70 سنة وكأنك تقرأها اليوم.. محمد حسنين هيكل يكتب: هذه هي الحقيقة في السودان
ما أشبه اليوم بالبارحة.. وما يحدث في السودان حاليا، تكرارا لما حدث عام 1951، هذا ما رصده الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل عندما كتب تحت عنوان: هذه هي الحقيقة في السودان! في مجلة آخــر ســاعة في ديسمبر - 1951 حيث قال: "في مساء 8 أكتوبر الماضي 1951 وقف صاحب المقام الرفيع رئيس وزراء مصر يعلن في مجلس النواب إلغاء معاهدة سنة 1936 ومعها اتفاقيتي سنة 1899 الخاصتين بتنظيم الحكم الثنائي في السودان.
وفي صباح يوم 9 أكتوبر وجدت نفسي في الطائرة المتجهة إلى الخرطوم! وكان المفروض أن الحوادث سوف تتطور بسرعة في الجنوب، فقد كان هناك شبه إجماع على أن "رد الفعل" الذي سيحدث في الخرطوم، هو الذي سيحدد مستقبل السودان، وبحسم النزاع في مشكلته التي استعصت على الحل! وأمضيت أسبوعين في الخرطوم وما حولها.
ثم عدت إلى القاهرة، وفي ذهني صورة للموقف كما رأيته، وفي نفسي صراع مرير، وفي ضميري أزمة عنيفة! هل أكتب كل الذي رأيت؟ وكيف أكتبه؟ وهل الظرف الحالي هو أصلح الظروف لكتابته؟ وظللت يومين، وعقلي بالفكرة الحاضرة، بين صراع النفس وأزمة الضمير، تكلم فإني أسمعك! ثم وجدت حلا للحيرة! ذهبت إلى الأستاذ الأول للصحافة، والأستاذ الأول للجيل كله: أحمد لطفي السيد باشا، وفي غرفة مكتبه الهادئة الشامخة، التي تنبض رفوفها بالفكر والعلم والمعرفة، جلسنا وفي يد كل منا فنجان من الشاي الساخن.
ويبدو أن الأستاذ الكبير أحس أن في نفسي شيئًا فقد قال: - ماذا وراءك؟ وانطلقت كأني كنت أتلقف السؤال وأقول: - صورة للموقف في السودان، وصراع في نفسي، وأزمة في ضميري! وابتسم الفيلسوف الكبير، وتوقفت يده عن مداعبة حبات المسبحة المعلقة بين أصابعه لحظة وجيزة، ثم قال: تكلم.. فإني أسمعك. ومضت ساعة كاملة، والأستاذ الكبير يسمع في صمت وسكون وأخيراً توقفت عن الكلام وتطلعت إلى ملامحه التي تحمل جلال العقل ووقار التجربة، ثم استطردت: هذا هو الموقف كما رأيته بعيني في السودان، بقى صراع النفس وأزمة الضمير، ان عقلي يقول في هدوء وبرود: "واجبك أن تذكر الحقائق كما رأيتها"، ويقول قلبي: "ولكن الحقائق قد تصدم عواطف الناس هنا في الوطن". ويرد عقلي في إصرار: "ليست مهمتك أن تتعلق عواطفهم.. إنما مهمتك أن تذكر لهم الحقائق كما رأيتها". ويقول قلبي: "ولكن الظرف خطير، أن الدم الأحمر يجري في جوانبه".
ويشتد عقلي في بروده وهدوئه واصراره: "من أجل هذا الدم الأحمر الذي يجري في جوانب الموقف يجب أن تقول الحقيقة، إن هذا الدم يجب ألا يجري على وهم.. من أجل هذا الدم الأحمر يجب أن تقول ما رأيته.
وأن الموقف حتى الآن ليس ميئوساً منه، والحقيقة وحدها تنقذ ما بقي، بل وقد تساعد على أن يعود ما ضاع"، ومرة ثانية توقفت عن الكلام، وتطلعت إلى الملامح التي تحمل جلال العقل ووقار التجربة.. وبدأ الفيلسوف الكبير يتكلم: إن عقلك على حق.. وقلبك لم يخطئ .. وعلى أي حال فهناك طريق ثالث بينهما.. إن واجبك يقتضيك أن تتكلم، ولكن لا تتكلم الآن، انتظر شهراً واحدا تتكشف فيه الأحوال، ثم قل لوطنك ماذا رأيت بعينيك في السودان! على مفترق الطرق ومر شهر وأكثر من شهر وأنا ساكت لا أتكلم..
