رئيس التحرير
عصام كامل

الشعب المصرى يؤسس لشرعية فريدة.. دشنها عشرات الملايين فى الميادين وأيدها الأزهر والكنيسة وتحميها القوات المسلحة.. خلصت مصر منجماعة قسمت مصر بالكراهية.. خريطة طريق واضحة ولا إقصاء لأحد

جانب من مظاهرات التحرير
جانب من مظاهرات التحرير - صورة أرشيفية

للمرة الثانية وفى غضون عامين يثبت الشعب المصرى للعالم كله أنه قادر على رسم مستقبله ففى 3 يوليو الجارى أسقط الرئيس الديكتاتور محمد مرسي وأسقط معه جماعته مثلما أسقط سلفه حسنى مبارك في 11 فبراير 2011، وفى الحالتين أسس لشرعية ثورية حقيقية انحاز فيها الجيش للشعب بمنطق حماية الأمة من خطر داهم ونزولا على رأى الشارع. مع تعهد واضح وصريح بعدم عودة الجيش للسياسة وبخريطة مستقبل ليس فيها إقصاء لأى طرف طالما احترم كل الأطراف مقتضيات المرحلة الانتقالية لثورة 25 يناير في موجتها الثانية والمكملة لها والمصححة لمسارها "ثورة 30 يونيو". 


فعلى الرغم من أن النظم السياسية التي استقرت على مدى القرنين الماضيين، أشارت إلى وجود نوعين من الشرعية لكل منهما قواعده وسياقاته وهما " الدستورية والثورية "، إلا أن ما جرى بالأمس كنتيجة لبيان القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية عقب
الاجتماع بعدد من الرموز الدينية والوطنية والشباب، أسس لشرعية ثالثة لم يعرفها تاريخ الثورات بالعالم.

تلك الشرعية التي لا تترك مجالا للحقد أو العمليات الانتقامية والثأرية، ولا تتيح منفذا لإقصاء أي طرف لأنها تحفظ لكل مصرى مكانا لائقا يتناسب مع إمكانياته وقدراته على العطاء، بغض النظر عن توجهاته السياسية وانتماءاته الأيديولوجية، حتى وإن كان جزءا من مرحلة قامت الثورة لإنهائها.

ولا يبدو هذا الأمر غريبا على المصريين الذين قدموا للإنسانية أقدم نظام سياسي في العالم، بعد أن قامت على ضفاف نهر النيل أول دولة مركزية موحدة في تاريخ البشرية، وكان لمصر السبق في تجسيد ذلك من خلال أطر مؤسسية لها الدور المهم في صياغة حياة الشعب وحماية قيم الحرية والديمقراطية فيها.

فقد حظيت مصر بأول حكومة منظمة (جهاز حكومي منظم) في العالم، وقبل أن تتحد مصر العليا ومصر السفلى على يد " مينا" موحد القطرين، كان يحكم كل منطقة منهما ملك، وفي عام 3100 قبل الميلاد، وبعد توحد القطر في نظام مركزي للحكم، قسم إداريا إلى 42 إقليما على رأس كل منها حاكم يديره، لكنه يتبع الفرعون ويطيعه.

وعلى مدى التاريخ القديم والحديث كان الهدف الرئيسى من وراء النظم السياسية هى الأمة، والتي هى مصدر السلطات، فإذا تعارضت الأشكال والأساليب مع مصلحة الأمة، فليس هناك سوى القفز عليها وعلى الإجراءات للوصول إلى مصلحة الأمة أيضا.

وعرفت الكثير من الأمم هذا الوضع الاستثنائى فيما عُرف بالشرعية الثورية والتي تطيح بالأشكال والأساليب التي وضعت إطارها النظم السياسية والتي تعرف بالشرعية الدستورية وتعنى في مجملها الإطار العام الذي يعمل من خلاله نظام الحكم، من خلال السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية.

وفيما كانت أصوات الصراع بين المؤيدين للشرعية الدستورية والمؤيدين للشرعية الثورية تعلو شيئا فشيئا مغيبة صوت العقل، كانت بوادر كارثة أمنية واجتماعية تلوح في الأفق المصرى وتهدد بإحراق الأخضر واليابس، ما لم يظهر بين الأصوات المتشنجة صوت حكيم يقدم مصلحة الوطن العليا على ما دونها من مصالح.

ومع تصاعد حدة الاستقطاب السياسي الذي أعاد استدعاء مشاهد الدم من ذاكرة المصريين المرهقة إلى واجهة المشهد على الأرض، ارتفع سقف المخاوف ليصل إلى حد الاستعداد لاقتتال داخلى تحركه ميادين مؤيدة وميادين معارضة، ينطق كل منها بمنطق الحق في إدارة البلاد وفق شرعية يراها جديرة بالحكم في تلك المرحلة شديدة الخطورة.

