النيل.. صانع الحضارات..كيف روض المصريون النهر على مدار التاريخ
على ضفافه.. اكتشف المصريون الزراعة واستئنأسوا الحيوان وصدروا الغذاء للعالم صدق الله عز وجل إذ يقول: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}، والمياه أهم الموارد الطبيعية على كوكب الأرض بعد الهواء الجوى، فهى أساس الحياة على سطح الأرض لكل الكائنات الحية، وإن تنوعت بين العذب والمالح والسطحية والجوفية.
وتمثل المسطحات المائية 80% من سطح الكرة الأرضية، ففى البحار والمحيطات 317 مليون ميل مكعب، والكتل الجليدية 7.3 ملايين ميل مكعب، والبحيرات المالحة 25 ألف ميل مكعب، والأنهار 411 ألف ميل مكعب، ومياه البحيرات العذبة 30 ألف ميل مكعب، والمياه الجوفية مليون ميل مكعب، والتربة غير المشبعة 16 ألف ميل مكعب، وبخار الماء فى الجو 3.1 ألف ميل مكعب.
نهر النيل من أطول أنهار العالم، ويبلغ طوله من منبعه إلى مصبه 6825 كم، وفق ما ذكره كتاب مياه النيل «القدر والبشر» للكاتب أحمد السيد النجار، حيث يبلغ إيراد النهر نحو 1630 مليار متر مكعب سنويا لا تستغل منه إلا 10% فقط، والباقى مفقود، ويبلغ طول نهر النيل فى مصر 1530 كم، وتبلغ مساحة حوضه 3.1 ملايين متر مربع، ويغطى هذا حوض الدول العشر التالية: (رواندا، بوروندى، وتنزانيا، والكونغو، كينيا، أوغنده، إريتريا، إثيوبيا، السودان، مصر)، ويبلغ حجم الموارد المائية فى مصر نحو 69.7 مليار متر مكعب تستخدم فى جميع الأغراض، ويمثل نهر النيل أكثر من 95% من موارد مصر المائية، وتبلغ حصة مصر من مياه النيل 55.5 مليار متر مكعب سنويا، وبفضل إنشاء السد العالى عام 1964، واستخـدام سعته الكبيرة للتخرين المستمر أصبحت مصر تضمن الحصول على إيراد سنوى ثابت من المياه.
وكشف الكاتب فى كتابه أنه منذ أقدم العصور ارتبط المصريون بنهر النيل واعتبروه باعث الحياة فوق أرضهم، وعلى ضفة النهر العظيم اكتشف المصريون الزراعة وتعلموا استنبات الزرع واستئناس الحيوان، ونجحوا فى إقامة أقدم الحضارات التى عرفها العالم، وارتبطت مصر وحضارتها بالزراعة وابتكر المصرى الآلات الزراعية وآلات الرى، وعني المصريون بتصوير العمليات الزراعية من حرث ورى وحصاد وتخزين على جدران معابدهم ووضعوا أساس التقويم الزراعى، فكانت مصر أول دولة نظمت فيها الزراعة بمواعيد وتوقيتات حسابية.
أصبح النشاط الزراعى بفضل النيل تشكل ركيزة الحضارة والاقتصاد عبر العصور التاريخية المتتالية، ذكرها المؤلف فى كتابه أنه فى عصر البطالمة اتسعت مساحة الأراضى الزراعية وتنوعت المحاصيل الزراعية، وعنى ملوك البطالمة بشئون الرى وتنظيم استخدام المياه وشق الترع والقنوات وإقامة الجسور وحفر الآبار فى الصحراء.
فيما شهد العصر الإسلامى شق الترع الكبيرة، وإقامة الجسور وبناء القناطر وإنشاء مقاييس للنيل واستصلاح الأراضى، وفى العصر العثمانى شهدت مصر ثورة فى مجال الزراعة والرى، حيث تم إقامة العديد من مشروعات الرى الكبرى مثل الرياحات الثلاثة والترع والقناطر والخزانات، ما أدى إلى توفير المياه اللازمة لتحويل جزء كبير من الأراضى الزراعية إلى نظام الرى الدائم، ومن ثَم زيادة الرقعة الزراعية، ومن أهم المشروعات التى شهدتها هذه الفترة إنشاء القناطر الخيرية عام 1861، وحفر الرياح البحيرى والتوفيقى والمنوفى ومئات الترع، وإنشاء خزان أسوان عام 1902 (تمت تعليته مرتين)، وإنشاء قناطر إسنا عام 1908، وقناطر نجع حمادى عام 1920، وترتب على تنفيذ هذه المشروعات زيادة مساحة الأراضى الزراعية من 2 مليون فدان عام 1813 إلى نحو 5 ملايين فدان فى بداية الخمسينات من القرن العشرين.