وفي هذه الفترة تطورت المسائل، وتكشفت الأحوال كما توقع الأستاذ الكبير! أعلن الدكتور محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية المصرية، في هيئة الأمم المتحدة، أن مصر مستعدة لعمل استفتاء في السودان.
ثم بدأت أحزاب السودان السياسية كلها، ابتداء من حزب الأشقاء المتطرف في دعوته إلى الاتحاد مع مصر، حتى حزب الأمة المتطرف في دعوته إلى الانفصال عنها، تعلن واحداً بعد واحد أنها تؤيد إجراء استفتاء في السودان وتعتبر أن هذا الاستفتاء هو الكلمة الفاصلة في مستقبله! وكان آخر هذه الأحزاب، هو حزب الجبهة الوطنية، الذي يمثل اتجاهات السيد علي الميرغني باشا، والذي أعلن منذ يومين اثنين انه هو أيضاً – في صف الإجماع الكامل – يؤيد إجراء الاستفتاء في السودان! وإذن تكشفت الأحوال عن وقوف السودان كله صفا واحدا عند مفترق الطرق في انتظار الاستفتاء! وإذن – وبالتالي – جاء وقت الحقائق أن مصر يجب أن ترى كل شيء بلا أوهام، ولا أكاذيب، ولا ظلام. حتى إذا ما جاء يوم الاستفتاء كانت مصر قد أصلحت أخطاء الماضي، واستعدت للغد!!
1- هل السيد علي الميرغني باشا والسيد عبد الرحمن المهدي باشا هما كل شيء في السودان كما نظن هنا في القاهرة؟
* الواقع أن السيدين الزعيمين معا، لا يمثلان بأي حال من الأحوال أكثر من 15 في المائة من سكان السودان! ولكي يسهل تصور الأمر، علينا أن نستعرض وضع سكان السودان: إن أدق التقديرات تقول إن عدد سكان السودان سبعة ملايين! من هذه الملايين السبعة، ثلاثة من الجنوب، زنوج عراة على الفطرة لا يدينون بالإسلام ولا بأي دين غيره – ما عدا قلة قليلة استطاع المبشرون إقناعها بتعاليم المسيحية!
وإذن فملايين الجنوب الثلاثة – نصف سكان السودان تقريبا – لا يدينون بالولاء لأي من السيدين الزعيمين المسلمين! تبقى أربعة ملايين هي سكان الشمال أن بينهما مليونين على الأقل من القبائل الفطرية المتنقلة التي لا تدين بالطاعة أو الولاء إلا للمطر وحده، باعث الحياة ومانح الرزق!
يبقى أقل من مليونين يمكن لدعوة السيدين الزعيمين أن تصل إلى أسماعهم، وهي تصل فعلا إلى عدد كبير منهم! يتحكم السيد علي الميرغني باشا في منطقة مجرى النيل بوساطة نفوذه الشخصي.
ويتحكم في جزء من شرقي السودان بوساطة نفوذ شقيقته الشريفة مريم التي تعد أقوى شخصية في شرقي السودان.
أما السيد عبد الرحمن المهدي باشا فيتحكم في الغرب، ويتركز نفوذه في مديريتي كردفان ودارفور!
2- هل السيد علي الميرغني باشا يؤيد النفوذ المصري في السودان، ويسير وراء سياسة مصر؟
* في القاهرة كثيرون يعتقدون هذا، وهو في الحقيقة وهم وخيال! إن صاحب السيادة له سياسة خاصة بهن وهي تكاد تكون استمراراً للحوادث التي أحاطت بالثورة المهدية، وأن الميرغني باشا يكره المهدي باشا لأن المهدي الكبير – والد المهدي باشا – أخرج سيادته، وهو طفل، من السودان وأرغم المغفور له والده على ترك السودان خشية بطش الثورة به. ولما أعيد فتح السودان تحت قيادة كتشنر، اقترح سلاطين باشا – ضابط المخابرات النمساوي – أن يذهب الميرغني باشا - وكان في ذلك الوقت غلاما صغيراً – في صحبة الجيش الفاتح بوظيفة ضابط اتصال سياسي.
