هل يجوز قبول تبرعات غير المسلمين لبناء المساجد؟.. دار الإفتاء تجيب
ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه "هل يجوز قبول تبرعات غير المسلم لبناء المساجد؟"، وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
قال فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة بأنه: تجوز الهبة والوصية من غير المسلم للمسلم؛ باعتبارها من عقود التبرعات والصِّلات التي تجوز بين الأديان ما دامت لغير معصية.
وقد نص فقهاء الشافعية صراحةً على جواز وصية غير المسلم لبناء مسجدٍ للمسلمين، ولما كانت الوصية من عقود التبرعات وكانت جائزةً من غير المسلم لبناء مسجدٍ للمسلمين؛ كان تبرع الأقباط لبناء المساجد جائزًا شرعًا.
صلاة أصحاب الأمراض الجلدية بالمسجد
كما ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه "ما هو حكم الشرع في المصلين الذين يرتادون المساجد وهم مرضى بالأمراض المعدية مما يؤدي إلى انتشار المرض بين المصلين كما ينتشر النار في الهشيم؟"، وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
راعى الدين الإسلامي حياة المسلمين وصحتهم، ونهى الناس أن يقتلوا أنفسهم؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَار» رواه ابن ماجه.
ومن القواعد الفقهية المقررة أنه: "يُرتكب الضرر الأخف لدفعِ الضرر الأعظم"؛ فالمسلم إذا كان مريضًا بمرضٍ معدٍ يجلب الأمراض لغيره يجب عليه أن يتجنب مخالطة الناس حتى لا ينتشر المرض بينهم، وعليه أن يصلي في بيته حتى يعافيه الله تعالى من مرضه، ولا حرج عليه في ذلك؛ لما جاء في الحديث «إِذَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِأَرْضٍ فَلا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا» رواه أحمد. وهو ما يعرف بـ"الحجر الصحي".
وإذا كان أكلُ ذي الريح الكريه من أعذار ترك الجماعة دفعًا للأذى عن المصلين، فترك الجماعة لأجل خوف نقل الأمراض المعدية وتأذي المصلين بها أولى.
درجة الانحراف المسموح بها في القبلة
كما ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه: "ما هي درجة الانحراف المسموح بها في القبلة؟ حيث إن المسجد قائم، والقبلة فيه تنحرف 13 درجة يمينًا؟"، وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
استقبال القبلة حال الصلاة واجب مأمور به في قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 144].
والمقصود من استقبال القبلة التوجه إلى عين الكعبة لمن كان في المسجد الحرام، والتوجه إلى المسجد الحرام لمن كان في مكة، والتوجه إلى مكة لمن كان خارجها، كما روى البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 9، ط. مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند) عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «البيت قبلةٌ لأهل المسجد، والمسجد قبلةٌ لأهل الحرم، والحرم قبلةٌ لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها مِن أمتي».
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "شرح العمدة" (1/ 537، ط. دار العاصمة): [والمسجد الحرام: اسم للحرم كله، وشطرُه: نحوُه واتجاهُه، فعُلِم أن الواجب توليةُ الوجه إلى نحو الحرم، والنحوُ: هو الجهة بعينها، ثم قال بعد ذلك: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ [البقرة: 148]، والوِجهةُ: الجهةُ، فعُلِمَ أن الواجب تَوَلِّي جهةِ المسجد الحرام] اهـ.
وقال العلَّامة الشهاب الخفاجي في "حاشيته على تفسير البيضاوي"(2/ 253، ط. بولاق): [لا خلاف في أن حاضر الكعبة إنما يتوجه إلى عينها، وإنما الخلاف في البعيد: هل يلزمه التوجه إلى عينها، أو يكفي التوجه إلى جهتها، وهو المختار للفتوى، وأدلة كل من الفريقين مبسوطة في الفروع، والمصنف رحمه الله اختار الثاني، واستدل عليه بذكر المسجد دون الكعبة، وكذا الشطر] اهـ.
والذي عليه العمل والفتوى: أن من بَعُد عن الكعبة فإنه يكفيه التَّوَجهُ إلى جهتها؛ لِما رواه ابن أبي شيبة والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا بَيْنَ المشرِقِ والمغرِب قِبْلَةٌ»، وقد صححه الترمذي، وقوَّاه الإمام البخاري. ورواه أيضًا الدارقطني في "السنن"، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "السنن الكبرى" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
ولِمَا رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي أيوبَ الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا أَتَيْتمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا»، وبوَّب الإمام البخاري في "صحيحه" بقوله: (باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق، وليس في المشرق ولا في المغرب قبلة؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، وَلكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا»).
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "فتح الباري شرح صحيح البخاري" (2/ 289، ط. دار ابن الجوزي): [مقصودُه بهذا الباب: أن أهل المدينة ومن كان قريبًا مِن مسامتهم كأهل الشام والعراق، فإن قبلتهم ما بين المشرق والمغرب من جهة الكعبة، وأن المشرق والمغرب ليس قبلة لهم، وما بينهما فهو لهم قبلة] اهـ.
وهذا هو المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم قولًا وعملًا؛ فأخرج الإمام مالك في "الموطأ"، وابن أبي شيبة في "المصنف"، والبيهقي في "السنن الكبرى" عن عمر رضي الله عنه قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا تَوجَّهْتَ قِبَلَ البيت".
وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إذا جَعلْتَ المغربَ عن يمينكَ والمشرقَ عن يساركَ فما بينهما قبلةٌ لأهل الشَّمال".
وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" عن علي وابن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا: "مَا بَيْنَ المشرِقِ والمغرِب قِبْلَةٌ".
