الرئيس والرغيف.. ناصر سعى إلى تأمينه.. والسادات فشل في تحريكه.. ومبارك فعلها مرتين
كان الخبز في مصر ولا يزال جزءًا أساسيًا من طعام الفقراء، حتى أنهم أطلقوا عليه اسم "عيش" فلا حياة في مصر بدون الخبز "العيش" لكل المصريين، وخاصة الفقراء بعد ارتفاع مُعدل الفقر في مصر، من ثم ظل سعر رغيف الخبز ثابتًا خلال نحو 4 عقود، من أجل توفير الحد الأدنى للحياة، غير أن تجميد سعره على هذا النحو لم يكن صائبًا في ظل التحولات الاقتصادية العاصفة، فضلا عن الزيادة المطردة للسكان من ناحية، وسوء استخدامه من ناحية ثانية، وهو ما دفع الحكومة لإصلاح خطأ دام طويلا، فكما يقولون: آخر الداء الكي.
عبد الناصر والخبز
في "الميثاق"، مبادئ دستور ثورة 23 يوليو 1952، كتب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر: "إن حرية رغيف الخبز ضمان لا بد منه لحرية تذكرة الانتخابات"، وذلك ما جاء في كتاب فلسفة الثورة لجمال عبد الناصر.
اهتم جمال عبد الناصر برغيف الخبز وتحسينه مع ثبات سعره، حيث كان يطلق على عبد الناصر زعيم الفقراء، وذكر سامي شرف، مدير مكتب جمال عبد الناصر في مذكراته "في أحد اجتماعات مجلس الوزراء طلب مني جمال عبد الناصر إحضار أرغفة الخبز التي كنت قد جمعتها من عدة مخابز بالقاهرة وطلب مني وضعها على طاولة الاجتماعات وهنا وجه كلامه لوزير التموين كمال رمزي استينو وقال له: "تقدر تأكل العيش ده؟ فأجابه وزير التموين بالنفي وهنا قال له عبد الناصر سأعطيك مهلة 72 ساعة حتى يتحسن الخبز وإلا سيكون حسابي شديدا"، ولم يطلب عبد الناصر من كمال رمزي زيادة سعر الرغيف.
زعيم الفقراء
وذلك ما حكاه أمين هويدى، كان وزيرًا معاونًا لجمال عبد الناصر لشئون مجلس الوزراء خلال الفترة 1967 حتى 1970، فقال هويدي في كتابه (مع عبد الناصر) "اتخذ الوزراء مقاعدهم.. رتبوا ملفاتهم وطالعوا "الرول" كما كانوا يسمونه باعتباره جدول أعمال الجلسة التي تقرر أن يعقدها مجلس الوزراء.. مضت الدقائق الحاسمة التي تسبق عادة دخول "الزعيم" ليرأس الاجتماع..".
واستطرد هويدي في حكايته، عبر مذكراته، قائلًا: "انفتح باب القاعة الواسعة، ودخل، جمال عبد الناصر،.. كان يحمل في يده حقيبة متوسطة الحجم.. حرص على أن يفتحها باعتبارها أول بنود الاجتماع المشهود".
وذكر هويدي: "بعدها.. ظل يخرج من الحقيبة عددًا من أرغفة الخبز التي حرص على أن يرصّها على الطاولة التي يجلس إليها مرددًا في غضب مكتوم: هذه عينات الخبز البلدى، أحضرناها من مواقع شتى في عاصمة البلاد، من روض الفرج.. سيدنا الحسين.. الدرب الأحمر.. مصر الجديدة.. الوايلى.. شبرا.. مصر القديمة.. إلخ".
"وظل يمسك برغيف تلو الآخر ملّوحًا أمام وزير التموين، ومعربًا عن استيائه إزاء ما وصلت إليه حالة "الرغيف"، سواء من ناحية الحجم أو الوزن أو اللون، مرددًا تساؤله على مسمع من الوزراء: "مين يقدر يأكل مثل هذا الخبز؟.. هل هذا معقول؟!"
