رئيس التحرير
عصام كامل

فلسفة الخشت ورؤيته التنويرية لجامعة القاهرة

كتب كثيرٌ من الزملاء الأفاضل عن إنجازات جامعة القاهرة خلال الفترة الماضية، وما حققته من تقدم خلال السنوات الأربع للفترة الأولى لولاية الدكتور محمد الخشت جعلت الجامعة تتبوأ مكانة متميزة في التصنيف الدولي، سواء على المستوى المؤسسي أو البرامج النوعية التخصصية. وهو ما دفع مجلس جامعة القاهرة لمطالبته بالإجماع للتقدم لترشيح نفسه لفترة ولاية ثانية، عززها السادة نواب رئيس الجامعة والعمداء بمبررات موضوعية وواقعية أشرت إليها في مقال سابق، وغلفوها بمشاعر إنسانية راقية. وسوف أتناول بعضها في مقالات لاحقة إن شاء الله.


وقد وجدت أنه من الضروري عرض الأسس التي تم البناء عليها لكل ما تحقق، وهما جانبان وثيقا الصلة ببعضهما البعض: فلسفة الخشت ورؤيته التنويرية، حتى يدرك القارئ الكريم أن ما تحقق من تلك الإنجازات لم يكن وليد الصدفة، ولكن كان نتيجة لفكر منظم وفلسفة واقعية ورؤية تنويرية تمت بلورتها في أفعال واقعية على أرض الواقع بعمل مخطط ومدروس.

جامعة ذكية
فتتمثل فلسفة الخشت الإدارية، والتي صاغ في ضوئها رؤية إداراته لجامعة القاهرة (في ضوء الخطة الإستراتيجية ووثيقة التنوير) في أن النّظرة العقلانية المستقبليّة هي الحاكمة لمسيرة جامعة القاهرة، ويرى أن التحدي القومي أصبح هو بناء إنسان مصري جديد لتحقيق التنوير والتنمية وتأسيس دولة حديثة، بواسطة استحداث مناهج جديدة تعمل على تغيير طرائق التفكير عند الطلاب والباحثين، وتأخذ بهم نحو التفكير العقلاني النقدي والإبداعي، وبناء شخصية مسئولة واعية من أجل نهضة حقيقية.

والغاية الملحة في هذه المرحلة من تطور جامعتنا هي تحويل جامعة القاهرة إلى جامعة ذكية من جامعات الجيل الثالث، مع استعادة فكر الآباء المؤسسين في التنوير والعقلانية والمدنية والتعددية والمواطنة، مع فتح مسارات جديدة للتقدم والانتقال إلى آفاق جديدة في حركة التاريخ العالمي، فالجامعة إذا كانت عند إنشائها في "عصر جامعة الجيل الأول"، تقوم على التعليم ونقل المعلومات والمعارف، وجامعة الجيل الثاني تقوم على الجمع بين التعليم والبحث العلمي، فإن هدفها الآن هو الدخول في عصر "جامعة الجيل الثالث"..

التي تجمع بين التعليم والبحث العلمي واستغلال وتوظيف المعرفة في التنمية الشاملة للدولة الوطنية بوصفها تنمية ثقافية وعلمية واقتصادية واجتماعية، وتنمية للعقول والموارد والدولة والمجتمع والفرد، وتسعى إلى إنتاج قيمة مُضافة للاقتصاد، والتوسع في التخصصات البينية، وتنمية فكر ريادة الأعمال وإدارة المشروعات والبرامج التدريبية للإعداد لسوق العمل، والتدريب على المشروعات الصغيرة، وعدم الاكتفاء بإنتاج موظفين وعلماء بل العمل على تخريج رواد أعمال، والتوجه نحو العالمية والتوأمة مع جامعات الجيل الثالث..

والتحول نحو وضع المراكز البحثية والخدمية أعلى قائمة الأولويات، والتحول نحو الإدارة اللامركزية وحوكمة الإدارة الأكاديمية والأخلاق العالمية وأخلاقيات الأعمال، وغيرها من متطلبات عصر الحداثة والتنوير والتقدمٍ.

