حكم صرف الزكاة والأوقاف والصدقات لمؤسسة بحث علمية.. الإفتاء ترد
ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه: "ما مدى شرعية تلقي مؤسسة تعليمية بحثية للتبرعات والصدقات الجارية والأوقاف والزكاة ونحوها؛ حيث إن هذه المؤسسة هي مؤسسة غير ربحية، وهي عبارة عن مدينة علمية تعمل تحت إشراف مجلس أمناء عالمي يضم ستةً من الحاصلين على جائزة نوبل في المجالات العلمية المختلفة، وهو مشروع لا يهدف إلى الربح، بل يهدف إلى الوصول بالتعليم في مصر إلى المستويات العالمية، ورفع شأن البحث العلمي والتكنولوجيا؛ لإحداث طفرة ونقلة نوعية لزيادة الإنتاج القومي لمصلحة البلاد والعباد"، وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
عظم الإسلام شأن العلم، ورفع قدر أهله، حتى كان أول أمر إلهي نزل به الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الأمر بالقراءة في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1-5]، فجعل القراءة الأولى في الوجود، والثانية في الوحي، وكلاهما صدر عن الله، الأول من عالم الخلق، والثاني من عالم الأمر: ﴿أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54].
وعلى هذا: فلا نهاية لإدراك الكون، حيث إنه يمثل الحقيقة؛ لأنه من عند الله: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47]، ولا نهاية لإدراك الوحي؛ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصف القرآن الكريم: «ولا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلا يَخْلَق مِن كَثْرَةِ الرَّدِّ» رواه الترمذي والدارمي وصححه الحاكم.
أحكام الزكاة
وأيضًا لا تعارض بينهما؛ حيث إن كلا من عند الله؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، وهذا التأسيس يتأكد في قوله تعالى على صفة الإطلاق: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9].
والعلم في الاصطلاح القرآني والشرعي يعني إدراك الأشياء على حقائقها التي هي عليها، وهو بذلك لا يقتصر على العلوم الدينية، بل يشمل العلوم الكونية والدنيوية أيضًا، وعندما وصف الله تعالى في كتابه العلماء بأنهم هم أهل خشيته مِن خَلْقِه جاء ذلك في سياق الكلام على دورة الحياة في الطبيعة، وتنوع ألوان الثمار (علم النبات)، واختلاف أشكال الجبال (علم الجيولوجيا)، ومظاهر اختلاف الكائنات الحية (التنوع البيولوجي)، وكلها من العلوم الدنيوية؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: 27-28].
فكل ما وصَّل إلى الله تعالى فهو علم، وكل ما أبعد عنه سبحانه فهو جهل؛ ولذلك قال الإمام مالك: [إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب] اهـ. "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب البغدادي (2/ 174، ط. المعارف).
وقد شرع الله تعالى الزكاة مظهرًا من مظاهر التكافل بين الناس ورافدًا من روافد سدِّحاجة المجتمع؛ فقال سبحانه: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ للفُقَراءِ والمَسَاكِينِ والعَامِلِينَ عليها والمُؤَلَّفةِ قُلُوبُهم وفي الرِّقابِ والغارِمِينَ وفي سَبِيلِ اللهِ وابنِ السَّبِيلِ فَرِيضةً مِنَ اللهِ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60]، أي إنها للإنسان قبل البُنيان، وللساجد قبل المساجد، وجعل منها مصرف في سبيل الله.
والمحققون من العلماء على أن هذا المصرف كما يدخل فيه الجهاد فإنه يشمل أيضًا العلم والدعوة إلى الله تعالى؛ لأن الجهاد يكون باللسان كما يكون بالسِّنان؛ قال تعالى في الجهاد بالقرآن الكريم: ﴿فلا تُطِعِ الكافِرِينَ وجاهِدهُم بِهِ جِهادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52]؛ فيكون العلم بذلك مِن مصارف الزكاة ضمن مصرف (وفي سبيل الله).