وظل الميرغني باشا بعد الفتح الجديد، صاحب النفوذ الأول والصديق الصدوق لحكومة السودان، وكان المهدي باشا لاجئا يعيش في حمايته!
فلما بدأت حكومة السودان تقوي المهدي باشا لتحقق التوازن بينه وبين الميرغني باشا، غضب سيادته واعتكف في قصره.
وعدنا نحن إلى السودان في سنة 1936 كان الإنجليز يحاولون تقوية المهدي باشا، وكان الميرغني باشا معتكفا معتزلا، وافترضنا افتراضا، دون أن يقول صاحب السيادة كلمة صريحة، أنه على استعداد لمعاداة حكومة السودان والإنجليز وراءها من أجل مصر، ولست أريد أن أقول إن صاحب السيادة لا يستطيع أن يعصى أمراً للإنجليز، وإنما الذي لا شك فيه أن سيادته لم يكن يستطيع مراعاة لنفوذه، ولصالح الطائفة الختمية التي يرأسها، أن يغفل من حسابه قوة الأمر الواقع في السودان، ومصر ليست لها قوة الأمر الواقع في السودان مع الأسف!!
ولقد لجأ صاحب السيادة الى الصمت المطبق ليتفادى به إغضاب الإنجليز أو إغضاب المصريين، وإرضاء الإنجليز أو إرضاء المصريين أيضاً.
وفي المرات القليلة التي اضطر فيها سيادته إلى الكلام، لم ينبس بأكثر من بضع كلمات في إشارة واضحة، وكانت القاهرة الساذجة الطيبة تجري بها مع هواها، أما لندن فكانت تبتسم لها ابتسامة المطمئن الى قوة الأمر الواقع!!
هل يسعى السيد عبد الرحمن المهدي باشا إلى تاج السودان، وهل يحلم سيادته بأن يصبح صاحب الجلالة عبد الرحمن المهدي؟
* أستطيع أن أقول على مسؤوليتي: إن قصة "تاج السودان" حكاية اخترعتها الدعاية البريطانية، لكن تبذر بذور الشك وتزيد في سوء التفاهم بين المهدي باشا وبين مصر.
والإنجليز أنفسهم يعلمون أن وضع تاج السودان على رأس المهدي، معناه ثورة أهلية تقوم بها الطائفة الختمية، ومعناها أن تصبح المذابح هي نظام الحياة اليومي في السودان!
ولكن الإنجليز تركوا مستر ماكنتوش أحد مفتشيهم يلقى "بالحكاية" في اجتماع عام في الخرطوم. ولم يكذبها المهدي باشا، ولعله وجد فيها إطراء وزيادة نفوذ، أكثر مما وجد فيها أملاً قابلا للتحقيق!
ولكن مصر ابتلعت الطعم، واندفعت ضد المهدي باشا، واندفع المهدي باشا ضدها!
ووقفت السياسة الإنجليزية – صاحبة الفكرة وأول من يدرك استحالة تنفيذها- تنفرج على المعركة وتبتسم!
بل وأستطيع أن أقول – وعلى مسؤوليتي أيضاً – إن المهدي باشا لا مانع عنده من قبول التاج المصري.. تاجا للسودان.
وربما يستطيع فؤاد سراج الدين باشا أن يؤيدني فيما أقول.
لقد أبدى المهدي باشا منذ عدة شهود أنه لا يمانع في التاج المصري مؤقتاً، على شرط أن يستفتى السودان لتقرير مصيره بعد عامين.
وكانت مصر وقتها ترفض أساسا فكرة الاستفتاء!
ولقد أتيح لي في الخرطوم أخيراً، أن أطلع على بعض محاضر محادثات المهدي باشا – سراج الدين باشا، وهي المحادثات التي بدأت بينهما في جنيف، ثم استكملت في القاهرة، وناب فيها السيد الشنقيطي رئيس الجمعية التشريعية في السودان عن المهدي باشا والمحضر الأول، الذي يضم تفصيلات ما حدث بين الرجلين في جنيف، طريف بديع.
