السلفية.. التاريخ الأسود للجماعة ذات الرداء الأبيض.. رشيد رضا مهد لظهورهم.. ويمتلكون قدرات هائلة على التحايل والتخفي
هل كان السلفيون في مأمن حتى اللحظة التي مثل فيهم شيخهم محمد حسين يعقوب أمام المحكمة شاهدًا في القضية المعروفة إعلاميًا بـ"خلية دواعش إمبابة"، فانهارت أسطورتهم وتضاءلت مكانتهم بين الناس، أم أن هذا الانهيار سبقته إرهاصات كاشفة، لكنهم تغافلوا عنها؟
بعيدًا عما يعتبره السلفيون أنفسهم مكايدات سياسية وتصفية حسابات، فإن الواقع يقول إن التيار السلفي هو من شرع في إسدال الستار على مسرحيته الهزلية منذ ثورة 25 يناير 2011 وما تلاها من أحداث وتداعيات، تمثلت في انخراطهم في المشهد السياسي، وتواطؤهم مع جماعة الإخوان الإرهابية، ولعل الشيخ محمد حسين يعقوب نفسه هو صاحب تعبير "غزوة الصناديق"، ومن أكثر رموزهم التي والت وآزرت وأيدت حكم الإخوان وروجت ودعت له على رؤوس الأشهاد.
سقوط السلفيين
حالة الشطط التي أصابت السلفيين خلال هذه الفترة، فضلًا عن كثير من السلوكيات الخاطئة التي تورط فيها منتسبون للتيار السلفي، وغيرها من التجاوزات المختلفة، صاغت صورة مشوهة لـ"الإنسان السلفي"، وأظهرته شخصًا برجماتيًا باهثًا عن أطماع الدنيا وملذاتها، وليس كما يوهم غيره بـأنه رجل أخروي، فأكثر السلفيين لا يعرفون من الدين سوى الآية الكريمة: "مثنى وثلاث ورباع".
سقوط السلفيين في براثن السياسة بجوار الإخوان كان سببًا رئيسًا لا ينبغي التغافل عنه في حالة الخصومة التي نشأت بين قطاعات واسعة من الشباب وبين الدين، أسفرت عن تفاقم ظاهرة الإلحاد على نطاق واسع، وأدرك كثيرون أن التيارات المتأسلمة توظف الدين في أطماعها الدنيوية، ويستخدمه أعضاؤها سلاحًا نافذًا للوصول إلى ما يريدون بأقصر الطرق.
"فيتو" تطرح في هذا الملف حزمة من التساؤلات المتشابكة، من بينها: هل انتهت أسطورة السلفيين في مصر، هل فقد رموز التيار السلفي ذوو الجماهيرية الواسعة شعبيتهم، هل حان الوقت لطي صفحة السلفيين إلى غير رجعة خاصة مع انحسار الوهابية في السعودية؟
كما نتطرق في الوقت ذاته إلى تأصيل الظاهرة السلفية، وما جلبته على المصريين، ونتعرض لقراءة في الخطاب السلفي، وحتى لا يكون حديثًا من طرف واحد، فسوف نمنح الفرصة للرأى الآخر، متمثلًا في قيادات السلفيين حتى يدلوا بشهاداتهم..
الأصول
يتصور البعض أن السلفية شاعت فى المجتمع المصرى بعد تولى الرئيس محمد أنور السادات السلطة، وفتح المجال العام للتيارات الدينية لمواجهة الناصريين والشيوعيين الذين رفضوا منهج خليفة ناصر فى السلطة وانفتاحه على أمريكا، وتغيير السياسات الاقتصادية إلى رأسمالية الدولة بدلًا من الاشتراكية بتطبيقاتها السياسية والاقتصادية، لكن القضية أبعد منذ ذلك بكثير، تحتاج إلى العودة لمعانيها، وما المقصود بها، ومتى بدأت، وأين انتهت فى مصر؟
تعنى السلفية العودة إلى فعل سلف الأمة، والثلاثة قرون الأولى، يقول الدكتور كمال حبيب، الباحث فى شئون الجماعات الإسلامية، ويوضح أنها واحدة من التيارات الدينية العقائدية، لهذا كانت السلفية كتيار فكرى سابقة على إنشاء الجمعيات الإسلامية.