وأخرج الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 59، ط. دار القرطبة) من طريق أبي بكر الأثرم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: "كيف يُخطِئُ الرجلُ الصلاةَ وما بين المشرق والمغرب قبلةٌ، ما لم يَتَحَرَّ الشرقَ عمدًا".
قال الحافظ ابن رجب في "فتح الباري" (2/ 291): [ولا يُعْرَفُ عن صحابي خلافُ ذلك] اهـ. وقال أيضًا (2/ 294): [ويدل على ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لَمَّا فتحوا الأمصار وضعوا قِبَلَ كثيرٍ منها على الجهة؛ بحيث لا يطابق ذلك سمت العين على الوجه الذي يعرفه أهل الحساب، وصَلَّوْا إليها، وأجمع المسلمون بعدهم على الصلاة إليها، وهذا يدل على أن تحرير حساب مسامتة العين ليس هو الأفضل، فضلًا عن أن يكون واجبًا، ولهذا لَمَّا خالف في ذلك كثير من الفقهاء المتأخرين، واستحبوا مراعاة العين أو أوجبوه، واستدلوا على ذلك بالنجوم ونحوها، رأوا أن كثيرًا مِن قِبَل البلدان منحرفةٌ عن القبلة، فأوجب لهم ذلك الحيرة والشك في حال سلف الأمة من الصحابة ومن بعدهم] اهـ.
وعلى ذلك نص جمهور الفقهاء من علماء المذاهب المتبوعة: قال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار على الدر المختار" (1/ 430، ط. دار الفكر): [فعُلِمَ أن الانحراف اليسير لا يضر، وهو الذي يبقى معه الوجه أو شيء من جوانبه مسامتًا لعين الكعبة أو لهوائها، بأن يخرج الخط من الوجه أو من بعض جوانبه ويمر على الكعبة أو هوائها مستقيمًا، ولا يلزم أن يكون الخط الخارج على استقامة خارجًا من جبهة المصلي، بل منها أو من جوانبها كما دل عليه قول الدرر من جبين المصلي، فإن الجبين طرف الجبهة وهما جبينان، وعلى ما قررناه يحمل ما في الفتح والبحر عن الفتاوى من أن الانحراف المفسد أن يجاوز المشارق إلى المغارب، فهذا غاية ما ظهر لي في هذا المحل، والله تعالى أعلم] اهـ.
وقال الحافظ ابن عبد البر المالكي في "التمهيد" (17/ 85): [وكذلك يشهد النظرُ لقول مَن قال في المنحرِف عن القبلة يمينًا أو شمالًا ولم يكن انحرافُه ذلك فاحشًا فيُشرِّقَ أو يُغَرِّبَ: إنه لا شيء عليه؛ لأن السعة في القبلة لأهل الآفاق مبسوطة مسنونة، وهذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقول أصحابه: «ما بين المشرق والمغرب قبلة»] اهـ.
وقال العلامة الدردير في "الشرح الكبير" (1/ 227): [والانحراف الكثير أن يشرق أو يغرِّب، نصَّ عليه في المدونة] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "فتح الباري" (2/ 292): [قال أحمد في رواية جعفر بن محمد: بين المشرق والمغرب قبلة، ولا يبالي مغرب الصيف ولا مغرب الشتاء، إذا صلى بينهما فصلاته صحيحة جائزة، إلا أنَّا نستحب أن يتوسط القبلة ويجعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره يكون وسطًا بين ذلك، وإن هو صلى فيما بينهما وكان إلى أحد الشقين أميل فصلاته تامة، إذا كان بين المشرق والمغرب ولم يخرج بينهما] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية في "شرح العمدة" (1/ 537): [والرواية الثانية: ما ذكره الشيخ رحمه الله أن فرضَه إصابةُ الجهة، فلو تيامن أو تياسر شيئًا يسيرًا ولم يخرج عن الجهة جاز، وأكثرُ الروايات عن أحمد تدل على هذا، وهذا اختيار الخِرَقِي وجماهير أصحابنا] اهـ.
وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (2/ 9 ط. دار إحياء التراث العربي): [وإصابةُ الجهةِ لِمَنْ بَعُدَ عنها، وهذا المذهبُ، نص عليه، وعليه جمهورُ الأصحاب، وهو المعمولُ به في المذهب] اهـ.
أما الشافعية فيُحكَى عنهم في هذه المسألة قولان: القول الأول: أنه يلزم الاجتهاد في إصابة عين القبلة، وهذا هو الأظهر عندهم، ويُنسَب أيضًا لابن القَصَّار من المالكية، والقول الثاني: أن التوجه إلى جهة القبلة كافٍ في استقبالها.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "المهذَّب في فقه الشافعي" (3/ 205، ط. دار الفكر): [وفي فرضه أي الغائب عن مكة قولان: قال في الأم: فرضُه إصابةُ العين؛ لأن من لزمه فرضُ القبلة لزمه إصابة العين كالمكي. وظاهر ما نقله المزني: أن الفرضَ هو الجهة؛ لأنه لو كان الفرض هو العين لَمَا صحت صلاة الصف الطويل؛ لأن فيهم مَن يَخرُج عن العين] اهـ.
وكلام إمام الحرمين في "نهاية المطلب" (2/ 103-105، ط. دار المنهاج) واعتمده حجة الإسلام الغزالي يشير إلى أن الخلاف لا يتحقق في البعيد عن الكعبة، ولذلك قطع الإمام البيضاوي الشافعي في "تفسيره" بالرواية التي توافق مذهب الجمهور؛ فقال (1/ 420، ط. دار الفكر): [وإنما ذكر المسجد دون الكعبة لأن عليه الصلاة والسلام كان في المدينة، والبعيدُ يكفيه مراعاةُ الجهةِ؛ فإن استقبالَ عينِها حرجٌ عليه، بِخلاف القريب] اهـ.