وفيما بدا استجابة تاريخية لنداء الوطن الذي يعج بالأزمات وتهدده الانقسامات برز هذا الصوت العالى، من مؤسسة طالها الكثير من الأذى بسبب دعمها للثورة الأولى في 25 يناير 2011، وأصبحت طرفا في صراع حسمته الشرعية الثورية، وحاولت الانتقال به إلى الشرعية الدستورية عبر سلسلة من القرارات والقوانين داخل إطار الإعلانات الدستورية المتعاقبة.

إلا أن المؤسسة العسكرية التي بادرت بتلبية نداء الشارع المتحفز لمرحلة جديدة من تاريخه العريق يكون فيها صاحب الكلمة العليا، وعت الدرس جيدا متداركة ما جرى من أخطاء الدخول المباشر في دائرة الحكم خلال مرحلة التحول من " مصر الثورة " إلى " مصر الدولة ".

وجاء إعلان الدخول إلى واجهة المشهد واضحا وصارما في الوقت نفسه، فلا مجال لأن تصم القوات المسلحة آذانها أو تغض بصرها عن حركة ونداء جماهير الشعب التي استدعت دورها الوطنى وليس دورها السياسي، ولا مجال لأن تكون القوات المسلحة طرفا في معادلة السياسة وأنها سوف تظل بعيدة عن العمل السياسي.

فالشعب المصرى الذي أطاح بأعتى الديكتاتوريات في المنطقة، لا يمكن أن يقبل أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، كما أن الجيش الذي اكتوى بنيران السياسة لا يقبل أن يعيد التجربة، ناهيك عن أن زمن الانقلابات العسكرية وممارساتها الخشنة قد ذهب بغير رجعة وتجاوزه التاريخ.

وإذا كانت الثورة المصرية الأولى في 25 يناير 2011 أزاحت الشرعية الدستورية، إلا أنها لم تؤسس لشرعية ثورية بقوانين استثنائية، وإنما جرى الاحتكام إلى إجراءات ومراحل إدارة انتهت بانتخاب أول رئيس مدنى قبل وضع دستور حاكم يؤسس لشرعية دستورية.

وكان ما جرى على مدى عام كامل من تجاذبات وصراعات، لم تعتمد أيا من الشرعيتين " الدستورية والثورية " وبقيت الأمور معلقة بين جناح رأى في إصدار دستور حظى بموافقة نحو 60 في المائة هو بداية تحكيم الشرعية الدستورية، وفريق آخر رأى أن الدستور الذي لا يحظى بتوافق القوى السياسية لا يمكن اعتماده أساسا لمرحلة جديدة من تاريخ الثورة المصرية.

وخلافا لما شهدته كل الثورات على مدى التاريخ الحديث، فإنها لم يتم الاعتراف بانتقال مصر إلى مرحلة الشرعية الدستورية لأن الدستور " وفقا لمعارضيه " تم التلاعب به ليجعل الحاكم متسلطا على رقاب الشعب، وأنه تم تفصيل دستور يتيح التلاعب بمقدرات الشعب، فتقوم الفئة الحاكمة بقمع الشعب وحرمانه من حقوقه الدستورية بالترهيب والتزوير، ولذلك برز المطالبون بالشرعية الثورية.

إلا أن هذه الفئة من الشعب المصرى وفقا لما شهدته الثورة من تطورات، لم تكن تمتلك أي آليات تتيح لها قدرا من الضغط على الحاكم، سوى حشد الشارع الرافض للشرعية الدستورية التي يراها باطلة ولا تلبى طموحاته التي قام من أجلها بثورة أطاحت بنظام مبارك.

ووفقا لموازين القوى المتعارف عليها فإن الشرعية الثورية باتت مهددة بسبب عدم امتلاكها القوة اللازمة لحماية أهدافها وتوجهاتها، فيما تقف الشرعية الدستورية أيضا في موقف ضعيف رغم امتلاكها مؤسسات الدولة، وذلك بسبب رفض قطاعات عريضة من الشارع المصرى لها.

وقد فرض هذا الواقع حسابات جديدة على الأرض تتطلب أرقاما لم تعرفها معادلات الثورات بالعالم، ولا تدخل في نطاقها أي من الشرعيتين المتنازعتين " الدستورية والثورية"، تلك الحسابات التي تفرض نوعا فريدا من الشرعية يكون فيها غالبية الشعب محميا بقوة غير طامعة في الحكم، ولا تسعى إلا لمصلحة الوطن، وهو ما يعنى عدم الانتصار لفئة ضد أخرى إلا بما يتوافق مع هدف الخروج من النفق المظلم.

ووفقا لبيانها التاريخى الذي أسس لنمط جديد من الشرعية فرضته إرادة الشعب المصرى، فإن المؤسسة العسكرية استوعبت بدورها الدعوة التي أنتجها العقل الجمعى لشعب تضرب جذوره في أعماق التاريخ، وفهمت مقصدها وقدرت ضروراتها واقتربت من المشهد السياسي، آمله وراغبة وملتزمة بكل حدود الواجب والمسئولية والأمانة.

