حكم تحويل الرصيد من خلال خدمة "سلفني شكرًا".. الإفتاء ترد
ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه: "ما حكم تحويل رصيد من الشركة مقابل خصم مبلغ لحين القيام بشحن الرصيد ببطاقة الشحن؟"، بمعنى زيادة المبلغ المدفوع عن المبلغ المحول، وهي الخدمة المعروفة باسم: "سلفني شكرًا"، وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
الرصيد: عبارة عن حق مالي تمنحه شركة الاتصالات للعميل؛ لينتفع بإجراء المكالمات وقت ما يشاء دون أن يتجاوز مجموع ما يجريه مقدارًا زمنيًّا محددًا تبعًا للمبلغ النقدي الذي يدفعه العميل مقدمًا (وهو ما يعرف بنظام الكارت)، فإذا استهلك العميل المقدار الزمني المحدد توقفت الخدمة لحين حصوله على رصيد آخر.
والرصيد: أمر اعتباري يحدد مدى استحقاق العميل للانتفاع بخدمة إجراء المكالمات نظير ما دفعه من المال.. فهو من الحقوق المتعلقة بالمال، والحق في اصطلاح الفقهاء: اختصاص يُقِرّ به الشرع سلطة على شيء أو اقتضاء أداء من آخر تحقيقًا لمصلحة معينة. راجع: "الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده" للدكتور محمد فتحي الدريني (ص: 260، ط. دار البشير).
العلاقة بين الحق والمنفعة
والعلاقة الرابطة بين الحق والمنفعة: هي أن المنفعة مصلحة مقصودة، أما الحق فهو وسيلة معنوية لتحصيل المصلحة، بينما الأجهزة الملموسة: هي الوسيلة العينية والتي جرى العرف قديمًا وحديثًا بإقراضها وإعارتها وإجارتها ورهنها وغير ذلك من المعاملات.
وقد أتاحت شركات الاتصالات للعميل إذا نفد رصيده أن يقوم بتقديم طلب من خلال هاتفه ينبني عليه إجراء عملية تعرف بخدمة "سلفني شكرًا"، يتم فيها تحويل رصيد إضافي من جهة الشركة تزيد قيمته عن الرصيد الذي يحصل عليه عن طريق شحن الكارت، ويتم خصم قيمة هذا الرصيد عند أول عملية شحن.
خدمة سلفني شكرًا
وتحويل الرصيد بنفس القيمة المالية، أو بزيادة على تلك القيمة من قبيل بيع المنافع؛ إذ إنه تمليك منفعة بعوض على التأبيد.
يقول العلامة القليوبي الشافعي في "حاشيته على شرح المحلي للمنهاج" (2/ 152، ط. عيسى الحلبي) في تعريف البيع شرعًا أنه: [عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين، أو منفعة على التأبيد لا على وجه القربة] اهـ.
وقال الإمام ابن مفلح الحنبلي في "شرح المقنع" (4/ 4، ط. دار الكتب العلمية، بيروت) في تعريف البيع شرعًا: [تمليك عين مالية أو منفعة مباحة على التأبيد بعوض مالي غير ربًا ولا قرض] اهـ.
ولا فرق بين المنافع والأعيان في جواز بيعها؛ يقول الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (5/ 251، ط. دار إحياء التراث العربي): [والمنافع بمنزلة الأعيان؛ لأنه يصح تمليكها في حال الحياة وبعد الموت، وتضمن باليد والإتلاف، ويكون عِوَضها عينًا ودينًا، وإنما اختصت باسم كما اختص بعض البيوع باسم، كالصرف والسلم] اهـ.
وقال الفقيه العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في "فتاويه" (3/ 93، ط. المكتبة الإسلامية): [المنافع كالأعيان؛ فالقيمة فيها ذاتية، وُجِد راغبٌ بالفعل أم لا] اهـ.
والأصل في مشروعية البيع قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، يقول الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 356، ط. دار الشعب): [قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275] هذا من عموم القرآن، والألف واللام للجنس لا للعهد إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه] ا هـ.
وهذا الحكم بحل البيع ينسحب على كل أنواع البيوع، إلا ما نصَّ الشرع على حرمته واستثناه من حكم الأصل، وذلك كالبيوع المشتملة على الرِّبا أو غيره من المحرمات؛ يقول الإمام الشوكاني في تفسيره "فتح القدير" (1/ 339، ط. دار الكلم الطيب، بيروت): [قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275] أي: أن الله أحلّ البيع، وحرّم نوعًا من أنواعه، وهو البيع المشتمل على الربا] اهـ.