مصارف الزكاة
وقد أشار النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى ذلك في قوله: «مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ العِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ»، أخرجه الترمذي وحسَّنه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من جَاءَ مَسْجِدي هَذَا لم يَأْته إِلا لخير يتعلمه أَو يُعلمهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمُجَاهدين فِي سَبِيل الله» رواه ابن ماجه والبيهقي، وليس في إسناده مَن تُرِكَ ولا أُجمِعَ على ضعفه كما قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 60، ط. دار الكتب العلمية)، ويشهد له ما رواه البزار في "مسنده" وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" -وفيه ضعف- عن أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إذَا جَاء المَوْتُ لِطَالِبِ العِلْمِ، وهو على هذه الحال، ماتَ وَهوَ شَهِيدٌ»، بل ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «يُوزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ وَدَمُ الشُّهَدَاءِ، فَيَرْجُحُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ عَلَى دَمِ الشُّهَدَاءِ.» أورده أبو نعيم الأصفهاني في "أخبار أصفهان" وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" عن عمران بن الحصين، قال الحافظ المناوي: [وأسانيده ضعيفة، لكن يقوي بعضها بعضًا] اهـ. من "كشف الخفاء" للعجلوني (2/ 400، ط. مكتبة القدسي).
كما أن البحث العلمي والتقدم التكنولوجي في هذا العصر داخلٌ دخولا أوليًّا في مصرف (وفي سبيل الله) بمعنى الجهاد؛ من جهة أنه هو السبيل لإعداد قوى الرَّدع التي تحافظ على السلام والأمن الدوليين، وتمنع الطغيان والعدوان، والتي أمر الله تعالى بها في قوله سبحانه:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60]، فصار واجب الوقت للأمة الإسلامية في هذا العصر هو الفهم العلمي لمعطيات الحضارة، وهذا من أهم مظاهر القوة التي أمرنا الله تعالى بإعدادها.
كما أن جماعةً مِن العلماء جعلوا مِن مصرف في سبيل الله مجالا للتوسع في صرف الزكاة عند الحاجة إلى ذلك في كل القُرَب وسبل الخير ومصالح الناس العامة، حتى مع انعدام شرط التمليك في ذلك؛ أخذًا بظاهر اللفظ في قوله تعالى: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ﴾، وهو ما عليه فتوى دار الإفتاء المصرية منذ عهد فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم رحمه الله تعالى، ومِن نصوص الفقهاء في ذلك:
قول الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 45، ط. دار الكتب العلمية): [وأما قوله تعالى: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ﴾ فعبارة عن جميع القُرَب؛ فيدخل فيه كل مَن سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجًا] اهـ.
وقال الإمام الفخر الرازي الشافعي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (16/ 87، ط. دار إحياء التراث العربي): [واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ﴾ لا يوجب القصر على كل الغزاة؛ فلهذا المعنى نقل القَفَّال في "تفسيره" عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد؛ لأن قوله (وفي سبيل الله) عامٌّ في الكل] اهـ.
وهذا هو ما ارتضاه صاحب "شرح كتاب الروض النضير" من الزيدية؛ إذ قال (2/ 428): [وذهب من أجاز ذلك أي دفع الزكاة في تكفين الموتى وبناء المسجد إلى الاستدلال بدخولهما في صنف سبيل الله؛ إذ هو طريق الخير على العموم، وإن كثر استعماله في فردٍ من مدلولاته، وهو الجهاد لكثرة عروضه في أول الإسلام كما في نظائره، لكن لا إلى حد الحقيقة العرفية، فهو باقٍ على الوضع الأول؛ فيدخل فيه جميع أنواع القُرَب على ما يقتضيه النظر في المصالح العامة والخاصة إلا ما خصَّه الدليل، وهو ظاهر عبارة "البحر" في قوله: قلنا ظاهرُ سبيل الله العموم إلا ما خصه الدليل] اهـ.