وتمت في هذا السياق صياغة مبادئ وثيقة التنوير الأربعة عشر التي حكمت هوية الجامعة، وحددت مسارات عملها خلال السنوات الماضية، وهي المبادئ التي صاغها مجلس جامعة القاهرة للثقافة والتنوير برئاسة الخشت بعد تشكيله مباشرة من رموز الفكر والثقافة والإبداع في مصر:

وثيقة الثقافة والتنوير
1- جامعة القاهرة مدنية، عقلانية، والحرية مكون أصيل من مكوناتها، وتأكيد حق الاختلاف، وتنوع الفكر الخلاق في إطار الدولة الوطنية. ومن ثم عدم التعصب لتيار ضد تيار، فالجامعة بيت للمصريين جميعا.

2- تأكيد هوية مصر المستنيرة القائمة على قيم التعايش وتقبل الآخر؛ خصوصا أن الجامعة شريك في صياغة هذه الهوية.

3- تحديد مفهوم التنوير بوصفه ممارسة عقلانية تقترن بالجرأة على استخدام التفكير العقلاني النقدي بالمعنى الحداثي؛ فالتنوير هو التفكير العقلي بشجاعة.

4- تكوين خطاب ثقافي وديني جديد يعتمد على التأويلات العقلانية المتعددة والقراءة العلمية للنصوص الدينية بوصفها البديل عن التفسير الواحد المغلق ووهم امتلاك الحقيقة المطلقة.

5-  تأسيس تيار عقلاني عربي مقاوم للإرهاب والتطرف والرجعية والأصوليات الجامدة التي تدعو إلى إبطال إعمال العقل في فهم الواقع أو في فهم النصوص الدينية.

6- الانفتاح على تجارب التنوير الأخرى والتيارات العالمية وتاريخ الأفكار والفنون وتنوع مصادر المعلومات والتمكين التكنولوجي لكافة عناصر الجامعة من منظور المصلحة القومية.

7- بناء نسق فكري مفتوح ومتحرر ومتطور في مواجهة النسق الفكري المغلق والمحافظ والجامد، يقوم على التفكير الإبداعي الخلاق والوعي النقدي بعيدا عن القوالب الجاهزة التي تعيق الإبداع والتطور، وضد العقل السلبي القائم على الحفظ والتلقين والتسليم بالحقيقة الواحدة التي لا تقبل التغيير.

8- تكوين الشخصية القادرة على العمل الفكري والسياسي والإداري، وهذا هو مهمة العملية التعليمية والأنشطة الإبداعية؛ لأن التعليم هو العامل الأكثر تأثيراً في معادلة بناء الشخصية الإنسانية متوازنة الأركان: روحاً وجسداً ووجداناً ونفساً تحت قيادة عقل واع يقود ويوجه.

9- بناء بيئة تعليمية تحفز روح الاكتشاف والإبداع والحرية الأكاديمية، وتعمل على القضاء على التعليم المولد للإرهاب، ومناهج الحفظ والتلقين التي تصنع عقولا جامدة، وتطوير المحتوي التعليمي الذي يتواكب مع دفع الباحثين والطلاب إلى مستويات جديدة من التعلم والخروج بهم من حدود المقرر إلى سعة البحث العلمي الخلاق.

10- اتباع طرائق التعليم القائمة على المناهج العقلية والأساليب التجريبية والفكر التحليلي والحل العلمي والعملي للمشكلات، والتأكيد على "فن الحوار المولد للحقيقة"؛ مما ينشأ عنه تكوين عقول منهجية مفتوحة، والنمو في تكوين المواقف والآراء الجديدة، وتخريج شخصية حرة واعية قادرة على أن تفكر وتوازن وتنقد وتختار وتبتكر.

11- إعادة تطوير أساليب التقويم والامتحانات لتختبر المهارات، وطرائق التفكير، ومخرجات التعليم على أساس "النتائج"، بدلا من التركيز فقط على عملية التعليم والحفظ التي تعد الأساس الخصب لتكوين عقول مغلقة لا تفكر، ويستطيع أن يوظفها بسهولة صانعو الإرهاب الذين يلعبون لعبة "السمع والطاعة" من أجل حياة بعينها يفرضونها على الجميع.