لقد بدأ اللقاء بعتاب من المهدي باشا، على مصر لموقفها من الحركة الاستقلالية في السودان عامة، ومن سيادته خاصة ثم شكا صاحب السيادة من الدعاية المصرية والصحافة المصرية.
وكان سيادته يقصد بالدعاية المصرية، جهود أحزاب الوحدة مع مصر وجهود بعض الموظفين المصريين في السودان، وقد تغافل سراج الدين باشا عن شكوى الدعاية، وبدأ يرد على شكوى الصحافة وقال معاليه:
"إنه ليس للسيد المهدي باشا أن يشكو مما تنشره الصحف المصرية ضده".
وقال معاليه:
- لو رأيت سيادتك ما تنشره الصحف المصرية عني وعن النحاس باشا من هجوم لوجدت أن ما نشر ضدك لا يكاد يذكر!
وقال سراج الدين باشا في ختام المقابلة:
- سوف أزور السودان يوماً، وأنزل ضيفا عليك في قصرك!
ما هو مبلغ قوة العناصر المناهضة لمصر في السودان؟
* من سوء الحظ أن العناصر المناهضة لمصر بالغة القوة في السودان حكومة السودان تعمل ضدها.
وملايين الجنوب الثلاثة من الزنوج العراة، يعترفون بالمفتش الإنجليزي إلهاً أبيض، وقلائل منهم من أتيحت لهم فرصة رؤية أحد المصريين ولقد كان من تأثير سياستنا في السودان أن اضطر المهدي باشا إلى الوقوف في الصف الآخر.. الذي يقف في مواجهتنا.
ووراء المهدي باشا يقف حزب الأمة، ويتكدس مئات الألوف من قبائل كردفان ودارفور وغيرهما، والميرغني باشا يجاملنا بالعواطف، ولكن "الأمر الواقع" يحكم أعماله ووراء الميرغني باشا مجاملتنا بالعواطف، ومجاراة "الأمر الواقع" مئات الألوف من سكان مدن مجرى النهر وشرقي السودان!
ما هو مدى نفوذ أحزاب الوحدة المؤيدة لمصر؟
* إن الأحوال في السودان، بحكم الظروف، لا تسمح للأحزاب السياسية أيا كان نوعها واتجاهها بأن يكون لها نفوذ كبير أن النفوذ في السودان – بحكم الحياة القبلية وبحكم نسبة التعليم، وغير ذلك من الظروف – يتركز في أيدي فريقين من زعماء القبائل، وزعماء الطوائف الدينية!
ولا يمكن أن تصل أي دعوة سياسية أو غير سياسية إلى الجماهير إلا عن هذين الطرفين!
والمجال الوحيد للأحزاب السياسية في اتصالها المباشر بالجماهير، هو في المدن القليلة المتناثرة على مجرى النهر، التي بلغ سكانها من الوعي حداً يسمح لهم بأن يستمعوا إلى أحد غير زعماء القبائل وزعماء الطوائف الدينية!
ثم يبقى الكلام عن قوة أحزاب الوحدة مع مصر بصفة خاصة!
وانا أعفي نفسي من الكلام عن مدى قوة هذه الأحزاب، وأكتفي بأن أنقل رأيا قاله لي الأستاذ إبراهيم المفتي سكرتير حزب الأشقاء – أكبر الأحزاب الاتحادية – وهو في نفس الوقت عضو في وفد السودان الثلاثي الذي يقف مع صلاح الدين باشا في الأمم المتحدة في باريس.
كنت قد التقيت بالأستاذ المفتي ليلة الخميس 19 اكتوبر في حديقة فندق "الجراند أوتيل" بالخرطوم، ودار الحديث في هذا الموضوع بالذات.. موضوع قوة أحزاب الوحدة مع مصر.
وقال لي الأستاذ المفتي، ومن حقه على ان اقول اني لم استأذنه في النشر، ما يأتي:
"ليس في أحزاب الوحدة كلها إلا حزب الأشقاء، والأحزاب الباقية جميعاً أحزاب وهمية.. ان حزب وحدة وادي النيل مكون من اثنين فقط أحدهما رئيسه الأستاذ الدرديري إسماعيل!
