رؤية مصر الاستراتيجية تجاه العراق.. رسائل السيسي في قمة بغداد "الأبرز"
تضمنت كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسي خلال قمة بغداد للتعاون والشراكة عددًا من الرسائل السياسية التي تعكس مدى قوة العلاقات المصرية-العراقية في المرحلة الراهنة، والتطلع لتعزيزها والبناء على التطورات التي شهدتها هذه العلاقة مؤخرًا، والتي تم إرساؤها في القمة الثلاثية العراقية–المصرية–الأردنية الشهر قبل الماضي، والتي أرست قواعد ومبادئ الشراكة الاستراتيجية في ظل الرؤية المصرية للتعاون، سواء على المستوى الثنائي أو التعاون متعدد الأطراف، وتطلع مصر لدعم وإسناد العراق في استعادة مكانته ودوره العربي والإقليمي.
شراكة استراتيجية: رسائل “السيسي” عن العلاقات المصرية-العراقية في قمة بغداد
واستعرض المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية تحت عنوان شراكة استراتيجية: رسائل السيسي عن العلاقات المصرية-العراقية في قمة بغداد.
عودة حتمية
إن إحدى الدلالات الرئيسية التي قدمها الخطاب المصري في قمة بغداد، تتمثل في الاستجابة المصرية السريعة لرغبة العراق في إعادة الاعتبار لسيادة الدولة، وفي مساعي العراق لإنهاء التدخلات الخارجية التي دفع بسببها كلفة ضخمة خلال العقدين الماضيين، بالإضافة إلى تعزيز قدرات العراق الشاملة في مواجهة المخاطر والتهديدات التي يواجهها، لا سيما مخاطر الإرهاب التي يُعد العراق من أكثر الدول التي تعرضت لها، بالإضافة إلى دعم العراق للانطلاق نحو بناء مستقبله.
وبالتالي فإن مصر تعتبر أن نجاح العراق في تلك المساعي سيشكل قيمة مضافة للأمن القومي العربي والأمن الإقليمي، وهو من ركائز السياسة الخارجية المصرية. كما أن استعادة حيوية العلاقات المصرية-العراقية هو انعكاس للجوهر الطبيعي لهذه العلاقات، ومن ثم يفرض حتمية عودة العلاقة بين الجانبين على هذا النحو الذي يتجاوز الطابع البروتوكولي والتقارب الشكلي إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية على كافة المستويات دون استثناء.
كذلك فإن عودة مصر إلى استنئاف علاقتها بشكل حيوي مع العراق بعد عقود لم يأتِ من طرف واحد؛ وإنما في إطار رغبة عراقية بالقدر ذاته، وهو ما وصفه الرئيس “السيسي” بـ”الرغبة الصادقة”، كانعكاس للإرادة السياسية المشتركة لدى الجانبين المصري والعراقي، تم ترجمتها في الحضور المصري رفيع المستوى على الساحة العراقية في المرحلة الماضية.
كما تجسدت في الاتفاقيات والبرتوكولات التي تم إقرارها على المستوى الثنائي أو في إطار الآلية الثلاثية، وهو ما يعكس مدركًا آخر هو تحويل الرؤى وترجمة الإرادات المشتركة في آليات عمل تنفيذية سريعة لا تتوقف فقط عند حدود الخطاب السياسي، أو مجرد التعبير عن الرغبة في التعاون، بالإضافة إلى أن لدى مصر ما تقدمه لأشقائها من منظور نجاح التجربة المصرية الفريدة على مدار السنوات السبع السابقة.
هناك أيضًا دلالة أخرى تتعلق برؤية مصر لدورها مقابل أدوار الفاعلين الآخرين، فمصر لا تسعى إلى قيادة الأدوار، وإنما إلى دور قيادي فاعل ضمن شراكة متعددة الأطراف، وهو ما يعكس وعيًا مصريًا أيضًا بتطلعات العراق لبناء توازن استراتيجي في إطار مقاربة علاقاتها الخارجية العربية والإقليمية غير العربية، من خلال إعادة ضبط التفاعلات الإقليمية بما يتماشى مع مصالح العراق ويراعي -في الوقت ذاته- العمق العربي للعراق المتجذر تاريخيًا والممتد حضاريًا، وهو ما عبر عنه الرئيس “السيسي” في مقدمة كلمته عندما أشار للعراق بـ”بلاد الرافدين، وإحدى قلاع العروبة”، وفي ختام كلمته أيضًا التي خاطب فيها الشعب العراقي بـالشعب العظيم الذي يمتلك الحضارة والتاريخ.