ونقل الإمام الرافعي في "العزيز شرح الوجيز" (1/ 457، ط. دار الكتب العلمية) عن إمام الحرمين والغزالي: [أن البصير بأدلة القبلة يجعل التفات البعيد وانحرافه على درجتين: إحداهما: الانحراف السالب لاسم الاستقبال وهو الكثير منه، وأن يولي الكعبة يمينه أو يساره. والثانية: الانحراف الذي لا يسلب اسم الاستقبال] اهـ.
والذي عليه المحققون أنه لا يتحصل خلافٌ حقيقيٌّ بين مَن قال: إن فرض البعيد عن الكعبة هو استقبال الجهة، ومَن قال: إن فرضه استقبال العين؛ وذلك لوجهين:
الأول: في المتوجِّه، وهو أن استقبال الإنسان للشيء لا يُشتَرَط أن يكون بمنتصف وجهه ومنتصف بدنه، بل إذا انحرف يسيرًا فإنه لا يخرج عن أن يكون مُستقبِلًا لعينه أيضًا.
والثاني: في المتوجَّه إليه، فإن الجميع متفقون على أن إصابة عين القبلة دون أي انحراف ليس شرطًا لصحة صلاة البعيد عن الكعبة؛ لأن هذا ليس في مقدور المكلَّف أصلًا.
ولذلك اتفقوا على صحة صلاة الصف الطويل المستقيم الذي لا انحناء فيه ولا تَقَوُّسَ، حتى وإن زاد طولُه على طول الكعبة أضعافًا مضاعفة، وهذا يقتضي أن ثمرة الخلاف لا تظهر إلا في نية التوجه: هل تكون للجهة أو للعين؟ قال إمام الحرمين في كتاب "نهاية المطلب في دراية المذهب" (2/ 103): [ظهر اختلاف أئمتنا في أن مطلوب المجتهد عين الكعبة أو جهتها، وهذا فيه إشكال؛ فإن المجتهد إذا كان على مسافة بعيدة فكيف يتأتى منه إصابةُ مسامتة عين الكعبة؟ وكيف يُقَدَّر هذا مطلوبًا لطالب؟ والطلب إنما يتعلق بما يمكن الوصول إليه. وكان شيخي -يعني والدَه الإمام أبا محمد الجويني [ت: 438هـ]- يقول: محلُّ هذا الاختلاف يؤول إلى أن المجتهد يربط فكره في طلبه بجهة الكعبة أو عينها] اهـ.
وقال العلامة شيخ زاده الحنفي في "حاشيته على تفسير البيضاوي" (1/ 455، ط. مكتبة الحقيقة): [والمقصود من نقل هذه المقالات بيانُ أن الأئمة الحنفية والشافعية متفقون على أن القبلة في حق من عاين البيت هي عين البيت، وفي حق من غاب عنه وبَعُدَ هي سمت البيت، ولا يخالف الجمهورَ في هذه المسألة إلا أبو عبد الله الجرجاني، ويؤيده قول المصنف: والبعيد يكفيه مراعاة الجهة، بخلاف القريب؛ فإنه من العلماء الشافعية وقد صرح بالوفاق] اهـ.
وحقق ذلك تحقيقًا لا مزيد عليه الشيخُ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (22/ 206-210، ط. دار الوفاء)؛ حيث يقول: [لا نزاع بين العلماء في الواجب من ذلك، والنزاع بين القائلين بالجهة والعين لا حقيقة له، ومن قال: يجتهد أن يصلي إلى جهة الكعبة أو فرضُه استقبال القبلة فقد أصاب؛ وذلك أنهم متفقون على أن مَن شاهَدَ الكعبةَ فإنه يصلي إليها، ومتفقون على أنه كلما قرب المصلون إليها كان صفهم أقصر من البعيدين عنها، وهذا شأنُ كلِّ ما يُستَقْبَل، فالصف القريب منها لا يزيد طوله على قدر الكعبة، ولو زاد لكان الزائد مصليًا إلى غير الكعبة، والصف الذي خلفه يكون أطول منه وهلم جرًّا.
ولو كان الصف طويلًا يزيد طوله على قدر الكعبة صحت صلاتهم باتفاق المسلمين وإن كان الصف مستقيمًا حيث لم يشاهدوها، فمن توهم أن الفرض أن يقصد المصلي الصلاة في مكان لو سار على خط مستقيم وصل إلى عين الكعبة فقد أخطأ، ومن فسر وجوب الصلاة إلى العين بهذا وأوجب هذا فقد أخطأ، فهذا القول خطأ خالف نص الكتاب والسنة وإجماع السلف، بل وإجماع الأمة؛ فإن الأمة متفقة على صحة صلاة الصف المستطيل الذي يزيد طوله على سمت الكعبة بأضعاف مضاعفة وإن كان الصف مستقيمًا لا انحناء فيه ولا تقوس.
فإن قيل: مع البعد لا يُحتاج إلى الانحناء والتقوس كما يُحتاج إليه في القرب، كما أن الناس إذا استقبلوا الهلال أو الشمس أو جبلًا من الجبال فإنهم يستقبلونه مع كثرتهم وتفرقهم، ولو كان قريبًا لم يستقبلوه إلا مع القلة والاجتماع. قيل: لا ريب أنه ليس الانحناء والتقوس في البعد بقدر الانحناء والتقوس في القرب؛ بل كلما زاد البعد قل الانحناء، وكلما قرب كثر الانحناء، حتى يكون أعظم الناس انحناءً وتقوسًا الصف الذي يلي الكعبة، ولكن مع هذا فلا بد من التقوس والانحناء في البعد إذا كان المقصود أن يكون بينه وبينها خط مستقيم بحيث لو مشى إليه لوصل إليها، لكن يكون التقوس شيئًا يسيرًا جدًّا، كما قيل إنه إذا قُدِّرَ الصفُّ ميلًا وهو مثلًا في الشام كان الانحناء من كل واحد بقدر شعيرة، فإن هذا ذكره بعض من نص على وجوب استقبال العين، وقال: إن مثل هذا التقوس اليسير يُعْفَى عنه.