وحزب الأحرار الاتحاديين الذي يرأسه الأستاذ الطيب محمد خير، كان مكونا من خمسة اعتزل اثنان منهم كل نشاط سياسي، فلم يبق في الحزب إلا ثلاثة!
وحزب الاتحاديين لا يستطيع رئيسه الاستاذ حماد توفيق أن يدعي ان عدد أنصاره يزيد على 24، ولقد انشق منهم أخيراً 9، وبقي 15 كل أعضاء الحزب، والحزب من سوء الحظ- وهو رأي الأستاذ المفتي – يتعاون مع حكومة السودان!
وحزب الجبهة الوطنية مكون من 15 عضواً كلهم من كبار الموظفين السابقين، ولم يستطيعوا فيما بينهم أن ينتخبوا لهم رئيساً فاكتفوا باختيار سكرتير هو الأستاذ الدرديري عثمان.
أما حزب مؤتمر السودان "فهو حزب منشق من حزب الاشقاء، ورئيسه الأستاذ نور الدين، وقد فقد شعبيته التي كان يتمتع بها في حزب الأشقاء وليس وراءه اليوم إلا بعض الشبان الشيوعيين وأنصار السلام".
والى هنا تنتهي معلومات "الأستاذ المفتي" عن قوة الأحزاب الاتحادية في السودان.. باستثناء حزب الأشقاء بالطبع!
ما هو مدى قوة حزب الاشقاء، وما هو مدى قدرته على العمل السياسي في السودان؟
* لقد كان حزب الأشقاء حزباً قوياً ينبض بالنشاط والأمل، ويبشر بمستقبل كبير في الحياة السياسية في السودان وكان هذا الحزب يستمد قوته من عدة عوامل!
إنه يضم مجموعات كبيرة من الشباب المتعلم في السودان.
إنه يرتكز على البقية الباقية من الذكريات الطيبة لمصر في السودان أن الميرغني باشا يؤيده في كل ما يتصور سيادته أنه يقاوم به نفوذ المهدي باشا في سياسة السودان!
إن رئيسه الأستاذ إسماعيل الأزهري يتمتع بسمعة طيبة واحترام معقول.. كان الحزب هكذا في الماضي.. أما في الحاضر، فقد اختلفت الأحوال دب الخلاف والشقاق بين زعماء الحزب، وبدأوا يكونون أحزابا داخل الحزب ثم جاءت كارثة أموال مصر، ويشق على نفسي كثيراً أن أخوض في تفصيلاتها، ولهذا سأمر عليها سريعاً دون توقف!
حدث أن احتاجت أحزاب الوحدة مع مصر إلى مبالغ من المال لتنفقها في أهدافها السياسية، وهي في نفس الوقت أهداف مصر وكان رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت محمود فهمي النقراشي باشا ورفض دولته – يرحمه الله – هذا الطلب لأحزاب الوحدة، وبنى الرفض على سببين:
السبب الأول أن المال يفسد الحركات الوطنية إذا ما تسلل إليها!
والسبب الثاني أن حكومة السودان بإيحاء من الإنجليز، قد تحاول استغلال الامر وتتهم حكومة مصر بانها تسعى إلى إحداث قلاقل في السودان مستغلة في ذلك قوة الذهب! ومضت وزارة النقراشي باشا وتلتها وزارة صدقي باشا وتتغير اتجاه مصر فقد كان رئيس الوزراء الجديد – غفر الله له – يؤمن بقوة المال وتأثيره، وبدأت الأموال المصرية تتجه إلى السودان!
وتحقق كل ما تصوره النقراشي بادئ الأمر، تحقق بحذافيره، كأنما دانت حجب العيب قد انزاحت أمام عيني الرجل فاستطاع أن يرى المستقبل بوضوح!
أفسد المال أعضاء حزب الأشقاء على أنفسهم.
وجاء وقت استحال عليهم فيه أن يستمروا معا، وانشق حزب الأشقاء إلى فريقين يتبادلان العداوة ويتراشقان بالاتهام هذا يتهم ذاك بأنه اختلس كذا وكذا وهذا يتهم ذاك بأنه أدخل في ذمته مبالغ طائلة.
وهذا يسأل ذاك: من أين جاء "فلان" – واعفوني من ذكر الأسماء – بعشرة آلاف جنيه التي دفعها ليحصل على مشروع زراعي في أرض الجزيرة.