رسائل متعددة
عكس مضمون كلمة الرئيس “السيسي” أيضًا ورسائله المباشرة، أبعاد الرؤية الاستراتيجية المصرية الشاملة تجاه العراق، والتي يمكن تناولها في المحاور التالية:
١. أصالة العمق العربي للعراق: والذي أشار إليه الرئيس “السيسي” –كما سلفت الإشارة– بأن العراق بلاد الرافدين “إحدى قلاع العروبة”، وهو سياق لا يمكن تجاوزه، حيث يعكسه تاريخ العراق، وهويته الحضارية. وبالتالي فإن التأكيد على هذه الصيغة يعيد الاعتبار لها، بعد فصول طويلة من الجدل حولها، وصلت إلى حد المعارك على الهوية الطائفية والعرقية التي استنزفت العراق واستهلكت قدراته، في ظل مسار تعزيز الانتماء للهويات الفرعية، ومن ثم إضعاف الهوية الأصلية للعراق لخدمة تلك المشروعات. وفي المقابل، فإن عودة العراق إلى حاضنته العربية لا يعني استدعاء هذا الجدل مرة أخرى؛ وإنما يعني بشكل مباشر الإشارة إلى أن اختزال العراق في الهويات الفرعية أدى إلى النتائج الحالية، وأن استعادة استقرار العراق واستعادة العراق لدوره غير ممكن في ظل إبعاده عن عمقه الأصيل، واستقطابه على أرضية أخرى.
٢. صيانة الأمن الإقليمي: وهي أيضًا من برامج السياسة الخارجية المصرية التي تم التركيز عليها منذ سنوات، حيث سعت مصر عمليًا إلى خفض وتقويض الصراعات والأزمات في الإقليم، والتي تتعرض لها في واقع الأمر دول عربية فقط (سوريا – لبنان – العراق – اليمن – ليبيا) بفعل التدخلات الخارجية، لا سيما التدخلات الإقليمية غير العربية، التي اقترنت باستخدام الأداة العسكرية والتمدد الميداني المباشر، كما استخدمت أدوات غير تقليدية زادت من مستوى التهديدات، بالإضافة إلى احتلال مساحات من هذه الدول، ونشر القواعد العسكرية فيها، وبالتالي فإن دور العراق في عملية صيانة الأمن الإقليمي سيشكل قيمة مضافة في هذا الصدد.
لكن على الجانب الآخر، يتعين على القوى الإقليمية مراعاة الاعتبارات ذاتها، ومن هنا جاءت رسائل الرئيس الخاصة التي وجّهها ضمنيًا إلى القوى الإقليمية، بمراعاة تقاليد حسن الجوار واحترام سيادة العراق وخيارات شعبه، وعدم الاعتداء عليه، والامتناع عن التدخل في شئونه بالأداة العسكرية وتوفير الدعم للتنظيمات الإرهابية أو استخدام أراضية كنقطة عبور لنقل المليشيات ومجموعات المرتزقة، لا سيما وأن العراق على المستوى الرسمي قام بتحركات على هذا المستوى في الفترة السابقة تؤكد على ذلك. فقد سعى العراق إلى تسوية ملفات التوتر بين إيران والسعودية في الملف اليمني، بالإضافة إلى حرص العراق على فض الاشتباك بين مصالحه على الساحة السورية وبين أجندات إيران في توظيف العراق كساحة عبور إلى سوريا، أو كساحة لتصفية الحسابات الإيرانية العراقية.
٣. مصداقية التوجهات والتحركات: فقد أشار الرئيس “السيسي” إلى رغبة مصر والعراق، على المستوى الثنائي أو على مستوى الآلية الثلاثية (القاهرة – بغداد – عمان)، في تعزيز التعاون والشراكة، أو “تترجم مفهوم التعاون العربي المشترك” بتعبير الرئيس، وهي آلية تستحق التوقف عندها كثيرًا. فعلى الرغم من أن العديد من المراقبين ركزوا على المنظور الجدلي الخاص بتحقيق تلك الآلية اختراقًا عربيًا مقابل الاختراق الإقليمي، لكن في واقع الأمر فإن فلسفة الآلية الثلاثية حققت اختراقًا في الغياب العربي عن العراق.
أما على المستوى العملي فإنها تعكس منظورًا آخر للعلاقات الطبيعية والمنظور الطبيعي للتعاون المشترك المفترض أن يسود. أو بمعنى آخر التعاون الذي يحتاجه العراق لاستعادة موقعة الطبيعي، ولإعادة البناء والإعمار بعد سنوات طويلة من المعارك والحروب التي استهلكت قدراته وبنيته الأساسية والتحتية، فقد شملت الآلية توقيع نحو 15 اتفاقية في العديد من المجالات، كالطاقة والزراعة وإنشاء مناطق لوجستية على الحدود المشتركة، وهو السياق الذي يتفق وما أشار إليه الرئيس بتقديم الخبرة والنموذج المصري، وهو أحد أوجه القوة الناعمة المصرية حاليًا بأن يكون لدى مصر ما تصدره من نموذج قابل لأن يُسهم في تغيير صورة ما بعد الصراعات إلى واقع آخر لمستقبل أفضل، يستبدل الدمار بالتنمية، ويعيد توظيف فائض طاقة الشباب من الانخراط في أدوات الفوضى والتغيير إلى أدوات الإعمار، وهي إحدى الرسائل التي وجهها الرئيس “السيسي” أيضًا للشعب العراقي في ختام كلمته.