ويؤيد أصالة الحل في البيوع قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الأم" (3/ 3، ط. دار المعرفة): [فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين الجائزي الأمر فيما تبايعا، إلا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها، وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محرم بإذنه داخل في المعنى المنهي عنه، وما فارق ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى] ا هـ.
وروى الإمام الترمذي في "سننه" وحسَّنه عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده رضي الله عنه: أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المصلَّى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ!» فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ وَبَرَّ وَصَدَق».
أمَّا إذا كان تحويل الرصيد فيه زيادة في القيمة على المبلغ الذي يتم تحويله فهو من بيع المنافع، وهو صحيحٌ أيضًا، وهذه الزيادة إمَّا من قبيل بدل الخدمات التي تفرضها الشركات على خدمة تحويل الرصيد، أو من قبيل الإجارة بمعنى قيام الشخص المحول إليه الرصيد باستئجار من يقوم بإجراءات تحويل الرصيد، ويمكن اعتبار الزيادة زيادة مشروعة في بيع مرابحة معلوم الربح بالتراضي والمساومة، ولهذا نظير في الفقه؛ فقد صرَّح بعض الفقهاء بأنه إذا ترتب على الإقراض نفقات ومصاريف مثل أجور التوفية بالوحدات القياسية العرفية (الكيل والوزن والعد...) عند التسليم والوفاء، ونفقات الاتصالات أو كتابة السندات والصكوك أو غير ذلك مما يحتاج إليه لإجراء هذا العقد أو تنفيذه أو توثيقه، فإن المقترض وحده هو الذي يتحملها، وذلك بخلاف البيع.
جاء في "الشرح الصغير لمختصر خليل" للشيخ الدردير -من كتب المالكية- (3/ 197-198، مع "حاشية الصاوي"، ط. دار المعارف): [(والأُجْرَةُ): أي أُجْرَةُ الكيل أو الوزن أو العَدِّ (عَلَيْهِ): أي على البائع؛ إذ لا تَحْصُلُ التَّوْفِيَةُ إلا به (بخلاف القَرْضِ، فَعَلَى المُقْتَرِضِ) أُجْرَةُ ما ذُكِرَ؛ لأَنَّ المُقْرِضَ صنع معروفًا فلا يُكَلَّفُ الأُجْرَةَ، وكذا على المُقْتَرِضِ في رَدِّ القَرْضِ والأُجْرَةِ بلا شُبْهَة»] ا هـ.
قاعدة الغرم بالغنم
ومما تتخرج عليه المسألة هنا أيضًا قاعدة: "الغرم بالغنم"، ومعناها: أن الغرم وهو ما يلزم المرء لقاء شيء من مال أو نفس، مقابل بالغنم وهو ما يحصل له من مرغوبه من ذلك الشيء.. فمن ينال نفع شيء عليه أن يتحمل ضرره؛ أي ما يلزمه من نفقات لتحصيله، ومما ذكروا من تطبيقات لهذه القاعدة: أن أجرة كتابة صك الشِّرَاء وحجج المبايعات تلزم المُشْتَرِي؛ لأنها توثيق لانتقال الملكية إليه ومُقَابلَة انتفاعه بها، وأيضًا مصاريف رد المستعير العارية التي في يده من نقل ونحوه تلزمه، فمئونة قبض ورد كل عين تلزم من تعود إليه منفعة قبضها. يُنظر: "شرح القواعد الفقهية" للشيخ أحمد الزرقا (ص: 437-438، ط. دار القلم)، و"القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة" للدكتور/ محمد الزحيلي (1/ 543، ط. دار الفكر، دمشق)، و"درر الحكام في شرح مجلة الأحكام" لعلي حيدر (1/ 90، 2/ 378، ط. دار الجيل).
جاء في "شرح المنتهى" للعلامة البهوتي الحنبلي (2/ 294، ط. عالم الكتب): [(وعليه) أي: المُسْتَعِيرِ (مُؤْنَةُ ردِّها) أي: العارِية. لحديث: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ»، وحديث «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» و(كمغصوب) بجامع أنه قَبَضَهَا لا لمصلحة مَالِكِها فيَرُدُّها إلى الموضع الذي أخذها منه إن لم يتفقا على ردِّها إلى غيره] ا هـ.