وقال فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم -شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية الأسبق- في فتواه بهذا الصدد: [الذي نختاره: أنه يجوز صرف الزكاة لبناء المسجد ونحوه من وجوه البر التي ليس فيها تمليك؛ أخذًا برأي بعض فقهاء المسلمين الذي أجاز ذلك؛ استدلالًا بعموم قوله تعالى:
﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ﴾ من آية ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ للفُقَراءِ والمَسَاكِينِ﴾ الآية، [التوبة: 60]، وإن كان مذهب الأئمة الأربعة على غير ذلك.. والخلاصة أن الذي يظهر لنا هو ما ذهب إليه بعض فقهاء المسلمين من جواز صرف الزكاة في بناء المسجد ونحوه، فإذا صرف المزكي الزكاة الواجبة عليه في بناء المسجد سقط عنه الفرض وأثيب على ذلك. والله أعلم] اهـ.
ولا شك أن حاجة الأفراد والمجتمعات إلى العلم أعظم من الحاجة إلى المال؛ كما قال سيدنا علي كرم الله وجهه: "الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ تَحْرُسُهُ، وَالْعِلْمَ يَحْرُسُكَ، وَالْمَالَ تُفْنِيهِ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمَ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ"؛ فالعلم هو السبيل الصحيح لرقي الأمم واكتفاء المجتمعات وقدرتها على سد حاجاتها، والبحث العلمي هو المظهر الحقيقي لتطور العلم وتقدمه وازدهاره، وهو نقطة البداية الصحيحة للأمة الإسلامية حتى تضع قدمها مرة أخرى في خريطة العالم، وتشارك بحضارتها في بناء الحضارة الإنسانية، والسبيل إلى كل ذلك هو نهضة البحث العلمي عند المسلمين؛ ليكون امتدادًا حقيقيًّا لعلوم المسلمين الأوائل، ومظهرًا للصلة بين أصالة السلف ومعاصرة الخلف.
فصرف الزكاة لمثل هذه المدينة العلمية المذكورة ومشروعها القومي غير الربحي والذي يأخذ بيد المجتمع إلى التقدم العلمي والإنتاج القومي هو من الأمور الجائزة شرعًا، بل هي مِن أولى المصارف بالدعم من أموال الزكاة.
كما يجوز الإنفاق على هذا المشروع من التبرعات والصدقات أيضًا: فإن الصدقة أمرها أوسع من الزكاة؛ حيث تجوز للفقير وغيره والمسلم وغيره، وقد شرع الإسلام الإنفاق في سبيل الله، والعلم من سبيل الله تعالى كما سبق، فيكون الإنفاق في هذا المجال وجهًا من وجوه الإنفاق في سبيل الله تعالى، وقد ورد: «مَا تَصَدَّقَ النَّاسُ بِصَدَقَةٍ مِثْل عِلْمٍ يُنْشَرُ» أخرجه الطبراني وغيره من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه مرفوعًا.
ومثل هذا المشروع مصرف شرعي للصدقات الجارية والأوقاف أيضًا؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلاث صَدَقَة جَارِيَة، أَو علم ينْتَفع بِهِ، أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ» أخرجه مسلم وأصحاب "السنن" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والصدقة الجارية: كل صدقةٍ يجري نفعُها وأجرُها ويدوم، كما عرَّفها بذلك القاضي عياض المالكي في كتابه "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" (1/ 145، ط. المكتبة العتيقة ودار التراث).
وقد حملها جماعة من العلماء على الوقف؛ لأنه أوضح ما يتحقق فيها.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز شرعًا إخراج الزكاة والصدقات والتبرعات والأوقاف ونحوها لهذه المؤسسة والمدينة العلمية التي تُعنى بالعلوم والتكنولوجيا لنهضة مصر، والإنفاق في ذلك يُعَدُّ في سبيل الله شرعًا.