ومع قيام ثورة يوليو 1952 خطت مصر أولى خطواتها على طريق مشروعات الرى العملاقة، فكان مشروع السد العالى هو أعظم المشروعات الهندسية الإنشائية التى تمت فى مصر خلال القرن الماضى (1964) وهو أكبر إنجاز حققته مصر فى تاريخها الحديث، ويعد هذا المشروع نقطة تحول فى تاريخ الزراعة المصرية، وبداية انطلاق الصناعة المصرية الحديثة، ومنذ بدء التخزين فى بحيرة السد العالى (ناصر) عام 1964 نجح هذا المشروع العملاق فى ضبط مياه النيل والتحكم فيها وتحقيق الأمان المائى لمصر مما ساهم فى التوسع فى مشروعات التنمية الزراعية من 5.2 ملايين فدان فى الخمسينيات لتصل إلى 5.8 ملايين فدان فى السبعينيات.
وتواصلت مسيرة التنمية ليرتفع معدل النمو السنوى الزراعى فى المتوسط من 2.6% فى الثمانينيات إلى 3.4% فى التسعينيات ثم إلى 3.6% عام 20062007، كما تزايدت مساحة الأراضى الزراعية بنحو 2.3 ملايين فدان خلال هذه الفترة، وانطلقت مصر نحو مشروعات التوسع الزراعى العملاقة التى تساهم فى إضافة 1.4 ملايين فدان، وفى زيادة المساحة المأهولة بالسكان من 5.5% من مساحة مصر إلى 25%، وفى إعادة رسم الخريطة السكانية بعد خلق مجتمعات عمرانية جديدة فى الصحراء المصرية تشكل مناطق جذب سكانى لما توفره من فرص عمل جديدة.
بالإضافة إلى ما سبق من تدعيم التنمية المستدامة على أرض مصر، بدأت مصر كذلك فى تنفيذ سلسلة من المشروعات القومية العملاقة تهدف هذه المشروعات إلى رسم خريطة عمرانية وإنتاجية جديدة تحقق التنمية المتوازنة بين أقاليم مصر المختلفة وتضمن الاستغلال الأمثل لكافة الموارد المتاحة والتى لم تستغل بعد فى المناطق الصحراوية التى تتمتع بمقومات طبيعية واحدة، وتتركز هذه المشروعات فى منطقتين هما إقليم جنوب مصر وإقليم القناة وسيناء، وتسهم هذه المشروعات العملاقة فى خلق مجتمعات عمرانية جديدة خارج الوادى فى أعماق الصحراء المصرية تكون متنفسًا تنطلق فيه الزيادة السكانية مما يساهم فى تخفيف حدة الكثافة السكانية بالوادى لتزيد المساحة المأهولة من 5.3 % إلى 25% من إجمالى مساحة البلاد كما تساهم فى إقامة مشروعات إنتاجية زراعية وصناعية وسياحية وتعدينية وتفتح أبواب الاستثمار أمام الجميع.