تحويل الرصيد
والمنفعة ههنا - في تحويل الرصيد - عائدة على مَنْ يُحوَّل الرصيد إليه وحده، فتلزمه النفقات والمصاريف المترتبة على هذا.
وأمَّا تحويل الرصيد من الشركة في مقابل خصم مبلغ لحين قيام الشخص المُحوَّل إليه الرصيد بشحن رصيده ببطاقة الشحن بمعنى زيادة المبلغ المدفوع عن المبلغ المحول، فهذا أيضًا من بيع المنافع، والزيادة هنا من قبيل الزيادة في الثمن نظير الأجل.
والمقرر شرعًا أنه يَصِح البيع الذي يحوز فيه المشتري المبيعَ المُعَيَّنَ، ويؤجل أداء كُلِّ ثمنه أو بعضه على أقساط معلومة لأَجَلٍ معلوم، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة: 275]، وقد روى الإمام البخاري في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى طعامًا مِن يهوديٍّ إلى أَجَلٍ، ورهنه درعًا مِن حَديد".
وقال العلامة ابنُ بَطّال في "شرح صحيح البخاري" (6/ 208، ط. مكتبة الرشد، الرياض): [العلماء مُجْمِعون على جواز البيع بالنسيئة] اهـ.
ولو زاد البائع في ثمن المبيع المُعَيَّن نظير الأجل المعلوم، فإن ذلك جائز شرعًا أيضًا؛ لأنه مِن قبيل المرابحة، وهي نوع من أنواع البيوع الجائزة شرعًا التي يجوز فيها اشتراط الزيادة في الثمن في مقابلة الأجل؛ لأن الأجل وإن لم يكن مالا حقيقة، إلا أنه في باب المرابحة يُزاد في الثمن لأجله إذا ذُكِر الأجل المعلوم في مقابلة زيادة الثمن؛ قصدًا لحصول التراضي بين الطرفين على ذلك، ولعدم وجود موجب للمنع، ولحاجة الناس الماسَّة إليه بائعينَ كانوا أو مشترين.. ولا يُعَدُّ ذلك مِن قبيل الرِّبا؛ لأنه بَيعٌ حصل فيه إيجابٌ وقَبولٌ وتَوَفَّر فيه الثَمَن والمُثمَن -المبيع-، وهذه هي أركان البيع، غاية أمره أنه قد تأجل فيه قبض الثمن إلى أجلٍ أو إلى آجالٍ، فدخل تحت عموم قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة: 275]، وكذلك فإن القاعدة الشرعية أنه إذا توسطت السلعة فلا ربا.
والقول بجواز الزيادة في الثمن نظير الأجل هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. يُنظر: "بدائع الصنائع" للإمام الكاساني -من كتب الحنفية- (5/ 224، ط. دار الكتب العلمية)، و"الشرح الكبير على مختصر خليل" للشيخ الدردير مع "حاشية الدسوقي في مذهب الإمام مالك" (3/ 58، ط. دار إحياء الكتب العربية)، و"المهذب" للإمام الشيرازي - في فقه السادة الشافعية - (1/ 289، ط. دار الفكر، بيروت)، و"المُبدِع شرح المُقنِع" للعلامة ابن مُفلِح من كتب المذهب الحنبلي (4/ 103، ط. دار الكتب العلمية).
وهذا هو المنقول عن طاوس والحكم وحَمّاد والأَوزاعي من فقهاء السلف. يُنظر: "معالم السُّنَن" لأبي سليمان الخَطَّابي (3/ 123، ط. المطبعة العلمية بحلب).
قال الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار" (5/ 181، ط. دار الحديث) عن الزيادة مقابل التأجيل: [قالت الشافعية والحنفية وزيد بن علي والمؤيد بالله والجمهور: إنه يجوز لعموم الأدلة القاضية بجوازه وهو الظاهر... وقد جمعنا رسالة في هذه المسألة وسميناها "شِفَاء العِلَل فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ لِمُجَرَّدِ الأَجَلِ"، وحققناها تحقيقًا لم نُسْبَق إليه] ا هـ.
