ما حكم قراءة الإمام بالقراءات في الصلوات الجهرية؟.. دار الإفتاء تجيب
ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه: "هل يجوز لإمام صلاة الجماعة أن يقرأ في الصلوات الجهرية بالقراءات المختلفة، أم يجب عليه الاقتصار على قراءة البلد الذي يصلي فيها؟
وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
إن المتأمل في الأحاديث النبوية الشريفة والسيرة المصطفوية المنيفة لَيَجِدُ الإجابة على هذا السؤال واضحة جلية؛ إذ فيها الإجابة على سبب تعدد القراءات القرآنية وبيانُ كون ذلك رحمة بالأمة، تَسَبَّبَ في جَلبها لها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم برحمته بأمته وشفقته الكبيرة عليهم، كيف لا وهو نبي الرحمة الرؤوف الرحيم، وفي السنة والسيرة أيضا وجود القراءة بالقراءات المختلفة بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وحدوث نوع التباس واستغراب لديهم إزالة تعليم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم.
وهذا يدل على أن حصول هذا الاستغراب لا يستوجب بمجرده ترك القراءة بالقراءات القرآنية المتواترة؛ ففي "الصحيحين" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَقرأَنِي جبريلُ عليه السلامُ على حَرفٍ واحِدٍ، فراجَعتُه، فلم أَزَل أَستَزِيدُه ويَزِيدُنا حتى انتَهى إلى سَبعةِ أَحرُفٍ»، وفيهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هِشامَ بن حَكِيمٍ يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستمعتُ لقراءته
فإذا هو يقرأ على حُرُوفٍ كثيرة لم يُقرِئنِيها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكِدتُ أُساوِرُه في الصلاة، فتَصَبَّرتُ حتى سَلَّمَ، فلَبَّبتُه برِدائه، فقلتُ: مَن أَقرأكَ هذه السورةَ التي سمعتُك تَقرأُ؟ قال: أَقرأَنِيها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلتُ: كَذَبتَ؛ فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أَقرأَنِيها على غير ما قرأتَ، فانطَلَقتُ به أَقُودُه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلتُ: إنِّي سمعتُ هذا يقرأُ سورةَ الفُرقانِ على حُرُوفٍ لم تُقرِئنِيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهشام: «اقرأ يا هشامُ»، فقرأ عليه القراءةَ التي سمعتُه يقرأُ
قراءة الإمام بالقراءات في الصلاة
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كذلكَ أُنزِلَت»، ثم قال: «اقرأ يا عمرُ»، فقرأتُ القراءةَ التي أَقرأَنِي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كذلكَ أُنزِلَت، إنّ هذا القرآنَ أُنزِلَ على سبعةِ أَحرُفٍ، فاقرَؤُوا ما تَيَسَّرَ مِنه» واللفظ للبخاري، وزاد مسلم: قال ابنُ شِهابٍ: بَلَغَنِي أنّ تلكَ السَّبعَ الأَحرُفَ إنّما هي في الأَمرِ الذي يكونُ واحِدًا لا يَختَلِفُ في حلالٍ ولا حرامٍ.
وأخرجه الإمام النَّسائي في "سُنَنه الكبرى" (2/ 150) وقال: "وقرأَ فيها حروفًا لم يكن نبيُّ اللهِ أَقرأَنِيها"، وفي "صحيح مسلم" عن أُبَيّ بنِ كَعبٍ رضي الله عنه قال: كنتُ في المسجد، فدخل رجلٌ فصلى، فقرأَ قراءةً أَنكَرتُها، ثم دخلَ آخَرُ، فقرأَ قراءةً سوى قراءةِ صاحبِه، فلما قضينا الصلاةَ دخلنا جميعًا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلتُ: إنّ هذا قرأ قراءةً أَنكَرتُها عليه، ودخل آخرُ فقرأ -وفي رواية: ثم قرأ هذا سوى قراءةِ صاحبِه-، فأمرَهما رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرآ
فحَسَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم شأنهما، فسقط في نَفسِي مِنَ التَّكذِيب ولا إذ كنتُ في الجاهلية، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قد غَشِيَنِي ضَرَبَ فِى صَدْرِى فَفِضْتُ عَرَقًا، وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَقًا، فقال: «يَا أُبَيُّ؛ إِنَّ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ: أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي. فَأَرْسَلَ إِلَيَّ: أَنِ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ. فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ: أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي. فَأَرْسَلَ إِلَيَّ: أَنِ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا»، فقلتُ: «اللهمّ اغفِر لأُمَّتِي، اللهمّ اغفر لأُمَّتِي، وأَخَّرتُ الثالثةَ ليَومٍ يَرغَبُ إليّ الخَلقُ كلُّهم حتى إبراهيمُ صلى الله عليه وآله وسلم».