فيقال له: فهذا معنى قولنا: إن الواجب استقبال الجهة، وهو العفو عن وجوب تَحَرِّي مثلِ هذا التقوس والانحناء، فصار النزاع لفظيًّا لا حقيقة له. فالمقصود أن مَن صلى إلى جهتها فهو مُصَلٍّ إلى عينها وإن كان ليس عليه أن يتحرى مثل هذا، ولا يقال لمن صلى كذلك: إنه مخطئ في الباطن معفو عنه، بل هذا مستقبل القبلة باطنًا وظاهرًا، وهذا هو الذي أُمِرَ به، ولهذا لما بنى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مساجد الأمصار كان في بعضها ما لو خرج منه خط مستقيم إلى الكعبة لكان منحرفًا وكانت صلاة المسلمين فيه جائزة باتفاق المسلمين] اهـ بتصرف يسير.
وقال أيضًا في "شرح العمدة" (1/ 539-540): [وأيضًا فإنهم أجمعوا على صحة صلاة الصف المستطيل الزائدِ طولُه على سمت الكعبة مع استقامته، بل على صحة صلاة أهل البلد الذي فيه مساجدُ كثيرةٌ تُصَلِّي كلُّها إلى جهة واحدة، مع أنها يمتنع أن تكون قبلتُها على خط مستقيم وهي كلها على سمت عين الكعبة. فإن قيل: مع البعد تَحصُل المواجهةُ والمحاذاةُ لكل واحد مع كثرة المحاذين وطول صفهم؛ لأن المحاذي مع البعد وإن احتاج إلى تَقَوُّسٍ وانحناءٍ فهو مع البعد شيء يسير لا يُضبَطُ مثلُه.
قلنا: لو كان المفروضُ محاذاةَ نفسِ العين لوجب مراعاة ذلك الشيء اليسير من الانحناء مع القدرة وأن لا يُتَعَمَّدَ تركُه كما في القريب، فمتى سُلِّمَ جوازُ تعمدِ تركِه فلا يُعنَى باستقبال جهة الكعبة إلا ذلك، فيرتفع الخلاف، وهذا المعنى هو الفارق بين القريب والبعيد؛ فإن البُعْدَ إذا طال يكون المستقبِل للجهة والعين متقاربين جدًّا حتى لا يكاد يُمَيَّزُ بينهما، ومثل هذا يُعفَى عنه كما عفونا عن سائر الشرائط عما يَشق مراعاتُه، مثل يسير النجاسة، ويسير العورة، والتقدم اليسير بالنية، وشبه ذلك؛ فإن الدين أيسرُ مِن تَكَلُّفِ هذا] اهـ.
وعلى ذلك: فلا معنى للخلاف في هذه المسألة أصلًا، ولو فُرِضَ فيها خلافٌ فإنها تكون بذلك من المسائل الاجتهادية التي لا إنكار فيها؛ لأنه لا يُنكَر المختلف فيه وإنما يُنكَر المتفق عليه، والأصل حمل عبادات المسلمين ومعاملاتهم على الصحة مهما أمكن ذلك، فإذا كان في المسألة قول يوافق ما عليه عمل الناس فليس من الفقه حملهم على غيره، وليس من شأن الفقيه أو المفتي أن يعمد إلى أعراف الناس متقصدًا تغييرها ما دام أن لها وجهًا من النظر الفقهي، فكيف إذا كان هذا العرف هو ما عليه عمل المسلمين في الأمصار والأعصار؟! ولذلك أنكر العلماء على من أمر بهدم القبلة التي لم يُرَاعَ فيها استقبال عين الكعبة.
قال الحافظ ابن رجب في "فتح الباري" (2/ 294): [وقد أوجب بعضُهم مراعاةَ ذلك -أي مراعاة عين القبلة- وأمر بهدم كل قبلة موضوعة على خلافه، كما ذكره حرب الكرماني، وهذا يُفضي إلى تضليل سلف الأمة، والطعن في صلاتهم] اهـ.
وإنما كان ما بين المشرق والمغرب هو القبلة في حق أهل المدينة؛ لأنهم شمال مكة وحقهم أن يتوجهوا جنوبًا، والانحراف الكثير عنها أن يُشَرِّقوا أو يُغَرِّبُوا، والجهات أربعٌ، تمثل كلُّ جهة ربعَ الدائرة الكاملة وهي 90 درجة، وهذا يعني أن جهة القبلة هي ربع الدائرة، وما دام المصلي في حدوده فإنه مستقبلٌ للقبلة، وعلى ذلك فيصير الانحراف المسموح به عن سمت الكعبة هو 45 درجة يمينًا ومثلُها شمالًا.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فالنسبة المذكورة داخلة في الحد المسموح به في اتجاه القبلة شرعًا، وحينئذٍ فلا يسمَّى ذلك انحرافًا عن التوجه للقبلة، ويصدق عليكم بذلك أنكم مستقبلون للقبلة شرعًا، وعلى القائمين على المسجد إبقاء الوضع على ما هو عليه؛ استغلالًا لمساحة المسجد كلها، واستغلالًا لمحرابه، ولا يلزمكم تغييرُ الاتجاه الحالي.