التحسين والثبات
ثم طالب الرئيس عبد الناصر بعلاج سريع للموقف على أن تقوم أجهزة التموين بدراسة الحال في المخابز ذاتها، مع موافاته بالنتائج التي تشهد بما تم من إصلاح رغيف العيش"، هكذا ذكر هويدي في مذكراته عن مدى اهتمام جمال عبد الناصر بتحسن الرغيف مع ثبات سعره.
وقال هويدي: "أيامها كانت حرب الاستنزاف قائمة على قدم وساق.. وفيما كان الرجل، يقصد جمال عبد الناصر، يبدأ يومه بأحوال الخبز، وأسعار الزى المدرسى... يومها كان عمره يحوم حول الخمسين.. ازداد الفودان اشتعالًا بالمشيب، واكتست الملامح الصعيدية بغلالة من شجن ما زال مفعمًا بالكبرياء"
وفي كتاب "الرئيس جمال عبد الناصر.. المجلد الخامس" الذي رصدته ابنته الدكتورة هدى جمال عبد الناصر، من خلال خطاباته، جاء في الباب الثامن "مع التطبيق الاشتراكى ومشاكله" صفحة 145، قال عبد الناصر: "ليس العلم للمجتمع عقبة تفرض على العلماء أن يلتزموا بمشكلات الخبز المباشرة وحدها، إن ذلك يصبح تفسيرًا ضيقًا لرغيف الخبز الذي نريده".
انتفاضة الخبز
أما الرئيس أنور السادات فكانت له حكاية مشهورة مع الخبز حكاية أخرى خلدها التاريخ بعنوان "انتفاضة الخبز"، كشف عنها عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس الوزراء ورئيس المجموعة الاقتصادية في عهد الرئيس أنور السادات، في مذكراته حيث قال: "إن أجهزة الدولة السيادية حذرت من أن أي إجراء تتخذه السلطة يمس السلع الغذائية الأساسية للشعب سيؤدي إلى ثورة شعبية عارمة".
بدأت حكاية انتفاضة الخبز عندما أعلن عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس الوزراء ورئيس المجموعة الاقتصادية في عهد الرئيس أنور السادات؛ أمام مجلس الشعب، عن قيام الحكومة باتخاذ مجموعة من القرارات الاقتصادية تقضي بزيادة أسعار الخبز والسجائر البنزين والبوتاجاز والسكر والدقيق الفاخر والذرة والسمسم والحلاوة الطحينية والفاصوليا واللحوم المذبوحة والشاي والأرز والمنسوجات والملبوسات بنسب تتراوح ما بين 30% إلى 50%".
تسببت زيادة الأسعار وخاصة الخبز في ذعر لدى المصريين، وكانت الانتفاضة التي أطلق عليها "انتفاضة الخبز"، وانطلقت الاحتجاجات المصرية لأجل الخبز في انتفاضة 17 و18 يناير 1977، وخرجت فيها قطاعات مختلفة من الشعب المصري في مظاهرات حاشدة بعدة مدن تهتف ضد الجوع والفقر، وكانت أبرز شعاراتها: "مش كفاية لبسنا الخيش.. جايين ياخدوا رغيف العيش.. يا أهالينا يا أهالينا.. آدي مطالبنا وآدي أمانينا".
استمرت الانتفاضة التي بدأها عمال مصر وتلقفها لطلبة والمصريين على مختلف طوائفهم، وازدادت حدتها في 19 يناير، ما اضطر الرئيس السادات إلى إلغاء القرارات الاقتصادية، وخاصة رفع سعر رغيف الخبز "العيش"!
مبارك وزيادة السعر
وبالرغم أن انتفاضة الخبز كانت شبحًا يلوح أمام الحكومات في مصر، كلما فكرت في رفع دعمها عن الخبز، لكن الرئيس حسني مبارك استغل شعبيته خلال العقد الأول من حكمه، وقام برفع أسعار الخبز مرتين. حيث قررت الحكومة عام 1984 رفع سعر رغيف الخبز المدعم إلى قرشين، وزيادة أخيرة عام 1988 حينما ارتفع سعره إلى 5 قروش، وفقًا لبيانات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء.