يوضح حبيب أن الدور الأكبر فى انتشار هذا التيار بمصر يعود إلى محمد رشيد رضا، وهو مفكر إسلامى من رواد الإصلاح الذين ظهروا فى النصف الأخير من القرن الثامن عشر، كما كان صحفيا وكاتبا وأديبا، بجانب أنه واحد من ألمع تلاميذ محمد عبده، وإلى جانب رشيد رضا، ساهم فى ترويج السلفية بمصر محب الدين الخطيب، وكان أيضا أديبا وصحفيا وداعية إسلاميا، سوري النشأة، وأحد مؤسسى جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة.
خلفية الخطيب وعمله ساهما فى تمكنه من تدشين مكتبة سلفية، أصدر من خلالها الكتب التى تنظر للفكرة، وتحقق فى كتب التراث الإسلامى، لكن لم تستمر القضية محصورة على بعض الأفراد، وشاعت أكثر بتأسيس جمعية أنصار السنة المحمدية عام 1926، ورغم رواج الفكر السلفى آنذاك بسبب شعبية الجمعية إلا أنها لم تبتعد بالسلفية أكثر من المجال الفكرى، ولم تنخرط فى السياسة مثل الإخوان التى تأسست فى توقيت مقارب، لكنها اقتحمت السياسة وحصلت على شعبية كبرى، بحسب الدكتور ياسر مرزوق، الأمين العام لجمعية أنصار السنة المحمدية.
السبعينيات
رغم هذه التأكيدات على خصوصية الفكر السلفى، إلا أن المسيرة استكملت إلى رحلة السبعينيات، وهنا تحول المشهد، بتشكيل تنظيمات سلفية أكثر حضورا فى المجال العام اعتمادا على الأنشطة الطلابية بالجامعات، التى شهدت عصرا ذهبيا فى هذه المرحلة بسبب تغير مزاج رأس الدولة –السادات- من القومية والاشتراكية إلى الانفتاح على الدين والإسلاميين، وحشدهم فى مواجهة اليسار والشيوعيين.
كانت كلية الطب بجامعة الإسكندرية من أهم مسارح تأسيس الدعوة السلفية -السلفية العلمية- عام 1977 وأصبحت أحد التنظيمات السلفية الرئيسية فى البلاد، وكان لافتا معارضة السلفيين السكندريين جماعة الإخوان دينيًا، واتبعت منذ بدايتها النهج الوهابى ومنهج الشيخ ابن تيمية.
السلفية العلمية تبنت طريقا مختلفا عن الجميع، إذ تبنت منذ نشأتها الدعوة للعمل على أسلمة المجتمع من القاع للقمة، واعتبروا الأسلمة شرطا للسعى فى إنشاء إنشاء دولة إسلامية تكون قادرة على الاستحواذ على السلطة واستكمال عملية البناء، وهو ما يخالف فكر الإخوان الداعى إلى الانخراط ومزاحمة الساسة، ولهذا بقى الصراع بين الإخوان على المنهج والطريق مع سلفية الإسكندرية مختبئا حتى ظهر بوضوح بعد ثورة 2011، ولا يزال حتى الآن.
لكن لم يؤمن كل السلف بهذه الفكرة العلمية، فالسلفية بها قدر كبير من العمومية، يقول كمال حبيب، ويكمل: ظهرت السلفية بطرق متعددة حتى حسب المناطق داخل البلاد، مردفا: ظهر فى الجانب الآخر للتصور العلمى السلفية الحركية، التى مثلها فوزى السعيد ومحمد عبد المقصود وغيرهم، وهؤلاء نادوا بالحاكمية فى كل مسائل الحياة، ورفضوا القوانين الوضعية.
بخلاف السلفية العلمية، دخل الحركيون معركة كبرى مع الدولة، اعتمدوا وسائل عنيفة بما فى ذلك القتال المسلح والإرهاب، وبدأ أنشطتهم منذ السبعينات، واستمر الصدام مع أجهزة الدولة ومحاولة تغيير النظام بالقوة المسلحة، ونفذوا عمليات إرهابية بحق الأقباط والسياح، لكن الدولة استطاعت التصدى لهم وأجبرتهم على الاستسلام.
المراجعات الفكرية
وكان من نتاج ذلك الشروع فى إنتاج المراجعات الفكرية، التى قامت بها عبر أعضاء مجلس الشورى المسجونين فى ليمان طرة، وبدأ السعى فى المشاورات لإلقاء السلاح ووقف العنف منذ عام 1997 حتى 2003.
