رئيس التحرير
عصام كامل

أحمد حلمي.. حكاية أول سجين رأي وسر إطلاق اسمه على ميدان في قلب القاهرة

الصحفي أحمد حلمي
الصحفي أحمد حلمي
هو الرجل الثاني بعد مصطفى كامل، في جريدة اللواء، قبل أن يصدر جريدته القطر المصري، التي عارضت الخديوي عباس حلمي والأسرة الخديوية برمتها؛ مما أدى إلى تقديم  مؤسسها للمحاكمة بتهمة العيب في الذات الملكية، ثم عصفت دار المعتمد البريطاني بالجريدة كلها في عام 1910 م.


هو أحمد حلمي جاهين، والذي يقول الباحثون إنه أول سجين رأي في القرن العشرين.

وُلد أحمد حلمي، 1875 في حي خان الخليلي، تلقى تعليمه في خان جعفر بالحي الحسيني حيث تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، ثم عمل ككاتب في أحد الدواوين الحكومية.

كان لأحمد حلمي ميل للكتابة شديد فكتب الشعر، ولما صدرت جريدة السلام، "يومية سياسية تجارية" بمدينة الإسكندرية يوم 5 مايو 1898 لصاحبها (غالب محمد طليمات) كان (أحمد حلمي) يراسل مكتبها في القاهرة، وينقل إليها أخبار القصر الخديوي وأنباء الوزارات والمصالح.

ولما صدرت جريدة (اللواء) عام 1900 في الثاني من يناير، سارع (أحمد حلمي) في الكتابة فيها ككاتب غير متفرغ ثم ككاتب متفرغ.

خلال الفترة من 1900 إلى 1908 قدم أحمد حلمي عديد من الموضوعات الوطنية في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكان (أحمد حلمي) هو الصحفي الذي تابع تفاصيل حادثة دنشواي 13 يونيو 1906، التي كانت من أهم حوادث مصر التاريخية، فكان لكتاباته أكبر الأثر في التهاب المشاعر الوطنية وفي كشف النقاب عن الصورة الحقيقية للاحتلال الإنجليزي، قد سافر (أحمد حلمي) إلى دنشواي لموافاة اللواء بالتفاصيل الكاملة.

وهو صاحب التحقيق الصحفي المشهور (يا دافع البلاء) عن حادثة دنشواي، والذي قال عنه عباس محمود العقاد: "لا تعرف فزعا شمل القطر المصري من أقصاه إلى أقصاه كالفزع الذي شمله يوم قرأ الناس أخبار هذه الفاجعة ونشرتها اللواء بعنوان (يا دافع البلاء).

وكان (حلمي) في اللواء أول من نادَى بإنشاء أول وزارة زراعة مصرية، ودعا إلى الوحدة الوطنية بين شعوب وادي النيل في مواجهة الاحتلال الإنجليزي، وطالب الجيش المصري بالانضمام إلى المدنيين في المطالبة بالدستور والحرية، كما كتب من وقائع التقارير الرسمية غرض الحكومة في التعليم القطري المصري هو تضييق دائرة الارتقاء العلمي على أولاد الفقراء تضييقا تاما وحصر تلقي التعليم العالي على أولاد الأغنياء، وأن الغرض من التعليم هو الحصول على الموظفين الذين تأمرهم فيأتمرون وتزجرهم فيزدجرون، (كما ذكر في مقالة في اللواء بتاريخ 19 يوليو 1904 العدد 1465)

واعتبر (إبراهيم عبده أستاذ الصحافة) في كتابة (أعلام الصحافة) (أحمد حلمي) محرر اللواء الأول بلا منازع.

وبعد وفاة (مصطفى كامل) في فبراير 1908 وتولى (على فهمي كامل تحريرها)، استقال (أحمد حلمي) من اللواء محتجًا على سياسة الجريدة بعد وفاة صاحبها وابتعادها عن مبادئ الحزب الوطني الذي آمن به، وبعد استقالته من اللواء أصدر جريدته القطر المصري وهي مجلة (سياسية وطنية أدبية زراعية صناعية) كما وصفها، تصدر صباح الجمعة من كل أسبوع، التزمت المجلة بمبادئ الحزب الوطني.