وهذا ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة في جلسته المنعقدة في دورة المؤتمر السادس من 17 إلى 23 شعبان 1410هـ، الموافق من 14 إلى 20 مارس 1990م؛ حيث جاء في القرار رقم (53/ 2/ 6) ما نصه: [تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال، كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقدًا وثمنه بالأقساط لمُدَدٍ معلومة، ولا يصح البيع إلا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل، فإن وقع البيع مع التردد بين النقد والتأجيل؛ بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثَمَنٍ واحدٍ مُحَدَّدٍ فهو غير جائز شرعًا] ا هـ.
ولا يُقال بأن الأجل ههنا غير معلوم أو غير ظاهر؛ إذ الأجل تحدده شركات المحمول التي تقوم بهذا الأمر، وإذا لم يقم من تَمَّ تحويل الرصيد إليه بشحن رصيده ببطاقة الشحن في موعد محددٍ، فإن الشركة ستقوم بسحب الخط منه، وتظل قيمة الرصيد المحول إليه ثابتة في ذمته ولا تبرأ حتى يقومَ بسداد ما عليه، بل إن الشركة قد تقوم باتخاذ الإجراءات القانونية ضده لاستيفاء حقها منه.
أما تسمية الخدمة باسم: "سلفني شكرًا"، فلا تأثير لها في حقيقة ما يتم في هذا التعاقد، فالعبرة في هذه الحالة بمعنى العقد وليس بألفاظه.
قال الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 166، ط. دار الكتب العلمية): [القاعدة الخامسة: "هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟" خلاف: والترجيح مختلف في الفروع؛ فمنها: إذا قال: اشتريت منك ثوبًا، صفته كذا بهذه الدراهم. فقال: بعتك؛ فرجح الشيخان: أنه ينعقد بيعًا اعتبارًا باللفظ، والثاني ورجحه السبكي سلمًا اعتبارًا بالمعنى. ومنها: إذا وهب بشرط الثواب، فهل يكون بيعًا اعتبارًا بالمعنى، أو هبة اعتبارًا باللفظ؟ الأصح الأول] ا هـ.
حكم خدمة "سلفني شكرًا"
وعليه: فإن تحويل الرصيد من الشركة التي تقدم خدمة الاتصالات مقابل خصم مبلغٍ لحين القيام بشحن الرصيد ببطاقة الشحن بمعنى زيادة المبلغ المدفوع عن المبلغ المحول، كل هذا جائزٌ ولا شيء فيه، ولا تأثير لتسمية الخدمة باسم "سلفني شكرًا"؛ فهي بيعٌ، وليست سلفًا أو قرضًا، والعبرة في هذه الحالة لمعنى العقد وليس للفظه.
الرصيد: عبارة عن حق مالي تمنحه شركة الاتصالات للعميل؛ لينتفع بإجراء المكالمات وقت ما يشاء دون أن يتجاوز مجموع ما يجريه مقدارًا زمنيًّا محددًا تبعًا للمبلغ النقدي الذي يدفعه العميل مقدمًا (وهو ما يعرف بنظام الكارت)، فإذا استهلك العميل المقدار الزمني المحدد توقفت الخدمة لحين حصوله على رصيد آخر.
والرصيد: أمر اعتباري يحدد مدى استحقاق العميل للانتفاع بخدمة إجراء المكالمات نظير ما دفعه من المال.. فهو من الحقوق المتعلقة بالمال، والحق في اصطلاح الفقهاء: اختصاص يُقِرّ به الشرع سلطة على شيء أو اقتضاء أداء من آخر تحقيقًا لمصلحة معينة. راجع: "الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده" للدكتور محمد فتحي الدريني (ص: 260، ط. دار البشير).
العلاقة بين الحق والمنفعة
والعلاقة الرابطة بين الحق والمنفعة: هي أن المنفعة مصلحة مقصودة، أما الحق فهو وسيلة معنوية لتحصيل المصلحة، بينما الأجهزة الملموسة: هي الوسيلة العينية والتي جرى العرف قديمًا وحديثًا بإقراضها وإعارتها وإجارتها ورهنها وغير ذلك من المعاملات.
وقد أتاحت شركات الاتصالات للعميل إذا نفد رصيده أن يقوم بتقديم طلب من خلال هاتفه ينبني عليه إجراء عملية تعرف بخدمة "سلفني شكرًا"، يتم فيها تحويل رصيد إضافي من جهة الشركة تزيد قيمته عن الرصيد الذي يحصل عليه عن طريق شحن الكارت، ويتم خصم قيمة هذا الرصيد عند أول عملية شحن.
