فكيف ذهبت.. وما زلتَ بي؟

أعلم علم اليقين أنك ترقد الآن فى قبرك بسلام، مستمتعًا برياض الجنة التى وعد بها الله جل وعلا أمثالك من الطيبين الصالحين الناثرين لجمال سمو أرواحهم، ونورانية قلوبهم على كل من حولهم، والله لا يخلف وعده. ولكن على الرغم من يقيني هذا، إلا أنني مازلت أتلعثم فى دعائي، وأدعو لك بالشفاء بدلًا من الرحمة والمغفرة، لأنك وإن كنت لست الآن على قيد الحياة، فإنك ستبقى حى فينا أبدًا على قيد الفؤاد.

الناس تعلم أنك فقط والد ابنة الأكرمين زوجتى الحبيبة، ولكنك تعلم أنك أيضًا أبي، لذلك عندما قبلت قدمك الطاهرة أثناء مراسم غسل جسدك الملائكي، مرت أمام عيني كل مآثرك الطيبة، التي ستظل بإذن الله مصباحًا وهاجًا ينير لنا الطريق، ويرشدنا ويقود خطانا إلى فعل كل ما يحبه الله ويرضاه.

وجه مشرق
أشهد بأنك كنت نعم الأب والأخ والصديق والسند.. صاحب همة لا تفتر، وعزيمة لا تنقطع، وبريق لا ينطفئ، ومثابرة لا تلين، وضمير حى لا يغفل ولو لثانية واحدة، وخلق رفيع غرس محبتك فى قلب كل من كافأه الله بمعرفتك. كلما مر أمام ناظري طيف وجهك المشرق الباسم شديد الطيبة، أتذكر على الفور أبيات المبدع "نزار قباني":

أماتَ أبوك
ضلالٌ.. أنا لا يموتُ أبي
ففي البيت منهُ..
روائحُ ربّ، وذكرى نبي
هنا ركنهُ.. تلك أشياؤهُ
تفتَّقُ عن ألفِ غصنٍ صبي
جريدتُهُ.. سبحته.. مُتَّكاه
كأنَّ أبي، بعدُ، لم يذهبِ..
وصحنُ الطعام .. وفنجانُهُ
على حالهِ، بعدُ، لم يُشربِ
ونظّارتاهُ.. أيسلو الزجاجُ
عيوناً، أشفَّ من المغربِ
بقاياهُ، في الحُجُرات الفساحِ
بقايا النسور على الملعبِ
أجولُ الزوايا عليه ،فحيثُ
أمر.. أمرُّ على مُعشبِ
أشدُّ يديه.. أميل عليه
أصلّي على صدرهِ المتعبِ..
أبي، خبراً كان من جنَّةٍ
ومعنىً من الأرحب الأرحبِ
وعينا أبي.. ملجأ للنجومِ
فهل يذكرُ الشرقُ عينيْ أبي؟
أبي ..يا أبي.. إنَّ تاريخَ طيب
وراءك يمشي، فلا تعتبِ
على اسمِكَ نمضي.. فمن طيّبٍ
شهيَّ المجاني إلى أطيبِ
حملتُك في صَحو عينيَّ حتى
تهيَّأ للناس أنَّي أبي..
أشيلُك حتى بنبرة صوتي
فكيف ذهبتَ.. ولا زلتَ بي؟

ثلاثة أعمال
أحبتى.. اسمحوا لى أن أذكركم ونفسى بقول رسولنا الكريم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".. لأن هذا ما يحتاجه الآن كل من رحل من أحبتنا عن هذه الدنيا الفانية.. ولأن هذا ما سنحتاجه جميعًا إن شاء الله غدًا عندما تحين آجالنا التى قدرها الرحمن الرحيم.

كما أرجوكم وبشدة أن تحضروا مراسم تغسيل وتكفين الميت، وأن تنزلوا معه إلى القبر كلما تيسر لكم ذلك، لأن لهذا الفعل آثارا عظيمة على النفس لا يمكن أن يشعر بها ويستفيد منها إلا من عايشها بنفسه.

اللهم توفنا وأنت راض عنا، واسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك، وأدخلنا الجنة بسلام مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إنك سميع مجيب الدعاء.