قال فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة بأنه: تجوز الهبة والوصية من غير المسلم للمسلم؛ باعتبارها من عقود التبرعات والصِّلات التي تجوز بين الأديان ما دامت لغير معصية.
وقد نص فقهاء الشافعية صراحةً على جواز وصية غير المسلم لبناء مسجدٍ للمسلمين، ولما كانت الوصية من عقود التبرعات وكانت جائزةً من غير المسلم لبناء مسجدٍ للمسلمين؛ كان تبرع الأقباط لبناء المساجد جائزًا شرعًا.
صلاة أصحاب الأمراض الجلدية بالمسجد
كما ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه "ما هو حكم الشرع في المصلين الذين يرتادون المساجد وهم مرضى بالأمراض المعدية مما يؤدي إلى انتشار المرض بين المصلين كما ينتشر النار في الهشيم؟"، وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
راعى الدين الإسلامي حياة المسلمين وصحتهم، ونهى الناس أن يقتلوا أنفسهم؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَار» رواه ابن ماجه.
ومن القواعد الفقهية المقررة أنه: "يُرتكب الضرر الأخف لدفعِ الضرر الأعظم"؛ فالمسلم إذا كان مريضًا بمرضٍ معدٍ يجلب الأمراض لغيره يجب عليه أن يتجنب مخالطة الناس حتى لا ينتشر المرض بينهم، وعليه أن يصلي في بيته حتى يعافيه الله تعالى من مرضه، ولا حرج عليه في ذلك؛ لما جاء في الحديث «إِذَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِأَرْضٍ فَلا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا» رواه أحمد. وهو ما يعرف بـ"الحجر الصحي".
وإذا كان أكلُ ذي الريح الكريه من أعذار ترك الجماعة دفعًا للأذى عن المصلين، فترك الجماعة لأجل خوف نقل الأمراض المعدية وتأذي المصلين بها أولى.
درجة الانحراف المسموح بها في القبلة
كما ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه: "ما هي درجة الانحراف المسموح بها في القبلة؟ حيث إن المسجد قائم، والقبلة فيه تنحرف 13 درجة يمينًا؟"، وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
استقبال القبلة حال الصلاة واجب مأمور به في قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 144].
والمقصود من استقبال القبلة التوجه إلى عين الكعبة لمن كان في المسجد الحرام، والتوجه إلى المسجد الحرام لمن كان في مكة، والتوجه إلى مكة لمن كان خارجها، كما روى البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 9، ط. مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند) عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «البيت قبلةٌ لأهل المسجد، والمسجد قبلةٌ لأهل الحرم، والحرم قبلةٌ لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها مِن أمتي».
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "شرح العمدة" (1/ 537، ط. دار العاصمة): [والمسجد الحرام: اسم للحرم كله، وشطرُه: نحوُه واتجاهُه، فعُلِم أن الواجب توليةُ الوجه إلى نحو الحرم، والنحوُ: هو الجهة بعينها، ثم قال بعد ذلك: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ [البقرة: 148]، والوِجهةُ: الجهةُ، فعُلِمَ أن الواجب تَوَلِّي جهةِ المسجد الحرام] اهـ.
وقال العلَّامة الشهاب الخفاجي في "حاشيته على تفسير البيضاوي"(2/ 253، ط. بولاق): [لا خلاف في أن حاضر الكعبة إنما يتوجه إلى عينها، وإنما الخلاف في البعيد: هل يلزمه التوجه إلى عينها، أو يكفي التوجه إلى جهتها، وهو المختار للفتوى، وأدلة كل من الفريقين مبسوطة في الفروع، والمصنف رحمه الله اختار الثاني، واستدل عليه بذكر المسجد دون الكعبة، وكذا الشطر] اهـ.
والذي عليه العمل والفتوى: أن من بَعُد عن الكعبة فإنه يكفيه التَّوَجهُ إلى جهتها؛ لِما رواه ابن أبي شيبة والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا بَيْنَ المشرِقِ والمغرِب قِبْلَةٌ»، وقد صححه الترمذي، وقوَّاه الإمام البخاري. ورواه أيضًا الدارقطني في "السنن"، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "السنن الكبرى" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
ولِمَا رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي أيوبَ الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا أَتَيْتمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا»، وبوَّب الإمام البخاري في "صحيحه" بقوله: (باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق، وليس في المشرق ولا في المغرب قبلة؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، وَلكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا»).
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "فتح الباري شرح صحيح البخاري" (2/ 289، ط. دار ابن الجوزي): [مقصودُه بهذا الباب: أن أهل المدينة ومن كان قريبًا مِن مسامتهم كأهل الشام والعراق، فإن قبلتهم ما بين المشرق والمغرب من جهة الكعبة، وأن المشرق والمغرب ليس قبلة لهم، وما بينهما فهو لهم قبلة] اهـ.
وهذا هو المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم قولًا وعملًا؛ فأخرج الإمام مالك في "الموطأ"، وابن أبي شيبة في "المصنف"، والبيهقي في "السنن الكبرى" عن عمر رضي الله عنه قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا تَوجَّهْتَ قِبَلَ البيت".
وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إذا جَعلْتَ المغربَ عن يمينكَ والمشرقَ عن يساركَ فما بينهما قبلةٌ لأهل الشَّمال".
وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" عن علي وابن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا: "مَا بَيْنَ المشرِقِ والمغرِب قِبْلَةٌ".