بدأت حكاية الرئيس حسني مبارك مع رغيف الخبز "العيش" في عام 1982، عندما ظهرت أزمة طوابير العيش، وطرحت آنذاك عدة اقتراحات للحل. وأعلن الرئيس السابق مبارك في مؤتمر برلماني عقد في أكتوبر 1984 أنه قرر زيادة سعر الرغيف إلى قرش واحد للعاملين، وقرشين للأغنياء مع الحفاظ على جودة الرغيف، لمواجهة أزمة الخبز.
أزمة الخبز
وفي عام 1988 زادت حدة أزمة الخبز، عندما صرح الدكتور عاطف صدقي رئيس الوزراء آنذاك، أن مصر تعاني من مشكلة الخبز، وأنها تستورد 75% من احتياجاتها من القمح. وعقد مؤتمر "رغيف الخبز" الذي أعلن أن وجود فاقد في إنتاج الخبز يقدر بـ365 مليون جنيه سنويا، نتيجة للسوق السوداء ولسوء العادات الاستهلاكية، وأوصي المؤتمر برصد 250 مليون جنيه لتحسين إنتاج الرغيف والتقليل من الفاقد، وتحديث صناعة الخبز البلدي والشامي في القطاع الخاص من خلال خطوط الإنتاج نصف الآلية.
أما فترة التسعينيات من القرن الماضي، فشهدت استقرارًا في صناعة الخبز، خاصة في النصف الأول من تلك الحقبة، عندما حصلت مصر على القمح الأمريكي والأسترالي في أعقاب حرب الخليج الثانية، لكن عادت أزمة تطل برأسها من جديد مع بداية الألفية الجديدة، وتصاعدت الأزمة بشكل تدريجي لتصل لمرحلة ما يُعرف بـ"شهداء الخبز"، حيث شهدت طوابير الخبز مصرع عددًا من المصريين تهافتًا على رغيف "العيش".
الإلغاء غير المُعلن
وفي عام 2006 شهدت مصر أزمة جديدة لرغيف الخبز، فجّرتها حقيبة مستحدثة في الحكومة الثانية للدكتور أحمد نظيف، وأطلقت المعارضة عليه اسم "وزارة الفقراء"، حيث جمعت بين "الشئون الاجتماعية" و"التموين"، وجاءت قرارات وزير التضامن آنذاك على المصيلحي بفرض عقد جديد بين الوزارة وأصحاب المخابز بإلغاء دعم الخبز بشكل غير معلن.
كان القرار حادًا في البداية، حيث أمهل أصحاب المخابز فترة شهر لتوقيع العقد الجديد، لكن أصحاب المخابز ردوا بأنهم سيضطرون في هذه الحالة لتغيير وزن الرغيف من 135 جرامًا إلى 90 جرامًا.
أما الحلّ الثاني، فكان في رفع سعر الرغيف إلى الضعف، أي من خمسة قروش إلى 10 قروش، وذلك يمثل أكبر زيادة يمكن أن يتحملها نحو 80% من المصريين، والذين لا يستطيعون شراء ما يُعرف بـ"الرغيف السياحي"، ويفضلون الوقوف في الطوابير التي عادت مع بداية أزمة العقد الجديد.
تخفيض الوزن
وفي عام 2020 اتخذت وزارة التموين قرارًا بتخفيض وزن رغيف الخبز من 110 جرامات ليصل إلى 90 جرامًا، بتخفيض 20 جرامًا للرغيف الواحد. في الوقت الذي أكدت فيه وزارة التموين أنه سيتم الحفاظ على مجموعة من الثوابت في منظومة الخبز، ومن أهمها بقاء سعر رغيف الخبز للمواطن المصرى (خمسة قروش على بطاقة التموين) وعدم المساس بسعره، والمحافظة على نفس الكميات المتوفرة للمواطن المصرى يوميًا، ويعاد النظر في هذه التكلفة كل بداية عام مالى أو كلما اقتضت الحاجة.
نقلًا عن العدد الورقي…،