وبرغم التهديدات والصعوبات التي واجهت (القطر المصري) تم توزيع العدد الأول كله في نفس يوم صدوره فاضطر (أحمد حلمي) إلى إعادة طبعه ثانيا.

وبعد ستة شهور من إصدار (القطر المصري على شكل مجلة تبدأ اعتبارا من 16 أكتوبر 1908 في الصدور على شكل جريدة كما يقول (أحمد حلمي): "بناءً على رغبة القراء" ربما لرخص ثمن الجريدة عن المجلة.

كان (أحمد حلمي) في القطر المصري يهاجم الخديوي والنظام الملكي حتى رمته النيابة بأكبر تهمة لم تنظر مثلها المحاكم المصرية قاطبة من عهد افتتاحها في 1883، وهي (العيب في الذات الملكية)

ويقول مؤرخ الصحافة العربية (فيليب دي طرازي): إن هذه الجريدة التي كانت خطتها المناداة بالعداء للاحتلال الإنجليزي وانتقاد سياسة مصر، لم يبق عظيم إلا قرأها وعرفها، حتى إن الخديوي عباس نفسه كان يقرأها خلافا لعادته ولا يطالع سواها من الصحف، وحتى ضباط الجيش، حتى إن حكومة السودان لما قررت منع دخولها إلى البلاد كان الضباط يخفونها في طيات ملابسهم وكان يقرأها أيضا العمال، واستاءت غرفة التجارة والصحف الإنجليزية منها لأنها كانت تدعو لمقاطعة البضائع الإنجليزية، لأن رواج هذه البضائع في مصر وترويجها على الدوام هو علة الاحتلال الإنجليزي في وادي النيل.

ولما رفع ( حلمي) الستار عن عيوب النظام الخديوي وخاصة بيع الأوسمة والرتب للأعيان قامت عليه القيامة وكيَّل له الأعداء فمثلوه للخديوي كعدو يعمل على دعوة الأمة المصرية للخروج عليه وانتزاع الملك من أسرته.

وتتوالى الأحكام القضائية على (أحمد حلمي) وعلى جريدته، وفقا لما يرويه (إبراهيم عبده) في كتابة (تطور الصحافة العربية) أنه تزعم إحدى المظاهرات والتي قدر عدد حاضريها 25 ألفا من المصريين يوم 31 مارس 1909 ضد إعادة العمل بقانون المطبوعات الصادر سنة 1881 في عهد وزارة رياض باشا، فيصدر عليه الحكم بالحبس 4 شهور مع كفالة قدرها 10 جنيهات.

ثم يصدر الحكم الابتدائي بحبسه ستة أشهر وتعطيل القطر المصري وإعدام كل ما يضبط من العدد 37 منها، ثم جاء جاء حكم محكمة الاستئناف تؤيد الحكم الابتدائي وتجعل الحبس سنة مع الشغل، لتطاوله في جريدته على مقام الحضرة الفخيمة الخديوية، في قضية يعتبر فيها أول مصري يحكم عليه بتهمة العيب في الذات الملكية (الخديوية).

وبعد مضي 6 أشهر عادت (القطر المصري) للصدور فيما كان (أحمد حلمي) ما زال في السجن، وقد اختار لها مديرا وهو (جبريل اسكوردينو) ليحمي جريدته بالامتيازات الاجنبية وحتى لا تخضع لقانون المطبوعات، لكن لم يلبث جبريل اسكوردينو عددا واحدا حتى تم تغييره بمدير فرنسي وهو (راءول مارشان).

وقد رأت دار المعتمد الإنجليزي في مصر وفقا لوثائق وزارة خارجيتها أن تعصف بالجريدة نهائيا في عام 1910 بحجة تعرضها للجانب العالي ودرجها مقالات مغايرة للآداب في حق الاحتلال الإنجليزي.

وبعد خروج (أحمد حلمي) من السجن وفي عام 1911 أصدر الطبعة الأولى من الجزئين الأول والثاني من كتابه (السجون المصرية في عهد الاحتلال الإنجليزي)، على صدر الكتاب عبارة "سجن الجسم خير من سجن الضمير..". ورغم أن (أحمد حلمي) يقرر أن مؤلفه هذا في ثلاثة أجزاء إلا أنه لم يعثر في الكتب والوثائق القومية إلا على جزئين فقط في مجلد واحد كما أن كثيرا من الصفحات منزوعة، يرجع د/ إبراهيم عبد الله المسلمي قطع الصفحات إلى الرقابة وقتذاك.

