«النحاس» و«ضباط يوليو الأحرار».. من «المباركة» إلى «المحاكمة».. «أيام الشهد» و«سنوات الدموع»
في كتابه «مصطفى النحاس.. السياسي والزعيم والمناضل»، يكتفي المؤرخ الراحل الدكتور رفعت السعيد في حديثه عن علاقة «النحاس باشا» و«ثوار يوليو» ببضع صفحات، حاول فيها «السعيد» اختصار «أيام الشهد وسنوات الدموع» التي عاشها «الباشا» في زمن «الضباط الأحرار»، حيث قال «كثيرًا ما يعبر المؤرخون عن حيرتهم، لأن زعيمًا مثل محمد فريد أفنى حياته إعدادًا لثورة 1919، ثم عندما قامت لم يملك أن أخفى دهشته البالغة من قيامها.. ثم يموت وهو غريب عنها، عاجز عن التوائم معها، فهل كان موقف النحاس من ثورة يوليو 1952، هو نفس موقف محمد فريد من ثورة 1919؟".. ربما من حقنا أن نؤكد أن النحاس قد فوجئ مفاجأة تامة بثورة يوليو، وأنه لا هو ولا حزبه كان يتوقعان قيامها، وفي الأيام الأولى للثورة أعلن حزب الوفد تأييده لها، لكنه جاء في موكب التأييد الشامل الذي شنته كل القوى السياسية الرسمية، فجاء – لهذا السبب- بغير حماس خاص.
ويكمل «السعيد» بالإشارة إلى أن العلاقة بين الوفد والثورة معقدة بشكل مميز، مرجعًا ذلك إلى أن العلاقة بين الوفد والثورة معقدة بشكل مميز، لأن كثيرًا من ضباط يوليو لم يكونوا يملكون مشاعر معادية للوفد، بل كانوا يعطفون عليه، ذلك النوع من العطف الوجداني الذي يشمل غالبية المصريين تجاه حزب الأغلبية، لكن مشاعرهم أيضا لم تكن تخلو من انتقادات وهواجس.
المصادمات العنيفة
«د. رفعت» أشار أيضا إلى ما وصفه بـ«المصادمات العنيفة» التي حدثت بين «ثوار يوليو» و«أغنياء الوفد»، وقال: بدأت المصادمات العنيفة من محاولة تقسيم حزب الوفد بالإيحاء بأن الاعتراض منصب على شخص رئيس الحزب، وانتقلت إلى التشهير بالنحاس وزوجته وتصرفاتها المالية إلى تقديمها لمحكمة الثورة، وفي عام 1954 تقرر تحديد إقامته هو وزوجته، ثم توج ذلك كله بتقديم أقرب المقربين إلى النحاس وهو إبراهيم فرج إلى محكمة الثورة، وكانت تهمة إبراهيم فرج هي «الخيانة العظمى»، ليصدر الحكم على إبراهيم فرج بالأشغال الشاقة المؤبدة، ثم يخفف إلى خمسة عشر عامًا، ويشعر الجميع أن المحاكمة والحكم موجهان إلى شخص آخر حالت ظروف سنه المتقدم، وحالته الصحية، وزعامته الشعبية الطاغية دون أن يوضع في قفص الاتهام، شخص آخر هو مصطفى النحاس الذي كان معنيا بهذه المحاكمة.
حديث «د.رفعت» رصد «سنوات الدموع» في حكاية «النحاس والثورة»، أما «أيام الشهد» فرواها «النحاس» قائلا: «سافرت إلى سويسرا عن طريق مارسيليا قبل أن تستقيل وزارة حسين سري في 20 يوليه 1952، ولم أكن أعلم بعد ذلك ما وقع، لم أكن أعلم شيئا عن الأحداث، فلما وصلت إلى جنيف يوم 22 يوليه قضيت فيها ليلة واحدة ثم علمت بقيام الضباط الأحرار بثورة ضد الملك ففرحت فرحًا شديدًا، وقررت أن أسافر إلى القاهرة على جناح السرعة، ولم أكن قد ركبت طائرة طيلة حياتي، لا في سفر ولا في عودة، بل كنت أفضل ركوب البواخر البحرية ثم قطارات السكك الحديدية، ولكني هذه المرة قررت المغامرة بركوب الطائرات لأصل إلى القاهرة بسرعة وأقابل الذين قاموا بالثورة لأهنئهم على عملهم المجيد».
