العيش.. قصة أول نظام عالمي لــ«صيانة الحياة» في التاريخ.. عرف المصريون الرغيف قبل 8 آلاف عام
قصة الخبز ممتدة داخل سراديب التاريخ، القضية ليست مرتبطة فقط بالمصريين، أو قطاعات كبيرة منهم، بل كان محور اهتمامات العالم، إذ كان الخبز ولايزال "المكوّن" الأساسي في تاريخ البشرية الذي يعود تاريخه إلى آلاف السنوات، وطول هذه السنوات كان دائما مرتبط بإعالة الإنسان وبقائه كما ذكرته الأديان بطرق مختلفة.
تغيرت ممارسات وعادات وتفضيلات البقاء على قيد الحياة كثيرًا على مر القرون، لكن الخبز ظل جزءًا لا يتجزأ من نظام العالم الغذائي، بغض النظر عن الاختلافات العرقية أو الدينية والجغرافية والاجتماعية وسياسية، فقد تكيف أيضًا ولا يزال حتى اليوم مع التطورات العلمية والتكنولوجية والاتجاهات الغذائية بالإضافة إلى خصوصيات وتفضيلات الأزمنة والأماكن المختلفة.
كان الخبز ـ ولايزال ـ العنصر الأساسي في الوجبة العائلية بجميع الثقافات، القديمة منها والمعاصرة تجسد في جميع اللحظات الأساسية بحياة الإنسان.. لكن عالمية الخبز لاتنفي أن المصريون لهم قصة خاصة معه، وساهموا في إنتشاره عالميًا، بعد أن نشأت بينهم وبينه علاقة تاريخية شرطية، ساهمت في استمرارها الظروف الاجتماعية والمادية في العصور المختلفة.
النطوفيين
يقدم التاريخ بعض القصص المتضاربة عن حقيقة أقدم خبز في العالم، لكن الكثير من الباحثين يؤكدون أن حبوب الخبز تم حصادها لأول مرة على يد النطوفيين ـ نسبة إلى وادي النطوف شمال غربي القدس في فلسطين ـ منذ نحو 12500 عام.
يستند أصحاب هذه النظرية على أن النطوفيين أقدم مجتمع معروف قائم على الزراعة حوّل الحبوب إلى دقيق خشن، وصنعوا منه رغيفًا صغيرًا لكنه كان خاليًا من الخميرة يُطهى مباشرةً على النار، بعد أكثر من 5 آلاف عام من بدء النطوفيين في صنع الخبز المسطح.
كانت هناك ثلاث حضارات تنمو وتتوسع بسرعة خلال العصر البرونزي، المصريون، وبلاد ما بين النهرين "العراق" وهارابان "باكستان"، واعتمدت الحضارات الثلاث التي كانت الأكبر في العالم القديم على الخبز في تحصيل السعرات الحرارية المطلوبة للجسد، وتشكيل الطبقات الاجتماعية المختلفة.
الخبز المصري
منذ نحو 8 آلاف عام، ومصر أحدثت تحولًا تاريخيًا في صناعة الخبز، وقدمت أول خبز مخمر مصنوع من الخميرة، كانت هذه القضية مثار اهتمام كبير بين العلماء، إذ يتطلب اختراع التخمير جذور في الحضارة نفسها، لهذا اتفق الباحثون على تفرد قدماء المصريين في استخدام الشعير والقمح.
أكدت هذه النتيجة دراسة أجريت عام 1994 في مجلة علم الآثار المصرية، وأوضحت أن المصريبن القدماء خمروا الخبز في البيرة، كما أشار لذلك كتاب "المواد والتكنولوجيا المصرية القديمة" ولفت الكتاب إلى أن المخرشة كانت أول أداة طحن صنعها المصريون لسحق الحبوب، وأنتج الخبازون ما تطور لنعرفه الآن بشكل شائع.
كان المصريون القدماء ماهرين للغاية في صناعة الجعة، وقادتهم خبرتهم في التخمير جنبًا إلى جنب مع المناخ الدافئ لإنتاج أول عجين مخمر في العالم، من خلال إضافة الخميرة البرية إلى خليط الخبز، وهو سر الصنعة الذي نُقل للعالم في القرون التالية.
تكشف الأدلة الأثرية التي عثر عليها في بعض مواقع الدفن للمصريين القدماء على رأسها مقبرة توت عنخ آمون، وأمنحتب الثاني، أن صناعة الخبز ازدهرت في مصر خلال عصر ما قبل الأسرات، وجرى تصنيعه من الإيمير ـ نوع قديم من القمح ـ وكان يتم طحن الحبوب يدويًا بشكل شاق، وخلط الدقيق بالماء وتركه ليخمر.