خدمة سلفني شكرًا
وتحويل الرصيد بنفس القيمة المالية، أو بزيادة على تلك القيمة من قبيل بيع المنافع؛ إذ إنه تمليك منفعة بعوض على التأبيد.
يقول العلامة القليوبي الشافعي في "حاشيته على شرح المحلي للمنهاج" (2/ 152، ط. عيسى الحلبي) في تعريف البيع شرعًا أنه: [عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين، أو منفعة على التأبيد لا على وجه القربة] اهـ.
وقال الإمام ابن مفلح الحنبلي في "شرح المقنع" (4/ 4، ط. دار الكتب العلمية، بيروت) في تعريف البيع شرعًا: [تمليك عين مالية أو منفعة مباحة على التأبيد بعوض مالي غير ربًا ولا قرض] اهـ.
ولا فرق بين المنافع والأعيان في جواز بيعها؛ يقول الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (5/ 251، ط. دار إحياء التراث العربي): [والمنافع بمنزلة الأعيان؛ لأنه يصح تمليكها في حال الحياة وبعد الموت، وتضمن باليد والإتلاف، ويكون عِوَضها عينًا ودينًا، وإنما اختصت باسم كما اختص بعض البيوع باسم، كالصرف والسلم] اهـ.
وقال الفقيه العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في "فتاويه" (3/ 93، ط. المكتبة الإسلامية): [المنافع كالأعيان؛ فالقيمة فيها ذاتية، وُجِد راغبٌ بالفعل أم لا] اهـ.
والأصل في مشروعية البيع قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، يقول الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 356، ط. دار الشعب): [قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275] هذا من عموم القرآن، والألف واللام للجنس لا للعهد إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه] ا هـ.
وهذا الحكم بحل البيع ينسحب على كل أنواع البيوع، إلا ما نصَّ الشرع على حرمته واستثناه من حكم الأصل، وذلك كالبيوع المشتملة على الرِّبا أو غيره من المحرمات؛ يقول الإمام الشوكاني في تفسيره "فتح القدير" (1/ 339، ط. دار الكلم الطيب، بيروت): [قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275] أي: أن الله أحلّ البيع، وحرّم نوعًا من أنواعه، وهو البيع المشتمل على الربا] اهـ.
ويؤيد أصالة الحل في البيوع قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الأم" (3/ 3، ط. دار المعرفة): [فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين الجائزي الأمر فيما تبايعا، إلا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها، وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محرم بإذنه داخل في المعنى المنهي عنه، وما فارق ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى] ا هـ.
وروى الإمام الترمذي في "سننه" وحسَّنه عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده رضي الله عنه: أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المصلَّى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ!» فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ وَبَرَّ وَصَدَق».
أمَّا إذا كان تحويل الرصيد فيه زيادة في القيمة على المبلغ الذي يتم تحويله فهو من بيع المنافع، وهو صحيحٌ أيضًا، وهذه الزيادة إمَّا من قبيل بدل الخدمات التي تفرضها الشركات على خدمة تحويل الرصيد، أو من قبيل الإجارة بمعنى قيام الشخص المحول إليه الرصيد باستئجار من يقوم بإجراءات تحويل الرصيد، ويمكن اعتبار الزيادة زيادة مشروعة في بيع مرابحة معلوم الربح بالتراضي والمساومة، ولهذا نظير في الفقه؛ فقد صرَّح بعض الفقهاء بأنه إذا ترتب على الإقراض نفقات ومصاريف مثل أجور التوفية بالوحدات القياسية العرفية (الكيل والوزن والعد...) عند التسليم والوفاء، ونفقات الاتصالات أو كتابة السندات والصكوك أو غير ذلك مما يحتاج إليه لإجراء هذا العقد أو تنفيذه أو توثيقه، فإن المقترض وحده هو الذي يتحملها، وذلك بخلاف البيع.
جاء في "الشرح الصغير لمختصر خليل" للشيخ الدردير -من كتب المالكية- (3/ 197-198، مع "حاشية الصاوي"، ط. دار المعارف): [(والأُجْرَةُ): أي أُجْرَةُ الكيل أو الوزن أو العَدِّ (عَلَيْهِ): أي على البائع؛ إذ لا تَحْصُلُ التَّوْفِيَةُ إلا به (بخلاف القَرْضِ، فَعَلَى المُقْتَرِضِ) أُجْرَةُ ما ذُكِرَ؛ لأَنَّ المُقْرِضَ صنع معروفًا فلا يُكَلَّفُ الأُجْرَةَ، وكذا على المُقْتَرِضِ في رَدِّ القَرْضِ والأُجْرَةِ بلا شُبْهَة»] ا هـ.