فى 2011 أصبحت الأمور مختلفة تماما، يقول أحمد الشوربجى، الباحث فى شئون الجماعات الإسلامية: تعامل التيار السلفى بمنطق التحايل، خاصة أنه يملك قدرات كبيرة تنافس الإخوان وتتفوق عليها فى التخفى وتأمين أفكاره، ولا سيما الذى يمثل خطورة مثل التكفير وحمل السلاح فى مواجهة الدولة.
يوضح ذلك تخفى أعضاء التيارات السلفى حتى يوم 8 فبراير 2011، والامتناع تماما عن المشاركة فى الثورة، قبل ظهور تأكيدات على سقوط النظام، وهى اللحظة الفارقة التى قرر فيها السلف بمختلف تنوعاتهم السماح لأعضائهم بالتظاهر لإسقاط الحكم، وفى مرافقة تاريخية، أصبحت التيارات المنبوذة ثقافيا وسياسيا، بل جماهيريا، تسعى سريعا لإنشاء أحزاب سياسية تنافس على السلطة.
حصل حزب النور -الذراع السياسية للدعوة السلفية- على أول ترخيص بالعمل، بعده ظهر حزب الفضيلة، ثم الأصالة، وأخيرا البناء والتنمية -الذراع السياسية للجماعة الإسلامية- وشكلت هذه الأحزاب الثلاثة ائتلافا يهيمن عليه حزب النور، قدم 610 مرشحين، وكان الرقم مفاجأة حتى للإخوان أنفسهم، ونافسوا بشراسة وحصلوا على نحو 85 % من إجمالى المقاعد فى البلاد فى أول انتخابات برلمانية، ليفوزوا معا بنسبة 25 % من الأصوات، ويشكل السلف ثانى قوة سياسية فى البلاد بعد الإخوان.
لم يستطع السلفيون باختلاف مرجعياتهم داخل هذا التكتل إخفاء موقفهم الحقيقى كثيرا، يقول الشوربجى، ويضيف: دخلوا فى صدامات عدة مع القوى المدنية بسبب تفسيراتهم الدينية المتطرفة لمفهوم الوطن وتحية العلم والسلام الجمهورى وموقفهم من الفن ورأيهم فى استخدام العنف وحمل السلاح.
هذا التباين، أثر على التحالف بين الجماعات السلفية، وبدأت الانتخابات الرئاسية تظهر الصراعات بينهم، إذ دعم سلفيو الأصالة محمد مرسى، بينما دعم سلفيو النور عبد المنعم أبو الفتوح فى الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة عام 2012، وبعد فشل أبو الفتوح انتهى الأمر بجميع الجماعات السلفية إلى دعم محمد مرسى.
30 يونيو
ساهم السلفيون بقوة فى إرباك ما بعد ثورة يناير، تسببت تصرفاتهم فى شحن الشارع ضد التيار الدينى بأكمله، فخرج فى ثورة عارمة -30 يونيو 2013- وانتهى السلفيون إلى عزلة قاتلة بعد أن وضحت تصعدات وشروخ كبرى انتهت بانشقاق عدد كبير من قيادات النور، منهم أول رئيس للحزب عماد عبد الغفور بسبب رفضه وصاية الدعوة السلفية على الحزب السكندرى، فى تقليد لما يحدث داخل الإخوان من قيادات الجماعة.
مع عبد الغفور خرج عدد كبير من القيادات وأسسوا معا تجربة جديدة سرعان ما انتهت قبل أن تبدأ وهى حزب الوطن، بسبب عدم وجود دعم تنظيمى للحزب كما كان يحدث مع النور بجانب رفض الشارع لهم، فيما انتهى أنصار الإخوان من السلفيين إلى الهروب خارج البلاد، وفشل حزب البناء والتنمية ذراع الجماعة الإسلامية فى الاستمرار مع مصر الجديدة تحت قيادة هاربة فى تركيا (طارق الزمر) وبدا واضحا أن الحزب وجماعته تجاوزهما الزمن.
بينما انتهت حركة حازمون بسجن مؤسسها حازم صلاح أبو إسماعيل ومعه عدد من قيادات الحركة، بسبب مشاغبات الحركة على مدار عمر الثورة المصرية وترويجها لأفكار متطرفة وشحن السلف وتحريضهم على الاستعداد لثورة إسلامية على غرار إيران، مما أدى لاستبعاد أبو إسماعيل من الانتخابات الرئاسية عام 2012 والقبض عليه بعد إسقاط الإخوان عن الحكم.