ولهذا فإن القوات المسلحة - انطلاقًا من رؤيتها الثاقبة استشعرت أن الشعب الذي يدعوها لنصرته لا يدعوها لسلطة أو حكم، وإنما يدعوها للخدمة العامة والحماية الضرورية لمطالب ثورته، وتلك هى الرسالة التي تلقتها القوات المسلحة من كل حواضر مصر ومدنها وقراها، والتي كانت الاستجابة لها بمثابة معادلة جديدة لها أرقامها في تاريخ الثورات بالعالم.

ومن خلال قراءة المشهد السياسي المصرى وفقا لسيناريوهات رسمتها خارطة الطريق التي قدمتها المؤسسة العسكرية، فإن هذا المشهد يؤسس لمرحلة انتقالية نموذجية سوف تصبح منهاجا لأى ثورة قادمة بأى مكان من العالم.

فالشرعية الفريدة التي تقدمها مصر حاليا للعالم لتحتل مكانها اللائق في التاريخ الإنسانى، تشمل إرادة شعبية تدفع باتجاه الشرعية الثورية، ومظلة عسكرية حامية لا حاكمة، ومؤسسة دينية تحافظ على الخصوصية المصرية، وتعيد اللحمة بين مكونات الشعب وفقا للعقائد الوسطية التي اشتهرت بها مصر " الأزهر والكنيسة ".

وتكرس تلك الشرعية ذات الطابع المصرى لضرورة لا يمكن الفكاك منها، وهى الانتقال إلى الشرعية الدستورية بعد فترة انتقالية يتولى خلالها رئيس المحكمة الدستورية العليـا مسئولية إدارة شئون البلاد، تنتهى بعد إجراء انتخابات رئاسية مبكرة تنتج رئيسًا جديدًا لا يفتقد إلى الشرعية الجماهيرية أو الأخلاقية.

وإذا كانت الشرعية الفريدة التي أنتجها الشعب المصرى، أتاحت مرحلة انتقالية يديرها فقيه دستورى هو رئيس المحكمة الدستورية العليا، فإنها تؤكد على ضرورة تشكيل حكومة كفاءات وطنية قوية وقادرة تتمتع بجميع الصلاحيات لإدارة المرحلة الحالية، وهو ما يعنى عدم إقصاء أي طرف من العملية السياسية، طالما تمتع بالكفاءة المطلوبة.

ويؤسس هذا المبدأ لعهد جديد من المصالحة بين كل القوى " الإسلامية والمدنية"، وهو عامل توازن نفسى وسياسي يتيح الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة بسلاسة، وتكريس قيم العمل المشترك، وهو ما تفتقده الكثير من الثورات، التي تتخذ من القرارات
والإجراءات ما يعمق انقسام مجتمعاتها، وذلك بتكريس مبدأ الإقصاء والتهميش لمن تعتبره طرفا معاديا يمثل مرحلة أنهتها الثورة.

فيما يبقى الإطار الذي يعطى لتلك المرحلة من الشرعية زخما، ويمهد الأرضية لتجاوز الخلافات التي تعمق الانقسامات، هو ما أكد عليه بيان المؤسسة العسكرية بشأن وضع ميثاق شرف إعلامي يكفل حرية الإعلام ويحقق القواعد المهنية والمصداقية والحيدة وإعلاء المصلحة العليا للوطن.

فمازالت أصابع الاتهام تشير إلى وسائل الإعلام بكل انتماءاتها، بلعب دور - غير محمود - في إذكاء نيران الكراهية بين مكونات الشعب المصرى، وتعميق الشروخ التي أظهرتها الممارسات السياسية بين الشركاء.

وليس ثمة شك في أن تكريس مبدأ المسئولية الاجتماعية في إعلام المرحلة الجديدة من تاريخ الثورة المصرية، كفيل بأن يعيد للأمور توازنها من خلال تسليط الأضواء على القيم النبيلة في المجتمع، وإشاعة أجواء التسامح بين مختلف المكونات الاجتماعية والتقريب بين كل التوجهات السياسية بما يصب في صالح استقرار ونماء الوطن.

ولعل وجود المؤسسة الدينية بمكونيها " الإسلامى والمسيحى " في خلفية المشهد الذي جرى خلاله الإعلان عن " انتصار الجيش لمطالب الشعب "، هو ما يعيد لتلك المؤسسة دورها الذي تم تغييبه داخليا وخارجيا، باعتبارها أحد أهم عناصر القوة الناعمة للدولة المصرية.

وإذا كان الشباب المصرى هو الوقود الذي اشتعلت به ماكينة الثورة، فإن اتخاذ الإجراءات التنفيذية لتمكين ودمج الشباب في مؤسسات الدولة ليكون شريكًا في القرار كمساعدين للوزراء والمحافظين ومواقع السلطة التنفيذية المختلفة، يؤسس بدوره لشرعية هذا المكون الرئيسى في بلد لن يشيخ، وسيظل قادرا على الإمساك بدفة الريادة بما يقدمه من روائع يتوقف أمامها التاريخ طويلا.
الجريدة الرسمية