قاعدة الغرم بالغنم
ومما تتخرج عليه المسألة هنا أيضًا قاعدة: "الغرم بالغنم"، ومعناها: أن الغرم وهو ما يلزم المرء لقاء شيء من مال أو نفس، مقابل بالغنم وهو ما يحصل له من مرغوبه من ذلك الشيء.. فمن ينال نفع شيء عليه أن يتحمل ضرره؛ أي ما يلزمه من نفقات لتحصيله، ومما ذكروا من تطبيقات لهذه القاعدة: أن أجرة كتابة صك الشِّرَاء وحجج المبايعات تلزم المُشْتَرِي؛ لأنها توثيق لانتقال الملكية إليه ومُقَابلَة انتفاعه بها، وأيضًا مصاريف رد المستعير العارية التي في يده من نقل ونحوه تلزمه، فمئونة قبض ورد كل عين تلزم من تعود إليه منفعة قبضها. يُنظر: "شرح القواعد الفقهية" للشيخ أحمد الزرقا (ص: 437-438، ط. دار القلم)، و"القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة" للدكتور/ محمد الزحيلي (1/ 543، ط. دار الفكر، دمشق)، و"درر الحكام في شرح مجلة الأحكام" لعلي حيدر (1/ 90، 2/ 378، ط. دار الجيل).
جاء في "شرح المنتهى" للعلامة البهوتي الحنبلي (2/ 294، ط. عالم الكتب): [(وعليه) أي: المُسْتَعِيرِ (مُؤْنَةُ ردِّها) أي: العارِية. لحديث: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ»، وحديث «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» و(كمغصوب) بجامع أنه قَبَضَهَا لا لمصلحة مَالِكِها فيَرُدُّها إلى الموضع الذي أخذها منه إن لم يتفقا على ردِّها إلى غيره] ا هـ.
تحويل الرصيد
والمنفعة ههنا - في تحويل الرصيد - عائدة على مَنْ يُحوَّل الرصيد إليه وحده، فتلزمه النفقات والمصاريف المترتبة على هذا.
وأمَّا تحويل الرصيد من الشركة في مقابل خصم مبلغ لحين قيام الشخص المُحوَّل إليه الرصيد بشحن رصيده ببطاقة الشحن بمعنى زيادة المبلغ المدفوع عن المبلغ المحول، فهذا أيضًا من بيع المنافع، والزيادة هنا من قبيل الزيادة في الثمن نظير الأجل.
والمقرر شرعًا أنه يَصِح البيع الذي يحوز فيه المشتري المبيعَ المُعَيَّنَ، ويؤجل أداء كُلِّ ثمنه أو بعضه على أقساط معلومة لأَجَلٍ معلوم، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة: 275]، وقد روى الإمام البخاري في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى طعامًا مِن يهوديٍّ إلى أَجَلٍ، ورهنه درعًا مِن حَديد".
وقال العلامة ابنُ بَطّال في "شرح صحيح البخاري" (6/ 208، ط. مكتبة الرشد، الرياض): [العلماء مُجْمِعون على جواز البيع بالنسيئة] اهـ.
ولو زاد البائع في ثمن المبيع المُعَيَّن نظير الأجل المعلوم، فإن ذلك جائز شرعًا أيضًا؛ لأنه مِن قبيل المرابحة، وهي نوع من أنواع البيوع الجائزة شرعًا التي يجوز فيها اشتراط الزيادة في الثمن في مقابلة الأجل؛ لأن الأجل وإن لم يكن مالا حقيقة، إلا أنه في باب المرابحة يُزاد في الثمن لأجله إذا ذُكِر الأجل المعلوم في مقابلة زيادة الثمن؛ قصدًا لحصول التراضي بين الطرفين على ذلك، ولعدم وجود موجب للمنع، ولحاجة الناس الماسَّة إليه بائعينَ كانوا أو مشترين.. ولا يُعَدُّ ذلك مِن قبيل الرِّبا؛ لأنه بَيعٌ حصل فيه إيجابٌ وقَبولٌ وتَوَفَّر فيه الثَمَن والمُثمَن -المبيع-، وهذه هي أركان البيع، غاية أمره أنه قد تأجل فيه قبض الثمن إلى أجلٍ أو إلى آجالٍ، فدخل تحت عموم قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة: 275]، وكذلك فإن القاعدة الشرعية أنه إذا توسطت السلعة فلا ربا.