وذكر "كتاب النيل فى خطر" لكامل زهيرى المشروعات العملاقة فى مجال الموارد المائية التى تم بناءها فى مصر بفضل النيل، ومنها مشروع توشكى وهو المشروع الذى يهدف إلى خلق دلتا جديدة جنوب الصحراء الغربية موازية للنيل، تساهم فى إضافة مساحة تصل إلى 540 ألف فدان للرقعة الزراعية يتم ريها بمياه النيل عبر ترعة الشيخ زايد التى تبلغ حصتها من المياه نحو 5.5 مليارات متر مكعب سنويا، ويضم هذا المشروع فى رحابه مختلف الأنشطة الاقتصادية وبلغت التكلفة الاستثمارية للمشروع نحو 4014 مليون جنيه، وأيضا مشروع شرق العوينات أكبر مشروعات التنمية الزراعية فى جنوب الوادى، حيث يقع فى الجزء الجنوبى الغربى من الصحراء الغربية، ويهدف إلى إضافة نحو 230 ألف فدان للرقعة الزراعية يتم ريها بالكامل من مياه الخزان الجوفى بالمنطقة ويطبق المشروع أسلوب الزراعة النظيفة بهدف توفير إنتاج زراعى خال من الملوثات يتم تصديره إلى الخارج، وبلغ عدد الآبار 380 بئرًا وقد تم تطبيق الأسلوب العلمى فى اختيار المحاصيل المزروعة وأهمها البطاطس والأعشاب الطبية والفواكه والحبوب التى تناسب مناخ المنطقة، وقد حقق المشروع نتائج مبشرة وتم تصدير منتجاته إلى الخارج.
مشروع ترعة السلام، من أهم مشروعات التنمية العملاقة حيث يساهم فى إضافة 620 ألف فدان للرقعة الزراعية تروى بمياه النيل بعد خلطها بمياه الصرف الزراعى، وتمتد ترعة السلام وفروعها بطول 262 كم. وأيضا كتاب نهر النيل نشأته واستخدام مياهه فى الماضى والمستقبل للدكتور رشدى سعيد ذكر أن أن لنهر النيل أهمية اقتصادية كبيرة وليس زراعية فقط، تتماثل فى الصيد حيث يعتمد الصيادون على الأسماك النيلية المتواجدة به ويتميز بوجود العديد من الأحياء المائية مثل تمساح النيل، وأيضا هناك العديد من أنواع الأسماك المتواجدة فى الجزء السفلى من النيل، ومن هذه الأسماك: السمك النمرى، والسمك البنى، والسمك البلطى، وعدة أنواع من سمك السلور. كما يزود المصريين بالقصب المعروف باسم ورق البردى الذى استخدموه لصنع القوارب والورق، كما أنه أتاح لهم فرصة الحصول على الأموال من خلال التجارة مع الأشخاص من دول مجاورة.
وذكر أن لنهر النيل أهمية كبيرة فى السياحة حيث يجذب السياح من كل بقاع العالم، للاستمتاع بمنظره الجميل والتقاط الصور حوله، والاستمتاع برحلات ترفيهية على نهر النيل برحلة القوارب النهرية. واستعرض المؤلف أيضا أهمية نهر النيل فى مجال النقل بأنه يسمح بنقل البضائع والأشخاص على طوله، مما يساعد الأشخاص على تجنب المناطق الصحراوية المعزولة باعتبارها الطرق الوحيدة للوصول إلى وجهاتهم، وتستفيد بلدان أخرى مثل السودان، وأوغندا، وتنزانيا، وبوروندى من حيث اعتمادهم على الزراعة، والنقل، وأنشطة الصيد، حيث إن نهر النيل مسئول عن دعم حياة ملايين الأشخاص الذين يسكنون على ضفافه.
على جانب آخر، الكثافة السكانية الكبيرة فى المناطق المزروعة جراء الفيضانات والتى تقع جنوب الدلتا، حيث تبلغ ما يقارب 1280 نسمة لكل كيلومتر مربع، كما وتتمكن أغلبية هؤلاء السكان، وأغلبهم من المزارعين الفلاحين من البقاء على قيد الحياة من خلال الاستغلال للأراضى والمياه المتوفرة بأكبر قدر ممكن وبشكل مدروس، وقبل إكمال بناء سد أسوان العالى، فقد تركزت الكميات الكبيرة من الطمى والقادمة من المرتفعات الخصبىة فى إثيوبيا، بفعل الفيضانات المائية فى مصر، حيث تم الحفاظ على خصوبة الأراضى الزراعية الكثيفة الموجودة على ضفاف النهر على مر القرون، لذلك فقد كان تيار النهر من السمات الحيوية فى حياة الشعب المصرى، حيث إنه كان ممرًا مائيًا حيويًا من أجل نقل الناس والبضائع، وخاصة فى موسم الفيضانات عندما يكون التنقل بالسيارات غير ممكن؛ كما وتعتبر بواخر الأنهار الوسيلة الوحيدة للتنقل فى معظم المناطق. وفى نفس السياق، يقول الدكتور عادل عامر مدير مركز المصريين للدراسات السياسية والاقتصادية، أن المصريين القدماء أدركوا أن نهر النيل هو رب الحياة التى خلقت حضارتهم، لذا نظروا له بعين القداسة، وخصصوا له عددا من الأرباب أشهرهم الإله "حعبي"، والذى يمثل فيضان النيل سنويا، لذا جاء ذكره كثيرا فيما يعرف بـ"أناشيد النيل"، وضمن فقرات فى "نصوص التوابيت"، كما أطلق عليه أيضا "سيد الفيضان" و"رب أزلي" و"خالق" و"رب الأرباب" و"أقدم الأرباب"، كما وصف بـ"سيد الكل"، الذى يحدث التوازن فى الكون.
