيغ عن الجادة وتنحاز عن الطريق المستقيم، واقرأ قول الله سبحانه وتوجيهه: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]، فقد قال القاضي ابن العربي "أحكام القرآن" (1212/3، ط. دار المعارف): [قول الناس: هل الحوض قبل الميزان والصراط أو الميزان قبلهما أم الحوض؟ فهذا هو ما لا سبيل إلى علمه؛ لأن هذا أمر لا يدرك بنظر العقل ولا بنظر السمع وليس فيه صحيح] اهـ. ولا ريب أن حقيقة الروح والنفس ومن يعذب ومن يثاب كل أولئك من هذا القبيل.