حدد المصريون القدماء جزيئات الخميرة الطبيعية، وبكتيريا حمض اللاكتيك في عينات الخبز القديمة، ومن هنا جرى اكتشاف أن الخميرة ضرورية لجعل أرغفة الخبز هشة ومسامية، كما زاد حجم الخبز وتعزيز مذاقه ورائحته، ويربط بعض الخبراء بين الطريقة القديمة وبين ما يعرف حتى الآن بالعيش الشمسي.
كانت مصر المورد الرئيسي للقمح للإمبراطورية البيزنطية، لهذا كانت تنقل مع القمح الجديد دائما في مهنة صناعة الخبز إلى الرومان واليونانيين، يكشف «هيرودوت» أن اليونانيون نقلوا عن قدماء المصريين طريقة العجن بأقدامهم، وهي ممارسة ظلت محفوظة في أجزاء مختلفة من اليونان وأوروبا حتى وقت قريب من العصر الحديث.
كان القمح يتم تجميعه في ميناء الإسكندرية ونقله بالسفن التجارية إلى أكبر مدن الإمبراطورية وخاصة القسطنطينية، وتخزينه بعد ذلك في مستودعات الدولة، والمثير أن الوثائق التاريخية ترصد أن أن مجرد تأخر القمح المصري عن الوصول في الوقت المحدد كان يعرض سكان عاصمة الإمبراطورية لخطر المجاعة، ولهذا كانت القوانين المنظمة للأنشطة البحرية والتجارية والجمارك والتخزين وتوزيع القمح صارمة للغاية.
اليونان
عرفت أثينا أول أشكال المخابز، كان الأثينيون أيضًا من رواد الخميرة ومع ذلك تم تقليص الكثير من هذه التجارب بسبب حجز خبز القمح خلال أيام الأعياد في القرن السادس قبل الميلاد، وبدلًا من ذلك أصبح الشعير من الحبوب الأساسية في العالم اليوناني، لكن مع الوقت عاد خبز القمح متفوقًا على جميع الأشكال الأخرى.
في اليونانية كلمة خبز يعني فرك أو طحن، وعلى مدار التاريخ استخدم اليونانيون أنواع مختلفة من الخبز، أرغفة طحين القمح، والمنخل وغير المنخول، مع أو بدون خميرة مع النخالة، ودقيق الشوفان والعسل والجبن والزيت والخشخاش وبذور السمسم.
صنعت اليونان نحو 72 نوعًا من الخبز، وأدت ندرة القمح وقيمته الغذائية العالية إلى استهلاك خبز القمح من قبل الطبقات العليا، على عكس الفقراء الذين تناولوا خبز الشعير، وكان البحارة والتجار اليونانيون هم من يلقى على عاتقهم استيراد الدقيق من مصر، إذ كانت المدن اليوانانية تتنافس حول أيهما ينتج الخبز الأفضل، وحتى الآن تفتخر أثينا بـ "بتيريوس" أعظم خبازها الذي ورد اسمه في كتابات العديد من المؤلفين والوثائق.
ظهرت أولى المخابز اليونانية خلال القرن الثاني الميلادي، وكانت تتخصص في الخبز المخمر "المحضر بالدقيق والماء والخميرة"، والخبز الفطير "المصنوع من الدقيق والماء"، وخبز السميد "المصنوع من دقيق متناهي الصغر من القمح عالي الجودة"، ونقل اليونانيون فن وتقنيات الخبز إلى الرومان، الذين حولوا الخبز إلى صناعة واسعة النطاق.
الرومان
طورت البلدان المختلفة نسخها الخاصة من الخبز، البعض يخمر والبعض الآخر لا، مع الوقت اخترع الرومان الطحن بالماء نحو عام 450 قبل الميلاد، ويعتبروا أول من صنعوا الخبز الأبيض الأعلى جودة وأكثر ملاءمة للمتعلمين والأثرياء من الطبقات الاجتماعية.
وثقت روما القديمة تاريخها مع الخبز في المصادر الأدبية وعلى اللوحات الجدارية والنقوش البارزة التي تمثل مراحل التحضير والبيع؛ والأرغفة المتفحمة الموجودة في أنقاض بومبي التي تم تحليلها وكشف أسرارها.
لكن من اللافت أن الرومان لم يستحسنوا طريقة المصريين في تحضير الخبز بالخميرة، وأنتجوا نماذج أخرى خليط من من الحبوب البرية والبقوليات واللحوم عند توفرها وتحميصها قليلًا وطحنها لتحريرها من القشر، ومن هنا بدأ استخدام مصطلح دقيق للإشارة إلى ناتج طحن أي حبة وتفريقها عن قشرها.