وفي 4 يوليو 1914 أصدر (أحمد حلمي) صحيفة (المشرق) وصفها بأنها أدبية تاريخية، تضمنت الجريدة عددا من الأبواب والفصول منها باب (الأدب قديما وحديثا)، صدرت في 8 صفحات من الحجم النصفي (تابلويد) بالصفحة 3 أعمدة كان ثمن النسخة 8 مليمات

يقول د/ إبراهيم عبد الله المسلمي (في كتابه (أحمد حلمي) سجين الحرية والصحافة، الصادر ضمن سلسلة تاريخ المصريين، الهيئة العامة للكتاب): "المرء يستعجب من سجين الحرية الذي نادى بمصر للمصريين، وتحمَّل ما لا يتحمله بشر في السجن مقابل حرية الوطن وكرامته، فلم يجد في تلك الصحيفة ما يشفي غليله، وكانت البلاد على مقربة من إعلان الأحكام العرفية عليها وذلك أن بوادر الحرب العالمية الأولى كانت على الأبواب بالفعل، وهذه الصحيفة بكاملها لا تساوي في الحياة الصحفية صفحة واحدة من صفحات الجريدة الوطنية الأبية القطر المصري، حتى إن (أحمد حلمي) الذي دخل السجن بتهمة العيب في الذات الملكية الخديوية ينشر في صدر العدد الخامس من المشرق صورة الخديوي عباس حلمي الثاني بعنوان (سلمت لتحيا مصر فيك وتسلما) وهي تهنئة للملك بنجاته من الاغتيال على يد مجنون.

وأرجع المسلمي ذلك إلى شهور السجن وإعادة بعث قانون المطبوعات الذي كان سيفا مسلطا على الكلمة الحرة، والسؤال المطروح هل ذلك كان بداية تخلي حلمي عن مبادئة أو تخليه عن العمل الصحفي كليا، خاصة أن صحيفته (المشرق) ما لبثت أن توقفت في أغسطس 1914.

وفي 25 أغسطس من عام 1919 أصدر صحيفة جديدة أسماها (الزراعة)، ووصفها بجريدة زراعية اقتصادية.

وأخيرا وكما يصفه د/ إبراهيم المسلمي، رأى (أحمد حلمي) أنه لم يستفد شيئًا من الاعتقال أو النفي فآثر العمل في الزراعة واستأجر مزرعة كبيرة تبلغ زهاء ألف فدان بكفر دملاش مركز شبين بمحافظة الغربية وأشرف على زراعة هذه الأرض ونظم طرق الري والصرف بها.

وكسب من الزراعة مالًا جمًا واقتنى أملاكا لا بأس بها وكان ينفق كثيرا على تعليم أولاده وظل موفَّقا في حياته الزراعية إلى أن وضعت الحرب أوزارها فظل بعدها يستأجر الأراضي الواسعة في دائرة شريف والمنشاوي، فاستأجر مرة مزرعة لشريف باشا بالقرب من منية السيرج بضواحي مصر، وسكن بمنزل حماه بالقرب من أرضه ويمر بالشارع الذي أصبح يحمل اسمه في شبرا كما استأجر أرضا أخرى بالقرب من طنطا، لكن الأزمة الاقتصادية التي حلت بالبلاد بعد الحرب العالمية الأولى أصابته أيضا فخسر الكثير مما جمعه وخرج من الميدان ببضعة ألوف من الجنيهات اشترى بها عمارة كبيرة في شبرا، التي سكن بها حتى وافته المنية في 18 يناير 1936.

وهنا يتضح لماذا أطلق اسم (أحمد حلمي) على تلك الميدان الشهير في القاهرة، لأن كان له أملاك في تلك المنطقة، وليس لتاريخه العظيم وكفاحه الصحفي أو كفاحه ضد الاحتلال والملكية.
الجريدة الرسمية