12- العمل على تغيير نمط الحياة نحو التحضر بمعناه الشامل، وترسيخ أخلاق التقدم، وتغيير منظومة القيم الحاكمة للسلوك، وتغيير الشخصية السلبية إلى الشخصية الخلاقة فرديا واجتماعيا وعلميا.
 
13- عدم التمييز على أساس ديني أو عرقي أو اجتماعي أو سياسي أو غيره من أسس التمييز التي تتعارض مع فكرة المواطنة، فالجميع محكوم بمبدأ المواطنة، والجميع سواء أمام القانون، والكل متساوون بوصفهم مواطنين، والديموقراطية هي أكبر ضامن للسلام الاجتماعي وهي الأسلوب الأمثل في إدارة الخلاف بين الجميع في إطار الدولة الوطنية. ولا يمكن أن تحقق الديموقراطية أغراضها دون نبذ العنف والإرهاب والتطرف وتفكيك الأصوليات المغلقة.

14- اكتشاف المواهب وفتح المسارات الإبداعية أمامها سواء العلمية أو الفنية أو الثقافية أو الرياضية أو غيرها، وتوسيع رؤية ورقعة النشاط الطلابي حتى يصل الطلاب إلى قيم المعايشة والتنوير، ولا يتحقق ذلك بندوات أو حفلات معدودة، وإنما بخلق حالة من الزخم الثقافي والتنويري للوعي الحقيقي لا الوعي الزائف، والوعي بمفردات الدولة الوطنية ومبادئها المرتبطة بالحرية والديموقراطية، وذلك على نحو يجعل مبادئ الدولة الوطنية مكوناً من مكونات المناهج والدورات التدريبية.

ترجمة الوثيقة

وقد تمت ترجمة وثيقة الثقافة والتنوير التي تمثل فكر الدكتور الخشت ورؤيته التنويرية إلى مختلف لغات العالم، ليس لتوظيفها في إدارة جامعة القاهرة فقط، ولكن لمحاولة نشرها والعمل بها على أوسع نطاق ممكن، فقد تمت ترجمتها إلى سبع عشرة لغة، منها سبع لغات أوروبية هي الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية واليونانية والروسية، وكذلك اللغتين اليابانية والصينية، وأربع لغات شرقية هي الأوردية والعبرية والتركية والفارسية، وأربع لغات إفريقية هي الهوسا والسواحيلي والصومالي والأمهري.

رؤية الخشت التنويرية
وتمت إتاحة الترجمات على موقع الجامعة الرسمي وطباعتها ورقيًا كذلك. وقد أكد الدكتور الخشت أن ترجمة وثيقة الثقافة والتنوير إلى اللغات المختلفة يساهم في نقل مبادئ الجامعة وهويتها بين مختلف الدول، وإتاحتها للمفكرين والأساتذة والطلاب من مختلف الجنسيات، ويدعم مكانتها عالميا. وبالتالي تعد هذه الترجمات أداة للتواصل بين جامعة القاهرة وغيرها من الجامعات والمؤسسات الفكرية على مستوى العالم، ولتوصيل رسالتها ورؤيتها التنويرية التي تدعو للإخاء والتسامح والتعايش ليس بين أبناء الشعب الواحد، ولكن بين جميع أبناء الشعوب دون أي شكل من أشكال التمييز.

والمتابع للجهود التي بذلت، والإنجازات التي تحققت خلال الولاية الأولى للدكتور الخشت في السنوات الأربع الماضية يجد لها أساسًا راسخًا في تلك المبادئ السابقة المقترنة بفلسفة الخشت ورؤيته التنويرية، ويستطيع إدراك مكانها ضمن هذه المبادئ التنويرية التي حكمت العمل. ومن ثم، فإن هذا الربط العقلاني والإبداعي بين الفكر والسلوك هو الذي حقق نهضة جامعة القاهرة ورسخ تميزها الواقعي.

وإن شاء الله يواصل الخشت العمل خلال الفترة الثانية لتحقيق الكثير الذي يأمله ومخطط له بجهود أسرة جامعتنا العريقة التي أصرت على تقدمه لفترة ولاية ثانية هو الأجدر بها.
الجريدة الرسمية