وما أحوج بلادنا خاصة في هذه المرحلة إلى هذه المؤسسات العلمية والتكنولوجية؛ لنرتقي بها إلى مصاف الدول المتقدمة، فهي القلب النابض للتقدم العلمي الذي تحيا به الشعوب والدول والأمم والحضارات، وهذا كله يحتاج إلى الجهود المتكاتفة، ويحتاج إلى عزمات الرجال وهمم المصلحين، ويحتاج إلى أصحاب المواقف الفارقة التي تصنع التاريخ وتُغيِّر الأحوال.
عظم الإسلام شأن العلم، ورفع قدر أهله، حتى كان أول أمر إلهي نزل به الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الأمر بالقراءة في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1-5]، فجعل القراءة الأولى في الوجود، والثانية في الوحي، وكلاهما صدر عن الله، الأول من عالم الخلق، والثاني من عالم الأمر: ﴿أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54].
وعلى هذا: فلا نهاية لإدراك الكون، حيث إنه يمثل الحقيقة؛ لأنه من عند الله: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47]، ولا نهاية لإدراك الوحي؛ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصف القرآن الكريم: «ولا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلا يَخْلَق مِن كَثْرَةِ الرَّدِّ» رواه الترمذي والدارمي وصححه الحاكم.
أحكام الزكاة
وأيضًا لا تعارض بينهما؛ حيث إن كلا من عند الله؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، وهذا التأسيس يتأكد في قوله تعالى على صفة الإطلاق: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9].
والعلم في الاصطلاح القرآني والشرعي يعني إدراك الأشياء على حقائقها التي هي عليها، وهو بذلك لا يقتصر على العلوم الدينية، بل يشمل العلوم الكونية والدنيوية أيضًا، وعندما وصف الله تعالى في كتابه العلماء بأنهم هم أهل خشيته مِن خَلْقِه جاء ذلك في سياق الكلام على دورة الحياة في الطبيعة، وتنوع ألوان الثمار (علم النبات)، واختلاف أشكال الجبال (علم الجيولوجيا)، ومظاهر اختلاف الكائنات الحية (التنوع البيولوجي)، وكلها من العلوم الدنيوية؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: 27-28].
فكل ما وصَّل إلى الله تعالى فهو علم، وكل ما أبعد عنه سبحانه فهو جهل؛ ولذلك قال الإمام مالك: [إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب] اهـ. "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب البغدادي (2/ 174، ط. المعارف).
وقد شرع الله تعالى الزكاة مظهرًا من مظاهر التكافل بين الناس ورافدًا من روافد سدِّحاجة المجتمع؛ فقال سبحانه: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ للفُقَراءِ والمَسَاكِينِ والعَامِلِينَ عليها والمُؤَلَّفةِ قُلُوبُهم وفي الرِّقابِ والغارِمِينَ وفي سَبِيلِ اللهِ وابنِ السَّبِيلِ فَرِيضةً مِنَ اللهِ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60]، أي إنها للإنسان قبل البُنيان، وللساجد قبل المساجد، وجعل منها مصرف في سبيل الله.
والمحققون من العلماء على أن هذا المصرف كما يدخل فيه الجهاد فإنه يشمل أيضًا العلم والدعوة إلى الله تعالى؛ لأن الجهاد يكون باللسان كما يكون بالسِّنان؛ قال تعالى في الجهاد بالقرآن الكريم: ﴿فلا تُطِعِ الكافِرِينَ وجاهِدهُم بِهِ جِهادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52]؛ فيكون العلم بذلك مِن مصارف الزكاة ضمن مصرف (وفي سبيل الله).