وأخرج الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 59، ط. دار القرطبة) من طريق أبي بكر الأثرم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: "كيف يُخطِئُ الرجلُ الصلاةَ وما بين المشرق والمغرب قبلةٌ، ما لم يَتَحَرَّ الشرقَ عمدًا".
قال الحافظ ابن رجب في "فتح الباري" (2/ 291): [ولا يُعْرَفُ عن صحابي خلافُ ذلك] اهـ. وقال أيضًا (2/ 294): [ويدل على ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لَمَّا فتحوا الأمصار وضعوا قِبَلَ كثيرٍ منها على الجهة؛ بحيث لا يطابق ذلك سمت العين على الوجه الذي يعرفه أهل الحساب، وصَلَّوْا إليها، وأجمع المسلمون بعدهم على الصلاة إليها، وهذا يدل على أن تحرير حساب مسامتة العين ليس هو الأفضل، فضلًا عن أن يكون واجبًا، ولهذا لَمَّا خالف في ذلك كثير من الفقهاء المتأخرين، واستحبوا مراعاة العين أو أوجبوه، واستدلوا على ذلك بالنجوم ونحوها، رأوا أن كثيرًا مِن قِبَل البلدان منحرفةٌ عن القبلة، فأوجب لهم ذلك الحيرة والشك في حال سلف الأمة من الصحابة ومن بعدهم] اهـ.
وعلى ذلك نص جمهور الفقهاء من علماء المذاهب المتبوعة: قال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار على الدر المختار" (1/ 430، ط. دار الفكر): [فعُلِمَ أن الانحراف اليسير لا يضر، وهو الذي يبقى معه الوجه أو شيء من جوانبه مسامتًا لعين الكعبة أو لهوائها، بأن يخرج الخط من الوجه أو من بعض جوانبه ويمر على الكعبة أو هوائها مستقيمًا، ولا يلزم أن يكون الخط الخارج على استقامة خارجًا من جبهة المصلي، بل منها أو من جوانبها كما دل عليه قول الدرر من جبين المصلي، فإن الجبين طرف الجبهة وهما جبينان، وعلى ما قررناه يحمل ما في الفتح والبحر عن الفتاوى من أن الانحراف المفسد أن يجاوز المشارق إلى المغارب، فهذا غاية ما ظهر لي في هذا المحل، والله تعالى أعلم] اهـ.
وقال الحافظ ابن عبد البر المالكي في "التمهيد" (17/ 85): [وكذلك يشهد النظرُ لقول مَن قال في المنحرِف عن القبلة يمينًا أو شمالًا ولم يكن انحرافُه ذلك فاحشًا فيُشرِّقَ أو يُغَرِّبَ: إنه لا شيء عليه؛ لأن السعة في القبلة لأهل الآفاق مبسوطة مسنونة، وهذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقول أصحابه: «ما بين المشرق والمغرب قبلة»] اهـ.
وقال العلامة الدردير في "الشرح الكبير" (1/ 227): [والانحراف الكثير أن يشرق أو يغرِّب، نصَّ عليه في المدونة] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "فتح الباري" (2/ 292): [قال أحمد في رواية جعفر بن محمد: بين المشرق والمغرب قبلة، ولا يبالي مغرب الصيف ولا مغرب الشتاء، إذا صلى بينهما فصلاته صحيحة جائزة، إلا أنَّا نستحب أن يتوسط القبلة ويجعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره يكون وسطًا بين ذلك، وإن هو صلى فيما بينهما وكان إلى أحد الشقين أميل فصلاته تامة، إذا كان بين المشرق والمغرب ولم يخرج بينهما] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية في "شرح العمدة" (1/ 537): [والرواية الثانية: ما ذكره الشيخ رحمه الله أن فرضَه إصابةُ الجهة، فلو تيامن أو تياسر شيئًا يسيرًا ولم يخرج عن الجهة جاز، وأكثرُ الروايات عن أحمد تدل على هذا، وهذا اختيار الخِرَقِي وجماهير أصحابنا] اهـ.
وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (2/ 9 ط. دار إحياء التراث العربي): [وإصابةُ الجهةِ لِمَنْ بَعُدَ عنها، وهذا المذهبُ، نص عليه، وعليه جمهورُ الأصحاب، وهو المعمولُ به في المذهب] اهـ.
أما الشافعية فيُحكَى عنهم في هذه المسألة قولان: القول الأول: أنه يلزم الاجتهاد في إصابة عين القبلة، وهذا هو الأظهر عندهم، ويُنسَب أيضًا لابن القَصَّار من المالكية، والقول الثاني: أن التوجه إلى جهة القبلة كافٍ في استقبالها.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "المهذَّب في فقه الشافعي" (3/ 205، ط. دار الفكر): [وفي فرضه أي الغائب عن مكة قولان: قال في الأم: فرضُه إصابةُ العين؛ لأن من لزمه فرضُ القبلة لزمه إصابة العين كالمكي. وظاهر ما نقله المزني: أن الفرضَ هو الجهة؛ لأنه لو كان الفرض هو العين لَمَا صحت صلاة الصف الطويل؛ لأن فيهم مَن يَخرُج عن العين] اهـ.
وكلام إمام الحرمين في "نهاية المطلب" (2/ 103-105، ط. دار المنهاج) واعتمده حجة الإسلام الغزالي يشير إلى أن الخلاف لا يتحقق في البعيد عن الكعبة، ولذلك قطع الإمام البيضاوي الشافعي في "تفسيره" بالرواية التي توافق مذهب الجمهور؛ فقال (1/ 420، ط. دار الفكر): [وإنما ذكر المسجد دون الكعبة لأن عليه الصلاة والسلام كان في المدينة، والبعيدُ يكفيه مراعاةُ الجهةِ؛ فإن استقبالَ عينِها حرجٌ عليه، بِخلاف القريب] اهـ.