في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد ظهرت حبوب صلبة ولينة جديدة، ذات جودة أعلى وأكثر قابلية للإفراج عن القشر، مما سمح بتحسين سريع للخبز، وجعله أكثر ليونة وأقل حموضًا، إذ سهّل استخدام المطاحن عملية الطحن وسمح التقدم في تقنيات الفرز بالتمييز بين جودة أنواع الدقيق.
اشتهر الخبز الروماني بصلابته، بسبب جودة الدقيق الذي يمتص كمية أقل من الماء، وبعد ذلك بسبب ضعف كمية ونوعية الخميرة المستخدمة "يتم تحضيرها مرة واحدة في السنة في وقت الحصاد مع عصير العنب وعجين العنب"، لكن النوع الأخير أغلبه كان يستخدم بالمناطق الريفية.
أما الأنواع الأغلى فكانت تخصص لطبقات النبلاء، وصنعت من الحليب والبيض والعسل والزيت والفاكهة وكانت هناك أرغفة مستطيلة الشكل وأرغفة مستديرة مع شقوق لتسهيل التقسيم إلى أربعة أجزاء، كما انتقل الإنتاج من الأسرة إلى المصانع بفضل الحرفيين المهرة الذين كانوا في الغالب من المحررين من العبيد والمواطنين ذوي المكانة الاجتماعية المنخفضة.
حصل الخبازون الرومان على امتيازات وحصانات من السلطات العامة وأنشأوا شركاتهم الخاصة التي كانت تبرم عقودا مربحة لتوريد الخبز للسلطات وكانت توزعه بدورها مجانًا على الناس، ومن هنا كان الخباز يربح ثروة كبرى.
يحكي التاريخ الروماني قصة ماركوس فيرجيليو يوريساس، الذي يخلد قبره نقوشا للمراحل المختلفة لصنع الخبز، من طحن الدقيق وغربله إلى الخليط، كما يوجد نصب تذكاري لصناعة الخبز ما يؤكد احتفاء الرومان بواحدة من أقدم وأشهر المهن في التاريخ.
الفرس
بحلول عام 600 قبل الميلاد اخترع الفرس نظام الطاحونة لطحن الحبوب، كان الخبز هو النظام الغذائي الأساسي للناس الذين يعيشون في الهضبة الإيرانية شبه القاحلة، واشتهر الخبز الفارسي التقليدي بنكهته القوية وجودته وتنوعه.
ترجمة الكلمة الفارسية للخبز هي "نان" وتم تخليدها في الأعمال العظيمة لكبار الشعراء والأدباء الإيرانيين سواء الحديثين أو الكلاسيكيين مثل الفردوس، عبد الله أنصاري، والرومي، والسعدي، وابني يامين، ما يكشف كيف يعامل الإيرانيون الخبز باحترام بسبب مكانته المقدسة في ثقافتهم القديمة.
تتبع «نان» في النقوش الساسانية بالقرن الثالث الميلادي، يظهر أن الكلمة مذكورة في النصوص البهلوية للقرن التاسع، كما أن السنجاك - أحد أشهر أنواع الخبز الإيراني – تم توثيقه في الموسوعة الفارسية الشاملة "برهان إي غاتي" بداية من عام 1651.
تشابك المطبخ الفارسي القديم مع مجموعة متنوعة من الخبز لسببين رئيسيين، إذ اعتبر الخبز دائما الغذاء الرئيسي للشعب الفارسي، ثانيًا للتأكيد على أن بلاد فارس مجتمع متكامل يستوعب مجتمعات عرقية مختلفة.
كان يتم إنتاج الخبز المسطح الإيراني عن طريق طهي العجين المخمر، المصنوع أساسًا من دقيق القمح والخميرة والماء، وإضافة عجينة دقيق القمح والخميرة والماء لزيادة العمر الافتراضي للخبز وتحسين حلاوته أو جودته أو حتى قيمته الغذائية.
لكن المضافات الأكثر شيوعًا هي الخضراوات مثل البطاطس والبصل والسبانخ والفواكه والمكسرات مثل الزبيب والجوز والفول السوداني والبذور مثل الخشخاش والكمون والسمسم، والملح والسكريات والدهون، الحليب والبيض والتوابل ونشويات الطعام.
يعتبر السانجاك وهو خبز رقيق ومسطّح أحد أكثر السلالات شيوعًا وشعبية في البلاد، وتشير الوثائق التاريخية إلى أن هذا النوع من اختراع الباحث وكبير المهندسين المعماريين الشيخ بهائي خلال السلالة الصفوية، وتعني كلمة سنجاك بالفارسية "حصاة" أو "حجر صغير"، وكان يُخبز على فراش من الحصى الساخن في الفرن.