ويرى الشوربجى أن الظرف والقدرة لم يسمحا للسلفيين بتنفيذ مشروعهم فى مصر، أو الخروج على النظام الجديد، فالمصلحة من وجهة نظرهم فى المسالمة وعدم التهور، واختيار العنف يكون حسب القدرة والظروف، وهو أمر غير متاح فى مصر الآن، على حد قوله.
نقلًا عن العدد الورقي...
بعيدًا عما يعتبره السلفيون أنفسهم مكايدات سياسية وتصفية حسابات، فإن الواقع يقول إن التيار السلفي هو من شرع في إسدال الستار على مسرحيته الهزلية منذ ثورة 25 يناير 2011 وما تلاها من أحداث وتداعيات، تمثلت في انخراطهم في المشهد السياسي، وتواطؤهم مع جماعة الإخوان الإرهابية، ولعل الشيخ محمد حسين يعقوب نفسه هو صاحب تعبير "غزوة الصناديق"، ومن أكثر رموزهم التي والت وآزرت وأيدت حكم الإخوان وروجت ودعت له على رؤوس الأشهاد.
سقوط السلفيين
حالة الشطط التي أصابت السلفيين خلال هذه الفترة، فضلًا عن كثير من السلوكيات الخاطئة التي تورط فيها منتسبون للتيار السلفي، وغيرها من التجاوزات المختلفة، صاغت صورة مشوهة لـ"الإنسان السلفي"، وأظهرته شخصًا برجماتيًا باهثًا عن أطماع الدنيا وملذاتها، وليس كما يوهم غيره بـأنه رجل أخروي، فأكثر السلفيين لا يعرفون من الدين سوى الآية الكريمة: "مثنى وثلاث ورباع".
سقوط السلفيين في براثن السياسة بجوار الإخوان كان سببًا رئيسًا لا ينبغي التغافل عنه في حالة الخصومة التي نشأت بين قطاعات واسعة من الشباب وبين الدين، أسفرت عن تفاقم ظاهرة الإلحاد على نطاق واسع، وأدرك كثيرون أن التيارات المتأسلمة توظف الدين في أطماعها الدنيوية، ويستخدمه أعضاؤها سلاحًا نافذًا للوصول إلى ما يريدون بأقصر الطرق.
"فيتو" تطرح في هذا الملف حزمة من التساؤلات المتشابكة، من بينها: هل انتهت أسطورة السلفيين في مصر، هل فقد رموز التيار السلفي ذوو الجماهيرية الواسعة شعبيتهم، هل حان الوقت لطي صفحة السلفيين إلى غير رجعة خاصة مع انحسار الوهابية في السعودية؟
كما نتطرق في الوقت ذاته إلى تأصيل الظاهرة السلفية، وما جلبته على المصريين، ونتعرض لقراءة في الخطاب السلفي، وحتى لا يكون حديثًا من طرف واحد، فسوف نمنح الفرصة للرأى الآخر، متمثلًا في قيادات السلفيين حتى يدلوا بشهاداتهم..
الأصول
يتصور البعض أن السلفية شاعت فى المجتمع المصرى بعد تولى الرئيس محمد أنور السادات السلطة، وفتح المجال العام للتيارات الدينية لمواجهة الناصريين والشيوعيين الذين رفضوا منهج خليفة ناصر فى السلطة وانفتاحه على أمريكا، وتغيير السياسات الاقتصادية إلى رأسمالية الدولة بدلًا من الاشتراكية بتطبيقاتها السياسية والاقتصادية، لكن القضية أبعد منذ ذلك بكثير، تحتاج إلى العودة لمعانيها، وما المقصود بها، ومتى بدأت، وأين انتهت فى مصر؟
تعنى السلفية العودة إلى فعل سلف الأمة، والثلاثة قرون الأولى، يقول الدكتور كمال حبيب، الباحث فى شئون الجماعات الإسلامية، ويوضح أنها واحدة من التيارات الدينية العقائدية، لهذا كانت السلفية كتيار فكرى سابقة على إنشاء الجمعيات الإسلامية.
يوضح حبيب أن الدور الأكبر فى انتشار هذا التيار بمصر يعود إلى محمد رشيد رضا، وهو مفكر إسلامى من رواد الإصلاح الذين ظهروا فى النصف الأخير من القرن الثامن عشر، كما كان صحفيا وكاتبا وأديبا، بجانب أنه واحد من ألمع تلاميذ محمد عبده، وإلى جانب رشيد رضا، ساهم فى ترويج السلفية بمصر محب الدين الخطيب، وكان أيضا أديبا وصحفيا وداعية إسلاميا، سوري النشأة، وأحد مؤسسى جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة.