أوضح "عامر" أن مساحة المناطق التى تعتمد على مياه نهر النيل تصل إلى 2.87 مليون متر مكعب، وأن 300 مليون نسمة، هم سكان دول رواندا وبوروندى وتنزانيا وكينيا والكونغو وأوغندا وإثيوبيا وإريتريا إضافة إلى السودان ومصر، يقتسمون مياه ذلك النهر، وأن العديد من تلك الدول تواجه نزاعات مسلحة مع جاراتها. وكشف مدير مركز المصريين للدراسات السياسية والاقتصادية، أن نهر النيل هو سبب ازدهار حضارة مصر الكبيرة والواسعة التى يتحدث عنها الجميع، فهو شيء مقدس يجب أن الحفاظ عليه، منوها على أهمية نهر النيل تاريخيًا وجغرافيا، حيث إنه له فضل عظيم على كل الدول التى يمر بها والتى يجب ألا نجهلها ونتذكرها دائما، أولها المياه التى هى أساس وسر كل كائن حى أيضا هى السبب فى زراعة الأرض، التى اكتشفها الإنسان منذ قديم العصور فتسببت فى زراعة مساحات شاسعة من مصر على ضفاف هذا النيل يأمل الإنسان من خيراته ويقيم الحضارات على ضفافه.
وتابع: فبفضله أصبحت أراضى مصر جاهزة للزراعة، وأصبحت تربتها تربة خصبة رائعة بها كل المكونات اللازمة لزراعة الأرض زراعة طبيعية تعطى أفضل النتائج وهى التى تفتقر إليها دول كثيرة ودول عظمى، وأيضا فيضان النيل الذى أعطى مصر ما نسميه الطمى، والتى بنى عليها الإنسان المصرى المدن والقرى والحضارات، مضيفا لنا أن نتخيل مصر من غير هذا النيل العظيم فى ظل مناخها المعروف بالجفاف وقلة المياه. وأشار إلى أن القدماء المصريين استفادوا من هذا النيل استفادة كبرى لينهضوا بمصر، وكانوا مبدعين فى ذلك فكانوا يأتون على ضفاف النهر بجانب النهر يحفرون الحفر الكبيرة والعميقة، حتى إذا فاض النيل. حتى إذا فاض النيل تمتلئ بالمياه، حتى يستفيد بها فى فترات الجفاف، وكان يعتمد المصريين القدماء على هذا النيل كل الاعتماد فى الانتقالات والطعام. ومما يعكس لنا أهمية هذه النيل عند قدماء المصريين ممارساتهم الدينية عليه، فكانت هناك عروس النيل التى كانوا يلقونها فيه اعتقادا منهم أنها السبب الذى يفيض النيل من أجله. وتابع قائلا: كما يحظى نهر النيل بأهمية كبيرة فى حياة المصرى المعاصر؛ إذ يُعد المصدر الأهم للمياه فى مصر التى تعتمد عليه لسد أكثر من 97٪ من احتياجاتها المائية، كما اعتبر المصرى القديم نهر النيل مصدر الحياة، فقد غذى النهر -باتجاهه شمالًا فى مسار ثابت- الوديان الخصبة فى شمال شرق أفريقيا لملايين السنين، وبذلك تشكلت واحدة من أهم الحضارات الإنسانية وأقدمها، الحضارة المصرية القديمة.