وهكذا وهكذا.. وباقي السودان يتفرج ويتألم.. أو يتفرج ويشمت ثم تحقق الشطر الثاني من نبوءة النقراشي باشا، وتحقق اخيراً منذ شهر واحد لقد فتش البوليس أحد كبار أعضاء حزب مؤتمر السودان، وكان في طريقه إلى القاهرة وعثر في جيبه على خطاب بتوقيع زعماء حزب مؤتمر السودان.
يطلبون فيه مبالغ جديدة من مصر وملأت حكومة السودان أرجاء السودان عويلا وصراخا ضد مصر التي تستعين بقوة المال على تحقيق أغراضها، وتفسد بذلك ذمم شباب الساسة في السودان! وهكذا أصبح حزب الاشقاء حزبين، لو صدق الناس فيهما ما يقوله أحدهما عن الآخر لكانت النتيجة أن الأشقاء جميعاً. دعوني اسكت عند هذا الحد ولا أدخل في تفصيلات التهم التي يتبادلها الفريقان!
وبهذا الشكل ايضاً فقد الاشقاء جزءاً من نفوذهم، وأخشى أن أقول إن الجزء الذي فقدوه أكبر من الجزء الذي تبقى لهم!
ولكن مصر صنعت الكثير من أجل رفاهة السودان، فلماذا لم يثمر هذا كله؟
* لقد قامت مصر بأعمال ممتازة كثيرة في السودان.. أقولها وأنا أشعر بالفخر كمصري، ولكن الأسف لا يترك لي وقتاً طويلا للفرحة!
إن الذي زرعته جهود مصر كلها في السودان، حصدته تصرفات بعض ممثليها فيه!
لقد قام التعليم المصري بخدمات ممتازة في السودان. ولكن، واسمعوا هذه الشكوى، وقد رددها على سمعي وزير معارف السودان، رددها والغيظ يملأ نفسه ويصخب في جوانحه.. قال لي:
- نحن نقدر كل التقدير ما تقوم به مصر لتعليم ابنائنا سواء في الخرطوم، او في البعثات في القاهرة، ولقد كنت أود لو أن إدارة التعليم المصري، استأذنتني بوصفي وزير معارف السودان، في الطلاب الذين تبعث بهم إلى القاهرة انني لا استطيع ان اسمي ما تصنعه هذه الادارة إلا انه "خطف".
لماذا لا تقول لي، هل تتصور أنني سأعترض لو أنها أخذت زيدا أو عمراً من الناس!
والرجل محق في شكواه وإن اختلفنا معه في وجهة نظره أن مصر لا تعترف بوزارة السودان، ومن ثم لا ترى أن وزارة المعارف ووزيرها – كغيرها من الوزارات وغيره من الوزراء – أشياء وأشخاص لها وجود حقيقي!
ولقد كنا نستطيع أن لا نعترف بوزارة السودان كما نريد، ولكننا كنا نستطيع في نفس الوقت أن نسمو على المشاحنات وعلى الضغائن.
وشكوى وزير المعارف في السودان نموذج صغير، ولست أريد أن أعدد نماذج كثيرة، وإنما يهمني أن أخلص من ذلك بأن موظفي مصر، هم، في كثير من الأحيان، العامل الأول في إحباط سياسة مصر!!
هل وصل هذا كله إلى القاهرة... وإذن كيف سكنت عليه؟
* لقد لاحظت أن بين الخرطوم والقاهرة ستاراً حديديا مخيفا ولقد كان أول ما راعني في السودان – ولقد زرته أكثر من مرة في السنتين الأخيرتين – هو قلة ما تعرفه الخرطوم عن نوايا القاهرة، وقلة ما تعرف القاهرة عن نوايا الخرطوم، ثمة حاجز ضخم كبير يقوم كالسد الهائل ليحب كلتا العاصمتين عن الأخرى ولقد تبين لي أن السبب هو ما يلي.. إن مصر تعتمد في أخبارها عن السودان، وفي تقديرها للموقف فيه على ثلاثة عناصر.. أولها – تقارير أحزاب الوحدة مع مصر وثانيها – تقارير الموظفين المصريين في السودان وثالثهما – أخبار مراسلي الصحف المصرية في الخرطوم.