وأضاف: «ركبت الطائرة مساء 26 يوليه عائدًا إلى القاهرة، وكانت فرحتي بقيام الثورة أنستني تهيبي من ركوب الطائرات وبينما أنا أجلس على مقعدي إذ حضر الطيار وأخبرني أن فاروق قد وقع وثيقة بتنازله عن العرش لابنه أحمد فؤاد الطفل، ورحل عن البلد، فكانت فرحتي بهذا النبأ فرحة غامرة وسروري كبيرًا، ووصلت إلى مطار القاهرة بعد منتصف الليل، وكان في استقبالي أحمد أبو الفتح، صاحب جريدة المصري، فسألته عن الأنباء، فقص عليَّ أن الثورة قامت يوم 23 يوليه، وقصد أحد أعضائها على دبابة من دبابات الجيش المصري إلى الإسكندرية ليخبر إخوانه بما استقر عليه رأيهم، وتعطلت الدبابة في طريق الإسكندرية الصحراوي عند استراحة (شل) ولكنه استطاع إصلاحها، ويقول الذي كان يستقل الدبابة إنني لو تأخرت ساعة فوق ما تأخرت لما علم إخواني بما انتويناه في مصر ولاتخذ فاروق الحيطة لنفسه واستجلب قوات تحميه، وكنا قد فشلنا فيما أردنا أن ننفذه».
وتابع: «عرض عليّ أحمد أبو الفتوح وفؤاد سراج الدين، اللذين كانا بصحبتي أن أقصد إلى مبنى قيادة الجيش في كوبري القبة لأسلم على الضباط وأهنئهم بنجاح الثورة، وقد سألت: أليس الوقت متأخرًا وغير مناسب، فقال لي أحمد أبو الفتح إنهم ساهرون طول الليل، وذهابك إليهم سيكون مفاجأة سارة لهم، ووافقت وقصدنا إلى مبنى القيادة وانتظرت في الدور الأول وصعد أبو الفتح إلى الدور العلوي وغاب أكثر من نصف ساعة ثم عاد ودعاني إلى الصعود، فصعدت ووصلت إلى القاعة التي كان يجتمع فيها الضباط، فاستقبلني محمد نجيب وتعانقنا وهنأت نجيبًا بنجاحهم في هذا العمل المجيد الخطير الذي سيغير مجرى التاريخ وسيجعل مصر تحيا حياة جديدة تشعر فيها بحريتها وتتمتع بدستورها وسيادتها وتستطيع أن تخرج الاستعمار من بينها وتستقل بشئونها.
وكنت على سجيتي فرحًا مغتبطًا مسرورًا، وبادلني نجيب التهنئة وشكرني على هذه الزيارة المفاجئة، وإنها ستقوي من عزائمهم وتعينهم على تنفيذ ما بقي من برنامجهم، وقد سألته عن البرنامج الذي رسموه لثورتهم فقال: إنه التخلص من الملك وحاشيته، وقد تخلصنا منهم والحمد لله، ونرجو الباقي الذي يتلخص في أن نحقق للبلاد جلاء القوات البريطانية عن مصر في أقرب فرصة ممكنة، ومحاربة الفساد والاستقلال، وحكم البلاد حكمًا دستوريًا صحيحًا وصيانة الدستور من العبث وتنظيف الإدارة الحكومية من الفساد واستغلال النفوذ، ولما سمعت هذا البرنامج تضاعف سروري وأعلنت في صراحة تأييدي لهذه الحركة المباركة، كما لاحظت أن نجيبًا كان متحمسًا مسرورًا وهو يحدثني، أما الضباط الذين كانوا في الحركة – ولم أكن أعرفهم – فقد استقبلوا حضوري بصمت وسكون عزوته إلى المفاجأة وعدم معرفتهم بي».