خبز الاستعمار
بحلول الوقت الذي شق فيه المستعمرون طريقهم إلى العالم الجديد، تم التعرف على "الخميرة" بشكلها الحديث، وكان أساس معظم هذه الخميرة عبارة عن هريس الحبوب أو الدقيق أو البطاطس المسلوقة، ثم عرف الخبز المملح من مقبلات الحليب ودقيق الذرة وأحيانًا البطاطس لتأخير نمو البكتيريا التي قد تفسد الحليب.
أصبحت كلمة "العجين المخمر" جزءًا من اللغة الأمريكية بداية من عام 1897 وخلال القرن التاسع عشر، طور الكيميائيون النمساويون نظامًا لإنتاج الخميرة بكميات كبيرة، حيث زرعت في أوعية تحتوي على خميرة مخمرة، ثم تشكيلها على هيئة كعكات جاهزة للاستخدام.
كان الخبازون يلجئون للغش أحيانا، ويخلطون الخميرة بالنشا والطباشير وطين الأنابيب، لكن بحلول عام 1900 بدأ العالم يضع قواعد صارمة الخميرة لأهم أنواعها جودة، ومع بداية الحرب العالمية الثانية، سعت الحكومة الأمريكية للحصول على خميرة مجففة يمكن استخدامها لصنع الخبز في ساحة المعركة، وأنتجت بالفعل عام 1943 أول خميرة جافة نشطة، وبعد الحرب تم إدخال الخميرة الجافة إلى سوق التجزئة وهي الآن شكل الخميرة الأكثر استخدامًا للخبز المنزلي.
بين الحاكم والشعب
خلال العديد من اللحظات الحرجة في التاريخ، ارتبط الخبز ببعض الحركات السياسية والاجتماعية والاقتصادية مثل توسع ونمو الإمبراطورية الرومانية، أو الثورة الفرنسية، وهو الوقت الذي كان فيه سعر الخبز أسلوب حكم الطبقات الحاكمة، وكانت خطورة زيادة سعر الخبز تماثل اليوم زيادة سعر النفط
من اللافت أيضا أن الخبز كان ضلع الترابط مع السلطة والشعب، فإما يزيد الخبز من ترابط هذا التحالف، أو يفتح صراع قائم ينتهي بتدخل الحاكم في الوقت المناسب حتى يضمن عدم المجاعة للسكان والاستقرار لحكمه.
كان الخبز في أغلب بلدان العالم خاضع لسعر الضريبة، عندما يكون سعر القمح وبالتالي الخبز مرتفعًا بشكل خاص، يكون الناس والاقتصاد في خطر، وتسبب ذلك في اندلاع العديد من الثورات سميت بـ«حروب الخبز» التي عرفها العصر الحديث بداية من عام 1628 في ميلانو.
إذ أدى الجفاف والمجاعة والحرب إلى ارتفاع أسعار الخبز في إيطاليا، فاندلعت ثورة كبرى هجم فيها الإيطاليون على مخبز ميلانو، وهناك أيضا الثورة الشعبية عام 1789 ضد ماري أنطوانيت ملكة فرنسا، فجرتها حروب الخبز التي اندلعت في مدن مختلفة وكانت بمثابة إشارة مسبقة للثورة على الملكة، مما يعني أن تاريخ الخبز كان متشابكًا مع تاريخ العالم، باعتباره العمود الفقري للمجتمعات على مر التاريخ.
في الأديان
تشير النصوص القديمة للإغريق ـ اليونان ـ أنهم كانوا يقدمون الخبز لآلهتهم، وأطلقوا عليه اسم أرتوس ثيوجونوس أو خبز الآلهة، وكان الإغريق القدماء يقدمون قطعًا كبيرة من الخبز في معبد ديميتر، وحتى الآن تنظم البلاد مهرجان يُطلق عليه عيد الأرغفة الكبيرة.
ترصدت الكتب السماوية الخبز بإجلال كبير، في المسيحية من إطعام الخمسة آلاف إلى العشاء الأخير، كما يظهر الخبز في العديد من اللحظات المحورية في سفر التكوين ولا سيما في العهد الجديد، في كل هذه المشاهد، يمثل الخبز الوحدة والأخوة - وهما ركنان من أركان التقاليد المسيحية، كما تُظهر وفرة الخبز في الكتاب المقدس، جنبًا إلى جنب مع رمزيته، ما يدل على المكانة اللامعة التي كان يتمتع بها في المجتمعات القديمة.
في القرآن يتعامل الإسلام مع الخبز بإجلال خاص: "وقَال الآخر إِني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطَير منه "، وأيضا: "وسبع سنبلات خضر وأخر يابِسات"، والآية: "وتلك حكمة ورحمة رب العالمين للبشر فاشكروا الله ليزيدكم ويرحمكم".
نقلًا عن العدد الورقي…،