ونقل الإمام الرافعي في "العزيز شرح الوجيز" (1/ 457، ط. دار الكتب العلمية) عن إمام الحرمين والغزالي: [أن البصير بأدلة القبلة يجعل التفات البعيد وانحرافه على درجتين: إحداهما: الانحراف السالب لاسم الاستقبال وهو الكثير منه، وأن يولي الكعبة يمينه أو يساره. والثانية: الانحراف الذي لا يسلب اسم الاستقبال] اهـ.
والذي عليه المحققون أنه لا يتحصل خلافٌ حقيقيٌّ بين مَن قال: إن فرض البعيد عن الكعبة هو استقبال الجهة، ومَن قال: إن فرضه استقبال العين؛ وذلك لوجهين:
الأول: في المتوجِّه، وهو أن استقبال الإنسان للشيء لا يُشتَرَط أن يكون بمنتصف وجهه ومنتصف بدنه، بل إذا انحرف يسيرًا فإنه لا يخرج عن أن يكون مُستقبِلًا لعينه أيضًا.
والثاني: في المتوجَّه إليه، فإن الجميع متفقون على أن إصابة عين القبلة دون أي انحراف ليس شرطًا لصحة صلاة البعيد عن الكعبة؛ لأن هذا ليس في مقدور المكلَّف أصلًا.
ولذلك اتفقوا على صحة صلاة الصف الطويل المستقيم الذي لا انحناء فيه ولا تَقَوُّسَ، حتى وإن زاد طولُه على طول الكعبة أضعافًا مضاعفة، وهذا يقتضي أن ثمرة الخلاف لا تظهر إلا في نية التوجه: هل تكون للجهة أو للعين؟ قال إمام الحرمين في كتاب "نهاية المطلب في دراية المذهب" (2/ 103): [ظهر اختلاف أئمتنا في أن مطلوب المجتهد عين الكعبة أو جهتها، وهذا فيه إشكال؛ فإن المجتهد إذا كان على مسافة بعيدة فكيف يتأتى منه إصابةُ مسامتة عين الكعبة؟ وكيف يُقَدَّر هذا مطلوبًا لطالب؟ والطلب إنما يتعلق بما يمكن الوصول إليه. وكان شيخي -يعني والدَه الإمام أبا محمد الجويني [ت: 438هـ]- يقول: محلُّ هذا الاختلاف يؤول إلى أن المجتهد يربط فكره في طلبه بجهة الكعبة أو عينها] اهـ.
وقال العلامة شيخ زاده الحنفي في "حاشيته على تفسير البيضاوي" (1/ 455، ط. مكتبة الحقيقة): [والمقصود من نقل هذه المقالات بيانُ أن الأئمة الحنفية والشافعية متفقون على أن القبلة في حق من عاين البيت هي عين البيت، وفي حق من غاب عنه وبَعُدَ هي سمت البيت، ولا يخالف الجمهورَ في هذه المسألة إلا أبو عبد الله الجرجاني، ويؤيده قول المصنف: والبعيد يكفيه مراعاة الجهة، بخلاف القريب؛ فإنه من العلماء الشافعية وقد صرح بالوفاق] اهـ.
وحقق ذلك تحقيقًا لا مزيد عليه الشيخُ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (22/ 206-210، ط. دار الوفاء)؛ حيث يقول: [لا نزاع بين العلماء في الواجب من ذلك، والنزاع بين القائلين بالجهة والعين لا حقيقة له، ومن قال: يجتهد أن يصلي إلى جهة الكعبة أو فرضُه استقبال القبلة فقد أصاب؛ وذلك أنهم متفقون على أن مَن شاهَدَ الكعبةَ فإنه يصلي إليها، ومتفقون على أنه كلما قرب المصلون إليها كان صفهم أقصر من البعيدين عنها، وهذا شأنُ كلِّ ما يُستَقْبَل، فالصف القريب منها لا يزيد طوله على قدر الكعبة، ولو زاد لكان الزائد مصليًا إلى غير الكعبة، والصف الذي خلفه يكون أطول منه وهلم جرًّا.
ولو كان الصف طويلًا يزيد طوله على قدر الكعبة صحت صلاتهم باتفاق المسلمين وإن كان الصف مستقيمًا حيث لم يشاهدوها، فمن توهم أن الفرض أن يقصد المصلي الصلاة في مكان لو سار على خط مستقيم وصل إلى عين الكعبة فقد أخطأ، ومن فسر وجوب الصلاة إلى العين بهذا وأوجب هذا فقد أخطأ، فهذا القول خطأ خالف نص الكتاب والسنة وإجماع السلف، بل وإجماع الأمة؛ فإن الأمة متفقة على صحة صلاة الصف المستطيل الذي يزيد طوله على سمت الكعبة بأضعاف مضاعفة وإن كان الصف مستقيمًا لا انحناء فيه ولا تقوس.
فإن قيل: مع البعد لا يُحتاج إلى الانحناء والتقوس كما يُحتاج إليه في القرب، كما أن الناس إذا استقبلوا الهلال أو الشمس أو جبلًا من الجبال فإنهم يستقبلونه مع كثرتهم وتفرقهم، ولو كان قريبًا لم يستقبلوه إلا مع القلة والاجتماع. قيل: لا ريب أنه ليس الانحناء والتقوس في البعد بقدر الانحناء والتقوس في القرب؛ بل كلما زاد البعد قل الانحناء، وكلما قرب كثر الانحناء، حتى يكون أعظم الناس انحناءً وتقوسًا الصف الذي يلي الكعبة، ولكن مع هذا فلا بد من التقوس والانحناء في البعد إذا كان المقصود أن يكون بينه وبينها خط مستقيم بحيث لو مشى إليه لوصل إليها، لكن يكون التقوس شيئًا يسيرًا جدًّا، كما قيل إنه إذا قُدِّرَ الصفُّ ميلًا وهو مثلًا في الشام كان الانحناء من كل واحد بقدر شعيرة، فإن هذا ذكره بعض من نص على وجوب استقبال العين، وقال: إن مثل هذا التقوس اليسير يُعْفَى عنه.