مصارف الزكاة
وقد أشار النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى ذلك في قوله: «مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ العِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ»، أخرجه الترمذي وحسَّنه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من جَاءَ مَسْجِدي هَذَا لم يَأْته إِلا لخير يتعلمه أَو يُعلمهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمُجَاهدين فِي سَبِيل الله» رواه ابن ماجه والبيهقي، وليس في إسناده مَن تُرِكَ ولا أُجمِعَ على ضعفه كما قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 60، ط. دار الكتب العلمية)، ويشهد له ما رواه البزار في "مسنده" وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" -وفيه ضعف- عن أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إذَا جَاء المَوْتُ لِطَالِبِ العِلْمِ، وهو على هذه الحال، ماتَ وَهوَ شَهِيدٌ»، بل ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «يُوزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ وَدَمُ الشُّهَدَاءِ، فَيَرْجُحُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ عَلَى دَمِ الشُّهَدَاءِ.» أورده أبو نعيم الأصفهاني في "أخبار أصفهان" وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" عن عمران بن الحصين، قال الحافظ المناوي: [وأسانيده ضعيفة، لكن يقوي بعضها بعضًا] اهـ. من "كشف الخفاء" للعجلوني (2/ 400، ط. مكتبة القدسي).
كما أن البحث العلمي والتقدم التكنولوجي في هذا العصر داخلٌ دخولا أوليًّا في مصرف (وفي سبيل الله) بمعنى الجهاد؛ من جهة أنه هو السبيل لإعداد قوى الرَّدع التي تحافظ على السلام والأمن الدوليين، وتمنع الطغيان والعدوان، والتي أمر الله تعالى بها في قوله سبحانه:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60]، فصار واجب الوقت للأمة الإسلامية في هذا العصر هو الفهم العلمي لمعطيات الحضارة، وهذا من أهم مظاهر القوة التي أمرنا الله تعالى بإعدادها.
كما أن جماعةً مِن العلماء جعلوا مِن مصرف في سبيل الله مجالا للتوسع في صرف الزكاة عند الحاجة إلى ذلك في كل القُرَب وسبل الخير ومصالح الناس العامة، حتى مع انعدام شرط التمليك في ذلك؛ أخذًا بظاهر اللفظ في قوله تعالى: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ﴾، وهو ما عليه فتوى دار الإفتاء المصرية منذ عهد فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم رحمه الله تعالى، ومِن نصوص الفقهاء في ذلك:
قول الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 45، ط. دار الكتب العلمية): [وأما قوله تعالى: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ﴾ فعبارة عن جميع القُرَب؛ فيدخل فيه كل مَن سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجًا] اهـ.
وقال الإمام الفخر الرازي الشافعي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (16/ 87، ط. دار إحياء التراث العربي): [واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ﴾ لا يوجب القصر على كل الغزاة؛ فلهذا المعنى نقل القَفَّال في "تفسيره" عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد؛ لأن قوله (وفي سبيل الله) عامٌّ في الكل] اهـ.
وهذا هو ما ارتضاه صاحب "شرح كتاب الروض النضير" من الزيدية؛ إذ قال (2/ 428): [وذهب من أجاز ذلك أي دفع الزكاة في تكفين الموتى وبناء المسجد إلى الاستدلال بدخولهما في صنف سبيل الله؛ إذ هو طريق الخير على العموم، وإن كثر استعماله في فردٍ من مدلولاته، وهو الجهاد لكثرة عروضه في أول الإسلام كما في نظائره، لكن لا إلى حد الحقيقة العرفية، فهو باقٍ على الوضع الأول؛ فيدخل فيه جميع أنواع القُرَب على ما يقتضيه النظر في المصالح العامة والخاصة إلا ما خصَّه الدليل، وهو ظاهر عبارة "البحر" في قوله: قلنا ظاهرُ سبيل الله العموم إلا ما خصه الدليل] اهـ.
وقال فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم -شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية الأسبق- في فتواه بهذا الصدد: [الذي نختاره: أنه يجوز صرف الزكاة لبناء المسجد ونحوه من وجوه البر التي ليس فيها تمليك؛ أخذًا برأي بعض فقهاء المسلمين الذي أجاز ذلك؛ استدلالًا بعموم قوله تعالى:
﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ﴾ من آية ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ للفُقَراءِ والمَسَاكِينِ﴾ الآية، [التوبة: 60]، وإن كان مذهب الأئمة الأربعة على غير ذلك.. والخلاصة أن الذي يظهر لنا هو ما ذهب إليه بعض فقهاء المسلمين من جواز صرف الزكاة في بناء المسجد ونحوه، فإذا صرف المزكي الزكاة الواجبة عليه في بناء المسجد سقط عنه الفرض وأثيب على ذلك. والله أعلم] اهـ.