٤. دعم تجربة العراق في مكافحة الإرهاب: والتي قطع فيها العراق مسارًا طويلًا وناجحًا خلال السنوات الماضية، حيث تمكّن من دحر تنظيمات مثل القاعدة ثم تنظيم داعش، لكنه لا يزال يواجه تحدي وجود بقايا هذه التنظيمات التي تعيد نسج شبكاتها في المنطقة مرة أخرى.
وهنا لفت الرئيس “السيسي” في خطابه إلى أهمية التعاون والتكاتف من أجل البناء على المكتسبات التي حققها العراق في هذا الشأن، وبالتالي فإن مصر تعيد التأكيد على دعمها للعراق في هذا الشأن، خاصة في ظل اتجاه البلدين إلى مأسسة هذا التعاون، وهو ما عكسه مضمون خطاب الرئيس “السيسي” في قمة بغداد، ومن قبلها خلال الزيارة التي قام بها وزير الدفاع العراقي “جمعة عناد” إلى القاهرة في 7 أغسطس الجاري، وقبل ذلك أيضًا الزيارة غير المسبوقة للرئيس “السيسي” إلى العراق لتدشين الآلية الثلاثية بين مصر والعراق والأردن.
٥. دعم جهود الحكومة العراقية: وهو ما خصّ به الرئيس “السيسي” رئيس الوزارء العراقي في خطابه بالإشادة بالجهود السياسية والإصلاحات الأمنية والاقتصادية التي قام بها رئيس الوزراء “مصطفى الكاظمي” في كافة المجالات.
ويمكن القول إن حكومة “الكاظمي” حققت نقلة نوعية أيضًا في المرحلة الاستثنائية التي يمر بها، على الرغم من التحديات التي تعرضت لها داخليًا وخارجيًا، وهو ما يشكل فرصة وتحديًا في الوقت ذاته للعراق ولعمقه العربي تحديدًا، فقد تركزت جهود الحكومات على استعادة قوة الدولة وإعادة الاعتبار للمؤسسات والإصلاح الاقتصادي ومقاومة الفساد، بالإضافة إلى النقلة النوعية في السياسة الخارجية، لكن تظل حكومة “الكاظمي” هي حكومة تتولى عملية انتقال سياسي تشهده البلاد، وبالتالي لا يزال من غير المعروف ما إذا كانت الحكومة التي ستفرزها الانتخابات التي ستتم في 10 أكتوبر المقبل ستكمل تلك المسيرة أم سيكون لديها أولويات أخرى. وفي هذا السياق، أشار الرئيس في رسالته إلى الشعب العراقي فيما يتعلق بالاستحقاق الانتخابي ودعوته لأن يختار من يمثله ويحقق تطلعاته المستقبلية في نهضة العراق واستعادة مكانته واستقراره.
٦. لفت الانتباه للتهديدات غير التقليدية: وهي أزمات متصاعدة في المنطقة، كأزمات المناخ والمياه، وهي أزمات عابرة للحدود بطبيعتها، كما أن مظاهر التهديد التي تشكلها انعكست في العديد من الظواهر، كالجفاف والهجرة وما تتعرض له البيئة حاليًا من مشكلات، وبالتالي فإن الاستغراق في الأزمات الداخلية والإقليمية ربما يحمل الدول أعباء من منطلق الأولويات، مما يجعلها تتغاضى عن تلك التهديدات غير التقليدية التي تتحول بمرور الوقت إلى ما هو أكثر من التهديد، وبالتالي هناك حاجة لعودة العراق لوضع الاستقرار لكي يكون فاعلًا في عملية مواجهة هذه التهديدات، على غرار التوجهات الدولية التي تسعى إلى اعتماد سياسة تنموية حقيقية والإسهام في تقدم البشرية، وتعزيز قدراتها للتعامل مع مثل هذه التحديات.
ويمكن القول إن رسائل مصر في مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة عكست رؤية مصر الاستراتيجية تجاه العراق في دعم توجهه لاستعادة موقعه ومكانته التي تليق بحضارة العراق وتاريخه، وعكست مصداقية التوجهات المصرية في العمل على استعادة الاستقرار والأمن في المنطقة، ولا سيما في الدائرة العربية باعتبارها دائرة أمنها القومي في المقام الأول، كما عكست فرصًا واعدة أيضًا لنموذج جديد للقوى الناعمة المصرية في تصدير تجربتها الناجحة في التنمية.