الشك والتكذيب
وأخرجه الإمام أبو جعفر الطبري في أول "تفسيره" (1/ 38) بسنده عن أبيٍّ رضي الله عنه قال: دخلتُ المسجدَ فصليتُ فقرأتُ النحلَ، ثم جاء آخرُ فقرأها على غير قراءتي، ثم دخل رجلٌ آخر فقرأ بخلاف قراءتنا، فدخل في نفسي من الشك والتكذيب أشدُّ مما كان في الجاهلية، فأخذتُ بأيديهما فأتيتُ بهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله، استقرئ هذين. فقرأ أحدُهما فقال: «أصبتَ»، ثم استقرأ الآخرَ فقال: «أحسنتَ»، فدخل قلبي أشدُّ مما كان في الجاهلية من الشك والتكذيب، فضرب رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم صدري وقال: «أعاذكَ اللهُ مِن الشك وخَسأَ عنك الشيطان»، ففِضتُ عَرَقًا، فقال: «أتاني جبريلُ فقال: اقرأ القرآنَ على حَرفٍ واحدٍ، فقلتُ: إنَّ أُمَّتِي لا تستطيعُ ذلكَ، حتى قال سبع مرات، فقال لي: اقرأ على سبعةِ أَحرُفٍ».
قال العلامة ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (2/ 613): [إذا ثبتت القراءاتُ وتقيدت الحروفُ فليس يَلزَمُ أحدًا أن يقرأ بقراءة شخص واحد كنافع -مثلًا- أو عاصم، بل يجوز له أن يقرأ الفاتحة فيتلو حروفها على ثلاث قراءات مختلفات؛ لأن الكلَّ قرآن، ولا يلزم جَمعُه؛ إذ لم ينظمه الباري لرسوله، ولا قام دليل على التعبد، وإنما لزم الخلق بالدليل ألا يَتَعَدوا الثابتَ إلى ما لم يثبت، فأما تعيين الثابت في التلاوة فمسترسل على الثابت كله] اهـ.
قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (3/ 392): [قال أصحابنا وغيرهم: تجوز القراءةُ في الصلاة وغيرها بكل واحدة من القراءات السبع، ولا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة؛ لأنها ليست قرآنًا؛ فإن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وكلُّ واحدة من السبع متواترةٌ. هذا هو الصواب الذي لا يُعدَل عنه، ومَن قال غيرَه فغالِطٌ أو جاهل. وإذا قرأ بقراءة من السبع استُحِب أن يُتِمّ القراءةَ بها، فلو قرأ بعض الآيات بها وبعضها بغيرها من السبع جاز بشرط أن يكون ما قرأه بالثانية مرتبطا بالأولى] اهـ.
وفي "مجموع فتاوى ابن تيمية" (13/ 393): [كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءاتُ العشرة كثبوت هذه السبعة يجمعون في ذلك الكتب، و يقرؤونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء، لم ينكرها أحد منهم] اهـ.
الحواشي الفقهية
ومِن لطيف ما يُذكَر ويُستأنَس به في هذا المقام ما ذكره العلامة البيجوري الشافعي في "حاشيته الفقهية" في معرض الكلام على فاتحة الكتاب كركن من أركان الصلاة: [وكان بعض العلماء يقرأ في الركعة الأولى ﴿مَالِكِ﴾ بإثبات الأَلِف، وفي الثانية ﴿مَلِكِ﴾ بحذفها؛ لأنه يُسَنُّ تطويل الأولى عن الثانية ولو بحرف. اهـ. ووجه الاستئناس بهذا هو عمل العلماء أنفسهم بالقراءة بالقراءات المختلفة في الصلاة] اهـ.
وعليه: فإنه لا مانع للإمام المتقن للقراءات أن يقرأ بها في صلواته الجهرية التي يؤم فيها الناس، بل قد يكون مستحبًّا أو واجبًا إذا كان يترتب على ذلك الحفاظ على القرآن الكريم وإفهام الناس حقيقته وأوجه قراءاته المتواترة؛ لئلا يندرس هذا العلم، أو يكون حكرًا على خاصة الخاصة من الدارسين والأكاديميين
ولكن ينبغي على مثل هذا الإمام أن يتعهد المصلين بإفهامهم بما يناسب عقولهم بحقيقة القراءات القرآنية وجواز القراءة بها في الصلاة وغيرها؛ بحيث لا يحصل تشويش على جماعة المصلين بأن يقوم بعضهم بالفتح على الإمام عندما يقرأ ما لم يتعوده المأموم من قراءة أهل بلده التي اعتاد سماعَها والاستماعَ إليها، أو بأن ينكر هذه القراءة بالكلية فيقعَ في تكذيب كلام الله تعالى.
وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
إن المتأمل في الأحاديث النبوية الشريفة والسيرة المصطفوية المنيفة لَيَجِدُ الإجابة على هذا السؤال واضحة جلية؛ إذ فيها الإجابة على سبب تعدد القراءات القرآنية وبيانُ كون ذلك رحمة بالأمة، تَسَبَّبَ في جَلبها لها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم برحمته بأمته وشفقته الكبيرة عليهم، كيف لا وهو نبي الرحمة الرؤوف الرحيم، وفي السنة والسيرة أيضا وجود القراءة بالقراءات المختلفة بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وحدوث نوع التباس واستغراب لديهم إزالة تعليم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم.
وهذا يدل على أن حصول هذا الاستغراب لا يستوجب بمجرده ترك القراءة بالقراءات القرآنية المتواترة؛ ففي "الصحيحين" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَقرأَنِي جبريلُ عليه السلامُ على حَرفٍ واحِدٍ، فراجَعتُه، فلم أَزَل أَستَزِيدُه ويَزِيدُنا حتى انتَهى إلى سَبعةِ أَحرُفٍ»، وفيهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هِشامَ بن حَكِيمٍ يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستمعتُ لقراءته
فإذا هو يقرأ على حُرُوفٍ كثيرة لم يُقرِئنِيها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكِدتُ أُساوِرُه في الصلاة، فتَصَبَّرتُ حتى سَلَّمَ، فلَبَّبتُه برِدائه، فقلتُ: مَن أَقرأكَ هذه السورةَ التي سمعتُك تَقرأُ؟ قال: أَقرأَنِيها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلتُ: كَذَبتَ؛ فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أَقرأَنِيها على غير ما قرأتَ، فانطَلَقتُ به أَقُودُه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلتُ: إنِّي سمعتُ هذا يقرأُ سورةَ الفُرقانِ على حُرُوفٍ لم تُقرِئنِيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهشام: «اقرأ يا هشامُ»، فقرأ عليه القراءةَ التي سمعتُه يقرأُ
قراءة الإمام بالقراءات في الصلاة
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كذلكَ أُنزِلَت»، ثم قال: «اقرأ يا عمرُ»، فقرأتُ القراءةَ التي أَقرأَنِي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كذلكَ أُنزِلَت، إنّ هذا القرآنَ أُنزِلَ على سبعةِ أَحرُفٍ، فاقرَؤُوا ما تَيَسَّرَ مِنه» واللفظ للبخاري، وزاد مسلم: قال ابنُ شِهابٍ: بَلَغَنِي أنّ تلكَ السَّبعَ الأَحرُفَ إنّما هي في الأَمرِ الذي يكونُ واحِدًا لا يَختَلِفُ في حلالٍ ولا حرامٍ.
وأخرجه الإمام النَّسائي في "سُنَنه الكبرى" (2/ 150) وقال: "وقرأَ فيها حروفًا لم يكن نبيُّ اللهِ أَقرأَنِيها"، وفي "صحيح مسلم" عن أُبَيّ بنِ كَعبٍ رضي الله عنه قال: كنتُ في المسجد، فدخل رجلٌ فصلى، فقرأَ قراءةً أَنكَرتُها، ثم دخلَ آخَرُ، فقرأَ قراءةً سوى قراءةِ صاحبِه، فلما قضينا الصلاةَ دخلنا جميعًا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلتُ: إنّ هذا قرأ قراءةً أَنكَرتُها عليه، ودخل آخرُ فقرأ -وفي رواية: ثم قرأ هذا سوى قراءةِ صاحبِه-، فأمرَهما رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرآ
فحَسَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم شأنهما، فسقط في نَفسِي مِنَ التَّكذِيب ولا إذ كنتُ في الجاهلية، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قد غَشِيَنِي ضَرَبَ فِى صَدْرِى فَفِضْتُ عَرَقًا، وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَقًا، فقال: «يَا أُبَيُّ؛ إِنَّ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ: أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي. فَأَرْسَلَ إِلَيَّ: أَنِ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ. فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ: أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي. فَأَرْسَلَ إِلَيَّ: أَنِ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا»، فقلتُ: «اللهمّ اغفِر لأُمَّتِي، اللهمّ اغفر لأُمَّتِي، وأَخَّرتُ الثالثةَ ليَومٍ يَرغَبُ إليّ الخَلقُ كلُّهم حتى إبراهيمُ صلى الله عليه وآله وسلم».