خلفية الخطيب وعمله ساهما فى تمكنه من تدشين مكتبة سلفية، أصدر من خلالها الكتب التى تنظر للفكرة، وتحقق فى كتب التراث الإسلامى، لكن لم تستمر القضية محصورة على بعض الأفراد، وشاعت أكثر بتأسيس جمعية أنصار السنة المحمدية عام 1926، ورغم رواج الفكر السلفى آنذاك بسبب شعبية الجمعية إلا أنها لم تبتعد بالسلفية أكثر من المجال الفكرى، ولم تنخرط فى السياسة مثل الإخوان التى تأسست فى توقيت مقارب، لكنها اقتحمت السياسة وحصلت على شعبية كبرى، بحسب الدكتور ياسر مرزوق، الأمين العام لجمعية أنصار السنة المحمدية.
السبعينيات
رغم هذه التأكيدات على خصوصية الفكر السلفى، إلا أن المسيرة استكملت إلى رحلة السبعينيات، وهنا تحول المشهد، بتشكيل تنظيمات سلفية أكثر حضورا فى المجال العام اعتمادا على الأنشطة الطلابية بالجامعات، التى شهدت عصرا ذهبيا فى هذه المرحلة بسبب تغير مزاج رأس الدولة –السادات- من القومية والاشتراكية إلى الانفتاح على الدين والإسلاميين، وحشدهم فى مواجهة اليسار والشيوعيين.
كانت كلية الطب بجامعة الإسكندرية من أهم مسارح تأسيس الدعوة السلفية -السلفية العلمية- عام 1977 وأصبحت أحد التنظيمات السلفية الرئيسية فى البلاد، وكان لافتا معارضة السلفيين السكندريين جماعة الإخوان دينيًا، واتبعت منذ بدايتها النهج الوهابى ومنهج الشيخ ابن تيمية.
السلفية العلمية تبنت طريقا مختلفا عن الجميع، إذ تبنت منذ نشأتها الدعوة للعمل على أسلمة المجتمع من القاع للقمة، واعتبروا الأسلمة شرطا للسعى فى إنشاء إنشاء دولة إسلامية تكون قادرة على الاستحواذ على السلطة واستكمال عملية البناء، وهو ما يخالف فكر الإخوان الداعى إلى الانخراط ومزاحمة الساسة، ولهذا بقى الصراع بين الإخوان على المنهج والطريق مع سلفية الإسكندرية مختبئا حتى ظهر بوضوح بعد ثورة 2011، ولا يزال حتى الآن.
لكن لم يؤمن كل السلف بهذه الفكرة العلمية، فالسلفية بها قدر كبير من العمومية، يقول كمال حبيب، ويكمل: ظهرت السلفية بطرق متعددة حتى حسب المناطق داخل البلاد، مردفا: ظهر فى الجانب الآخر للتصور العلمى السلفية الحركية، التى مثلها فوزى السعيد ومحمد عبد المقصود وغيرهم، وهؤلاء نادوا بالحاكمية فى كل مسائل الحياة، ورفضوا القوانين الوضعية.
بخلاف السلفية العلمية، دخل الحركيون معركة كبرى مع الدولة، اعتمدوا وسائل عنيفة بما فى ذلك القتال المسلح والإرهاب، وبدأ أنشطتهم منذ السبعينات، واستمر الصدام مع أجهزة الدولة ومحاولة تغيير النظام بالقوة المسلحة، ونفذوا عمليات إرهابية بحق الأقباط والسياح، لكن الدولة استطاعت التصدى لهم وأجبرتهم على الاستسلام.
المراجعات الفكرية
وكان من نتاج ذلك الشروع فى إنتاج المراجعات الفكرية، التى قامت بها عبر أعضاء مجلس الشورى المسجونين فى ليمان طرة، وبدأ السعى فى المشاورات لإلقاء السلاح ووقف العنف منذ عام 1997 حتى 2003.
فى 2011 أصبحت الأمور مختلفة تماما، يقول أحمد الشوربجى، الباحث فى شئون الجماعات الإسلامية: تعامل التيار السلفى بمنطق التحايل، خاصة أنه يملك قدرات كبيرة تنافس الإخوان وتتفوق عليها فى التخفى وتأمين أفكاره، ولا سيما الذى يمثل خطورة مثل التكفير وحمل السلاح فى مواجهة الدولة.