فيقال له: فهذا معنى قولنا: إن الواجب استقبال الجهة، وهو العفو عن وجوب تَحَرِّي مثلِ هذا التقوس والانحناء، فصار النزاع لفظيًّا لا حقيقة له. فالمقصود أن مَن صلى إلى جهتها فهو مُصَلٍّ إلى عينها وإن كان ليس عليه أن يتحرى مثل هذا، ولا يقال لمن صلى كذلك: إنه مخطئ في الباطن معفو عنه، بل هذا مستقبل القبلة باطنًا وظاهرًا، وهذا هو الذي أُمِرَ به، ولهذا لما بنى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مساجد الأمصار كان في بعضها ما لو خرج منه خط مستقيم إلى الكعبة لكان منحرفًا وكانت صلاة المسلمين فيه جائزة باتفاق المسلمين] اهـ بتصرف يسير.
وقال أيضًا في "شرح العمدة" (1/ 539-540): [وأيضًا فإنهم أجمعوا على صحة صلاة الصف المستطيل الزائدِ طولُه على سمت الكعبة مع استقامته، بل على صحة صلاة أهل البلد الذي فيه مساجدُ كثيرةٌ تُصَلِّي كلُّها إلى جهة واحدة، مع أنها يمتنع أن تكون قبلتُها على خط مستقيم وهي كلها على سمت عين الكعبة. فإن قيل: مع البعد تَحصُل المواجهةُ والمحاذاةُ لكل واحد مع كثرة المحاذين وطول صفهم؛ لأن المحاذي مع البعد وإن احتاج إلى تَقَوُّسٍ وانحناءٍ فهو مع البعد شيء يسير لا يُضبَطُ مثلُه.
قلنا: لو كان المفروضُ محاذاةَ نفسِ العين لوجب مراعاة ذلك الشيء اليسير من الانحناء مع القدرة وأن لا يُتَعَمَّدَ تركُه كما في القريب، فمتى سُلِّمَ جوازُ تعمدِ تركِه فلا يُعنَى باستقبال جهة الكعبة إلا ذلك، فيرتفع الخلاف، وهذا المعنى هو الفارق بين القريب والبعيد؛ فإن البُعْدَ إذا طال يكون المستقبِل للجهة والعين متقاربين جدًّا حتى لا يكاد يُمَيَّزُ بينهما، ومثل هذا يُعفَى عنه كما عفونا عن سائر الشرائط عما يَشق مراعاتُه، مثل يسير النجاسة، ويسير العورة، والتقدم اليسير بالنية، وشبه ذلك؛ فإن الدين أيسرُ مِن تَكَلُّفِ هذا] اهـ.
وعلى ذلك: فلا معنى للخلاف في هذه المسألة أصلًا، ولو فُرِضَ فيها خلافٌ فإنها تكون بذلك من المسائل الاجتهادية التي لا إنكار فيها؛ لأنه لا يُنكَر المختلف فيه وإنما يُنكَر المتفق عليه، والأصل حمل عبادات المسلمين ومعاملاتهم على الصحة مهما أمكن ذلك، فإذا كان في المسألة قول يوافق ما عليه عمل الناس فليس من الفقه حملهم على غيره، وليس من شأن الفقيه أو المفتي أن يعمد إلى أعراف الناس متقصدًا تغييرها ما دام أن لها وجهًا من النظر الفقهي، فكيف إذا كان هذا العرف هو ما عليه عمل المسلمين في الأمصار والأعصار؟! ولذلك أنكر العلماء على من أمر بهدم القبلة التي لم يُرَاعَ فيها استقبال عين الكعبة.
قال الحافظ ابن رجب في "فتح الباري" (2/ 294): [وقد أوجب بعضُهم مراعاةَ ذلك -أي مراعاة عين القبلة- وأمر بهدم كل قبلة موضوعة على خلافه، كما ذكره حرب الكرماني، وهذا يُفضي إلى تضليل سلف الأمة، والطعن في صلاتهم] اهـ.
وإنما كان ما بين المشرق والمغرب هو القبلة في حق أهل المدينة؛ لأنهم شمال مكة وحقهم أن يتوجهوا جنوبًا، والانحراف الكثير عنها أن يُشَرِّقوا أو يُغَرِّبُوا، والجهات أربعٌ، تمثل كلُّ جهة ربعَ الدائرة الكاملة وهي 90 درجة، وهذا يعني أن جهة القبلة هي ربع الدائرة، وما دام المصلي في حدوده فإنه مستقبلٌ للقبلة، وعلى ذلك فيصير الانحراف المسموح به عن سمت الكعبة هو 45 درجة يمينًا ومثلُها شمالًا.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فالنسبة المذكورة داخلة في الحد المسموح به في اتجاه القبلة شرعًا، وحينئذٍ فلا يسمَّى ذلك انحرافًا عن التوجه للقبلة، ويصدق عليكم بذلك أنكم مستقبلون للقبلة شرعًا، وعلى القائمين على المسجد إبقاء الوضع على ما هو عليه؛ استغلالًا لمساحة المسجد كلها، واستغلالًا لمحرابه، ولا يلزمكم تغييرُ الاتجاه الحالي.