الشك والتكذيب
وأخرجه الإمام أبو جعفر الطبري في أول "تفسيره" (1/ 38) بسنده عن أبيٍّ رضي الله عنه قال: دخلتُ المسجدَ فصليتُ فقرأتُ النحلَ، ثم جاء آخرُ فقرأها على غير قراءتي، ثم دخل رجلٌ آخر فقرأ بخلاف قراءتنا، فدخل في نفسي من الشك والتكذيب أشدُّ مما كان في الجاهلية، فأخذتُ بأيديهما فأتيتُ بهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله، استقرئ هذين. فقرأ أحدُهما فقال: «أصبتَ»، ثم استقرأ الآخرَ فقال: «أحسنتَ»، فدخل قلبي أشدُّ مما كان في الجاهلية من الشك والتكذيب، فضرب رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم صدري وقال: «أعاذكَ اللهُ مِن الشك وخَسأَ عنك الشيطان»، ففِضتُ عَرَقًا، فقال: «أتاني جبريلُ فقال: اقرأ القرآنَ على حَرفٍ واحدٍ، فقلتُ: إنَّ أُمَّتِي لا تستطيعُ ذلكَ، حتى قال سبع مرات، فقال لي: اقرأ على سبعةِ أَحرُفٍ».
قال العلامة ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (2/ 613): [إذا ثبتت القراءاتُ وتقيدت الحروفُ فليس يَلزَمُ أحدًا أن يقرأ بقراءة شخص واحد كنافع -مثلًا- أو عاصم، بل يجوز له أن يقرأ الفاتحة فيتلو حروفها على ثلاث قراءات مختلفات؛ لأن الكلَّ قرآن، ولا يلزم جَمعُه؛ إذ لم ينظمه الباري لرسوله، ولا قام دليل على التعبد، وإنما لزم الخلق بالدليل ألا يَتَعَدوا الثابتَ إلى ما لم يثبت، فأما تعيين الثابت في التلاوة فمسترسل على الثابت كله] اهـ.
قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (3/ 392): [قال أصحابنا وغيرهم: تجوز القراءةُ في الصلاة وغيرها بكل واحدة من القراءات السبع، ولا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة؛ لأنها ليست قرآنًا؛ فإن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وكلُّ واحدة من السبع متواترةٌ. هذا هو الصواب الذي لا يُعدَل عنه، ومَن قال غيرَه فغالِطٌ أو جاهل. وإذا قرأ بقراءة من السبع استُحِب أن يُتِمّ القراءةَ بها، فلو قرأ بعض الآيات بها وبعضها بغيرها من السبع جاز بشرط أن يكون ما قرأه بالثانية مرتبطا بالأولى] اهـ.
وفي "مجموع فتاوى ابن تيمية" (13/ 393): [كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءاتُ العشرة كثبوت هذه السبعة يجمعون في ذلك الكتب، و يقرؤونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء، لم ينكرها أحد منهم] اهـ.
الحواشي الفقهية
ومِن لطيف ما يُذكَر ويُستأنَس به في هذا المقام ما ذكره العلامة البيجوري الشافعي في "حاشيته الفقهية" في معرض الكلام على فاتحة الكتاب كركن من أركان الصلاة: [وكان بعض العلماء يقرأ في الركعة الأولى ﴿مَالِكِ﴾ بإثبات الأَلِف، وفي الثانية ﴿مَلِكِ﴾ بحذفها؛ لأنه يُسَنُّ تطويل الأولى عن الثانية ولو بحرف. اهـ. ووجه الاستئناس بهذا هو عمل العلماء أنفسهم بالقراءة بالقراءات المختلفة في الصلاة] اهـ.
وعليه: فإنه لا مانع للإمام المتقن للقراءات أن يقرأ بها في صلواته الجهرية التي يؤم فيها الناس، بل قد يكون مستحبًّا أو واجبًا إذا كان يترتب على ذلك الحفاظ على القرآن الكريم وإفهام الناس حقيقته وأوجه قراءاته المتواترة؛ لئلا يندرس هذا العلم، أو يكون حكرًا على خاصة الخاصة من الدارسين والأكاديميين
ولكن ينبغي على مثل هذا الإمام أن يتعهد المصلين بإفهامهم بما يناسب عقولهم بحقيقة القراءات القرآنية وجواز القراءة بها في الصلاة وغيرها؛ بحيث لا يحصل تشويش على جماعة المصلين بأن يقوم بعضهم بالفتح على الإمام عندما يقرأ ما لم يتعوده المأموم من قراءة أهل بلده التي اعتاد سماعَها والاستماعَ إليها، أو بأن ينكر هذه القراءة بالكلية فيقعَ في تكذيب كلام الله تعالى.