والقول بجواز الزيادة في الثمن نظير الأجل هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. يُنظر: "بدائع الصنائع" للإمام الكاساني -من كتب الحنفية- (5/ 224، ط. دار الكتب العلمية)، و"الشرح الكبير على مختصر خليل" للشيخ الدردير مع "حاشية الدسوقي في مذهب الإمام مالك" (3/ 58، ط. دار إحياء الكتب العربية)، و"المهذب" للإمام الشيرازي - في فقه السادة الشافعية - (1/ 289، ط. دار الفكر، بيروت)، و"المُبدِع شرح المُقنِع" للعلامة ابن مُفلِح من كتب المذهب الحنبلي (4/ 103، ط. دار الكتب العلمية).
وهذا هو المنقول عن طاوس والحكم وحَمّاد والأَوزاعي من فقهاء السلف. يُنظر: "معالم السُّنَن" لأبي سليمان الخَطَّابي (3/ 123، ط. المطبعة العلمية بحلب).
قال الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار" (5/ 181، ط. دار الحديث) عن الزيادة مقابل التأجيل: [قالت الشافعية والحنفية وزيد بن علي والمؤيد بالله والجمهور: إنه يجوز لعموم الأدلة القاضية بجوازه وهو الظاهر... وقد جمعنا رسالة في هذه المسألة وسميناها "شِفَاء العِلَل فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ لِمُجَرَّدِ الأَجَلِ"، وحققناها تحقيقًا لم نُسْبَق إليه] ا هـ.
وهذا ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة في جلسته المنعقدة في دورة المؤتمر السادس من 17 إلى 23 شعبان 1410هـ، الموافق من 14 إلى 20 مارس 1990م؛ حيث جاء في القرار رقم (53/ 2/ 6) ما نصه: [تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال، كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقدًا وثمنه بالأقساط لمُدَدٍ معلومة، ولا يصح البيع إلا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل، فإن وقع البيع مع التردد بين النقد والتأجيل؛ بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثَمَنٍ واحدٍ مُحَدَّدٍ فهو غير جائز شرعًا] ا هـ.
ولا يُقال بأن الأجل ههنا غير معلوم أو غير ظاهر؛ إذ الأجل تحدده شركات المحمول التي تقوم بهذا الأمر، وإذا لم يقم من تَمَّ تحويل الرصيد إليه بشحن رصيده ببطاقة الشحن في موعد محددٍ، فإن الشركة ستقوم بسحب الخط منه، وتظل قيمة الرصيد المحول إليه ثابتة في ذمته ولا تبرأ حتى يقومَ بسداد ما عليه، بل إن الشركة قد تقوم باتخاذ الإجراءات القانونية ضده لاستيفاء حقها منه.
أما تسمية الخدمة باسم: "سلفني شكرًا"، فلا تأثير لها في حقيقة ما يتم في هذا التعاقد، فالعبرة في هذه الحالة بمعنى العقد وليس بألفاظه.
قال الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 166، ط. دار الكتب العلمية): [القاعدة الخامسة: "هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟" خلاف: والترجيح مختلف في الفروع؛ فمنها: إذا قال: اشتريت منك ثوبًا، صفته كذا بهذه الدراهم. فقال: بعتك؛ فرجح الشيخان: أنه ينعقد بيعًا اعتبارًا باللفظ، والثاني ورجحه السبكي سلمًا اعتبارًا بالمعنى. ومنها: إذا وهب بشرط الثواب، فهل يكون بيعًا اعتبارًا بالمعنى، أو هبة اعتبارًا باللفظ؟ الأصح الأول] ا هـ.
حكم خدمة "سلفني شكرًا"
وعليه: فإن تحويل الرصيد من الشركة التي تقدم خدمة الاتصالات مقابل خصم مبلغٍ لحين القيام بشحن الرصيد ببطاقة الشحن بمعنى زيادة المبلغ المدفوع عن المبلغ المحول، كل هذا جائزٌ ولا شيء فيه، ولا تأثير لتسمية الخدمة باسم "سلفني شكرًا"؛ فهي بيعٌ، وليست سلفًا أو قرضًا، والعبرة في هذه الحالة لمعنى العقد وليس للفظه.