ولا شك أن حاجة الأفراد والمجتمعات إلى العلم أعظم من الحاجة إلى المال؛ كما قال سيدنا علي كرم الله وجهه: "الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ تَحْرُسُهُ، وَالْعِلْمَ يَحْرُسُكَ، وَالْمَالَ تُفْنِيهِ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمَ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ"؛ فالعلم هو السبيل الصحيح لرقي الأمم واكتفاء المجتمعات وقدرتها على سد حاجاتها، والبحث العلمي هو المظهر الحقيقي لتطور العلم وتقدمه وازدهاره، وهو نقطة البداية الصحيحة للأمة الإسلامية حتى تضع قدمها مرة أخرى في خريطة العالم، وتشارك بحضارتها في بناء الحضارة الإنسانية، والسبيل إلى كل ذلك هو نهضة البحث العلمي عند المسلمين؛ ليكون امتدادًا حقيقيًّا لعلوم المسلمين الأوائل، ومظهرًا للصلة بين أصالة السلف ومعاصرة الخلف.
فصرف الزكاة لمثل هذه المدينة العلمية المذكورة ومشروعها القومي غير الربحي والذي يأخذ بيد المجتمع إلى التقدم العلمي والإنتاج القومي هو من الأمور الجائزة شرعًا، بل هي مِن أولى المصارف بالدعم من أموال الزكاة.
كما يجوز الإنفاق على هذا المشروع من التبرعات والصدقات أيضًا: فإن الصدقة أمرها أوسع من الزكاة؛ حيث تجوز للفقير وغيره والمسلم وغيره، وقد شرع الإسلام الإنفاق في سبيل الله، والعلم من سبيل الله تعالى كما سبق، فيكون الإنفاق في هذا المجال وجهًا من وجوه الإنفاق في سبيل الله تعالى، وقد ورد: «مَا تَصَدَّقَ النَّاسُ بِصَدَقَةٍ مِثْل عِلْمٍ يُنْشَرُ» أخرجه الطبراني وغيره من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه مرفوعًا.
ومثل هذا المشروع مصرف شرعي للصدقات الجارية والأوقاف أيضًا؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلاث صَدَقَة جَارِيَة، أَو علم ينْتَفع بِهِ، أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ» أخرجه مسلم وأصحاب "السنن" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والصدقة الجارية: كل صدقةٍ يجري نفعُها وأجرُها ويدوم، كما عرَّفها بذلك القاضي عياض المالكي في كتابه "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" (1/ 145، ط. المكتبة العتيقة ودار التراث).
وقد حملها جماعة من العلماء على الوقف؛ لأنه أوضح ما يتحقق فيها.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز شرعًا إخراج الزكاة والصدقات والتبرعات والأوقاف ونحوها لهذه المؤسسة والمدينة العلمية التي تُعنى بالعلوم والتكنولوجيا لنهضة مصر، والإنفاق في ذلك يُعَدُّ في سبيل الله شرعًا.
وما أحوج بلادنا خاصة في هذه المرحلة إلى هذه المؤسسات العلمية والتكنولوجية؛ لنرتقي بها إلى مصاف الدول المتقدمة، فهي القلب النابض للتقدم العلمي الذي تحيا به الشعوب والدول والأمم والحضارات، وهذا كله يحتاج إلى الجهود المتكاتفة، ويحتاج إلى عزمات الرجال وهمم المصلحين، ويحتاج إلى أصحاب المواقف الفارقة التي تصنع التاريخ وتُغيِّر الأحوال.