يوضح ذلك تخفى أعضاء التيارات السلفى حتى يوم 8 فبراير 2011، والامتناع تماما عن المشاركة فى الثورة، قبل ظهور تأكيدات على سقوط النظام، وهى اللحظة الفارقة التى قرر فيها السلف بمختلف تنوعاتهم السماح لأعضائهم بالتظاهر لإسقاط الحكم، وفى مرافقة تاريخية، أصبحت التيارات المنبوذة ثقافيا وسياسيا، بل جماهيريا، تسعى سريعا لإنشاء أحزاب سياسية تنافس على السلطة.
حصل حزب النور -الذراع السياسية للدعوة السلفية- على أول ترخيص بالعمل، بعده ظهر حزب الفضيلة، ثم الأصالة، وأخيرا البناء والتنمية -الذراع السياسية للجماعة الإسلامية- وشكلت هذه الأحزاب الثلاثة ائتلافا يهيمن عليه حزب النور، قدم 610 مرشحين، وكان الرقم مفاجأة حتى للإخوان أنفسهم، ونافسوا بشراسة وحصلوا على نحو 85 % من إجمالى المقاعد فى البلاد فى أول انتخابات برلمانية، ليفوزوا معا بنسبة 25 % من الأصوات، ويشكل السلف ثانى قوة سياسية فى البلاد بعد الإخوان.
لم يستطع السلفيون باختلاف مرجعياتهم داخل هذا التكتل إخفاء موقفهم الحقيقى كثيرا، يقول الشوربجى، ويضيف: دخلوا فى صدامات عدة مع القوى المدنية بسبب تفسيراتهم الدينية المتطرفة لمفهوم الوطن وتحية العلم والسلام الجمهورى وموقفهم من الفن ورأيهم فى استخدام العنف وحمل السلاح.
هذا التباين، أثر على التحالف بين الجماعات السلفية، وبدأت الانتخابات الرئاسية تظهر الصراعات بينهم، إذ دعم سلفيو الأصالة محمد مرسى، بينما دعم سلفيو النور عبد المنعم أبو الفتوح فى الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة عام 2012، وبعد فشل أبو الفتوح انتهى الأمر بجميع الجماعات السلفية إلى دعم محمد مرسى.
30 يونيو
ساهم السلفيون بقوة فى إرباك ما بعد ثورة يناير، تسببت تصرفاتهم فى شحن الشارع ضد التيار الدينى بأكمله، فخرج فى ثورة عارمة -30 يونيو 2013- وانتهى السلفيون إلى عزلة قاتلة بعد أن وضحت تصعدات وشروخ كبرى انتهت بانشقاق عدد كبير من قيادات النور، منهم أول رئيس للحزب عماد عبد الغفور بسبب رفضه وصاية الدعوة السلفية على الحزب السكندرى، فى تقليد لما يحدث داخل الإخوان من قيادات الجماعة.
مع عبد الغفور خرج عدد كبير من القيادات وأسسوا معا تجربة جديدة سرعان ما انتهت قبل أن تبدأ وهى حزب الوطن، بسبب عدم وجود دعم تنظيمى للحزب كما كان يحدث مع النور بجانب رفض الشارع لهم، فيما انتهى أنصار الإخوان من السلفيين إلى الهروب خارج البلاد، وفشل حزب البناء والتنمية ذراع الجماعة الإسلامية فى الاستمرار مع مصر الجديدة تحت قيادة هاربة فى تركيا (طارق الزمر) وبدا واضحا أن الحزب وجماعته تجاوزهما الزمن.
بينما انتهت حركة حازمون بسجن مؤسسها حازم صلاح أبو إسماعيل ومعه عدد من قيادات الحركة، بسبب مشاغبات الحركة على مدار عمر الثورة المصرية وترويجها لأفكار متطرفة وشحن السلف وتحريضهم على الاستعداد لثورة إسلامية على غرار إيران، مما أدى لاستبعاد أبو إسماعيل من الانتخابات الرئاسية عام 2012 والقبض عليه بعد إسقاط الإخوان عن الحكم.
ويرى الشوربجى أن الظرف والقدرة لم يسمحا للسلفيين بتنفيذ مشروعهم فى مصر، أو الخروج على النظام الجديد، فالمصلحة من وجهة نظرهم فى المسالمة وعدم التهور، واختيار العنف يكون حسب القدرة والظروف، وهو أمر غير متاح فى مصر الآن، على حد قوله.
نقلًا عن العدد الورقي...