«نعمة» عادل عصمت
ما الذي سيكتب عنه هذه المرة؟.. سؤال يقفز في مخيلتي كلما يعلن الكاتب والروائي عادل عصمت عن عمل جديد، كل مرة أضع رهانًا، وأخسره، أراهن نفسي أنه لن يكتب عن القرية، لن يكتب عن طنطا، لن يكتب عن الفلاحين والموظفين ونساء البلدات البعيدة، لكن يبدو أن حبلًا سريًا يربطنا سويًا، يجعله قادرًا على معرفة رهاني، ليس هذا فحسب، بل إنه يقبل الرهان، ويكسبه كل مرة عن استحقاق، فـ«فبئر قريته» لم ينضب بعد، وأظن – وليس كل الظن إثم- أنه لن ينضب أبدًا.
«جنازة السيدة البيضاء».. الصادرة عن دار «الكتب خان»، جديد «عصمت» في «دُنيا الرواية»، وهي امتداد لـ«خط الحكي» الذي سبق وأن رسمه صاحب «صوت الغراب» و«النوافذ الزرقاء» و«حكايات يوسف تادرس»، فالكتابة عند «عصمت» بالنسبة لي، ليست تقنيات أو «تكنيك» أو حتى «حبكة» و«لحظة ذروة»، بل دائما عندما أقبل على ما يخطه الكاتب الذي اختار منذ سنوات طويلة الابتعاد عن «ضجيج القاهرة» والتمتع بـ«براح طنطا»، لكنها شيء أقرب لـ«حكايات ما قبل النوم» اللذيذة الممتعة المدهشة في آن معًا، فـ«عصمت» مع حفظ الألقاب والمقامات، يعرف كيف يسحبك من جميع الطوابير التي تقف فيها بحثًا عما تظنه ستكتمل به حياتك، يمنحك مقعدًا مريحًا، ويطلب منك أن تستريح، لا لتقرأ بل لتصبح واحدًا من أبطال رواياته، لا سيما وأن «الإنسان العادي» هو البطل الدائم، والمفضل، في جميع أعماله.
«نعمة».. دُرة تاج «جنازة السيدة البيضاء»، ابنة عائلة «الأبيض»، التي لم يخل جيل من أجيالها من وجود «نعمة»، وفي كل جيل تكون «نعمة» هي محور الأحداث، فهي التي أسقط جمالها «عبد الله» مرتين، الأولى من فوق حصانه، والثانية في «الجب» الذي قرر كبار العائلة حبسه فيه، بعدما طلب أن يتزوج ابن البيت العريق «بنت الفلاحين»، و«نعمة» هي التي أسقطت حمدي بدران، الهارب من حبها إلى حبها، في بحر عشقها لسنوات زادت عن الـ 27 عامًا، وعندما اقترب منها أخيرًا ولمسها، ارتد على عقبيه حزينًا خائفا مرتعشًا، فـ«نعمة» التي أحبها ملفوفة الآن في «كفن أبيض»، ورغم السنتميرات القليلة التي تفصله عنها، إلا أنه لن يستطيع أن يقترب أكثر.
عثمان الفقي.. «العقيد»، طالته هو الآخر لعنة «نعمة الأبيض»، عندما واجهته بـ«الطلاق إذا فرض عليها النقاب»، وبموتها أعادته مجددًا إلى دائرة اللعنة، فهي التي ماتت وهو خارج البيت، وهي التي أوصت ألا تدفن إلا في مقابر عائلتها، وهي – مثل جدها- طار نعشها فرحًا وهو متجه إلى «مقبرة الأبيض»، وهي التي علمت أطفالها الثلاثة أن «حلمهم هو بوابة خروجهم».
«عصمت» والقاهرة
«الغُربة».. حلم أورثته «نعمة» لأبنائها، أطعمتهم إياها مطحونة بـ«بخبز حلمها» القديم بأن تتحرر، وهي البنت الأخيرة في «نخطاي» التي ارتدت الحجاب وتركت «الملابس القصيرة»، فـ«مروان» الذي تلقي صفعات متتالية من أبيه لأنه أراد الثورة، هو ذاته الذي رفضت «نعمة» أن تودعه وهو في طريقه إلى «منفاه» الاختياري في ألمانيا.
«منار».. الطبيبة، التي اختارت «الاغتراب الداخلي»، بعدما انتقلت للعمل في القاهرة، المدينة التي لم يستطع «عصمت» إخفاء كراهيته لها، والتي قال عنها في الصفحات الأولى للرواية «سماء القاهرة ليست سماء.. أدخنة وطاقة داكنة تشكل سقفًا يوشك أن يسقط»، وبالعودة إلى «منار»، فإن المسافة الهائلة التي يحاول أن يصنعها «عصمت» طوال صفحات روايته، تتضاءل أمام «موت نعمة»، فـ«منار» التي انتظرتها «نعمة» طوال ساعاتها الأخيرة لم تأت في الموعد، هي التي اقتربت من السرير الذي وضعت عليه «جثة نعمة»، بعدما طاردها الوهم بأن أمها تتنفس، وهي التي ستكتشف أنها الأكثر شبهًا دون عن بقية أشقائها بأمها، وهي التي ستحمل الأمانة التي تركتها «نعمة» في جيب بطانة الجاكيت البنفسجي الذي احتفظت به الأم الراحلة في دولاب غرفتها بمنزل أبيها، «الخطاب الغرامي» الوحيد الذي تلقته «نعمة» في حياتها، خطاب حمدي بدران، لتقرر «منار» أن تستكمل مسيرة «نعمة»، وتحمل الخطاب في حقيبتها، الخطاب الذي اعتبرته رسالة انتظرتها سنوات طويلة لكي يبعث في قلبها شعاعًا من المحبة، يجعلها قادرة على أن تتحمل أحزانها و«غربة أسرتها»، الخطاب الذي اعتبرته «كنزًا من المحبة».