وأحزاب الوحدة مع مصر – وحالها كما وصفت – صاحبة مصلحة في تلوين الاخبار لمصر كما يروق لها.
والموظفون المصريون في السودان – وحالهم كما وصفت ايضاً – أصحاب عواطف، ولا اقول مصلحة، في تلوين الأخبار كما يروق لهم، يبقى مراسلو الصحف المصرية في الخرطوم والكارثة فيهم أدهى وأمر أقول هذا وأنا أعلم أن عددا كبيراً من صحف الخرطوم سيبدأ غدا – بعد قراءة هذا المقال – حملات ثائرة ضدي..
ولكني أقوله وأمري إلى الله، لأني أعتقد أن مصلحة مصر تقضي أن يقال هذا الكلام!
إن اهتمام الصحف المصرية بأخبار الخرطوم، اهتمام طارئ لم يشتد ساعده إلا منذ سنة 1945.
وحين بدأت صحف القاهرة في هذا العام والأعوام التي تليه، في اختيار مراسلين لها في الخرطوم، لم تجد بداً من أن تلجأ إلى حزب الأشقاء أو غيره من أحزاب الوحدة فيختارون لها من يتولون مراسلتها.
والنتيجة إن معظم مراسلي صحف القاهرة أصبحوا من أعضاء لجان الأحزاب التي شاء رؤساؤها مكافأتهم على حساب معلومات الرأي العام في القاهرة والنتيجة أيضا أن معظم ما تنشره صحف القاهرة من أنباء السودان "ملون" باتجاهات خاصة وأهواء معينة!
هل ضاع الأمل في السودان.. أو ما هي الفرصة أمامنا؟
* إني أعتقد أننا نستطيع أن نجمع السودان كله حول التاج المصري. إن التاج المصري في اعتقاد كثير من العقلاء – بل وغير العقلاء – في السودان هو الحل الوحيد لمشكلة الحكم هناك وليس في السودان من يكره مصر اطلاقاً، وإنما في السودان – كما في مصر – كثيرون يكرهون تصرفات مصر!
وليس هناك من يجادل في مدى حاجة مصر الى السودان، بقدر حاجة السودان إلى مصر!
ولكن علينا أن نواجه الأمر بحقائقه مهما كانت مؤلمة ان كل سياستنا في السودان، حتى الآن، فشل كامل ويجب أن نغير اتجاهاتها على ضوء الحقائق وعلينا قبل هذا كله، أن ندرك أننا نستطيع أن نكسب الخرطوم.. هناك في الخرطوم!
وفي صباح يوم 9 أكتوبر وجدت نفسي في الطائرة المتجهة إلى الخرطوم! وكان المفروض أن الحوادث سوف تتطور بسرعة في الجنوب، فقد كان هناك شبه إجماع على أن "رد الفعل" الذي سيحدث في الخرطوم، هو الذي سيحدد مستقبل السودان، وبحسم النزاع في مشكلته التي استعصت على الحل! وأمضيت أسبوعين في الخرطوم وما حولها.
ثم عدت إلى القاهرة، وفي ذهني صورة للموقف كما رأيته، وفي نفسي صراع مرير، وفي ضميري أزمة عنيفة! هل أكتب كل الذي رأيت؟ وكيف أكتبه؟ وهل الظرف الحالي هو أصلح الظروف لكتابته؟ وظللت يومين، وعقلي بالفكرة الحاضرة، بين صراع النفس وأزمة الضمير، تكلم فإني أسمعك! ثم وجدت حلا للحيرة! ذهبت إلى الأستاذ الأول للصحافة، والأستاذ الأول للجيل كله: أحمد لطفي السيد باشا، وفي غرفة مكتبه الهادئة الشامخة، التي تنبض رفوفها بالفكر والعلم والمعرفة، جلسنا وفي يد كل منا فنجان من الشاي الساخن.
ويبدو أن الأستاذ الكبير أحس أن في نفسي شيئًا فقد قال: - ماذا وراءك؟ وانطلقت كأني كنت أتلقف السؤال وأقول: - صورة للموقف في السودان، وصراع في نفسي، وأزمة في ضميري! وابتسم الفيلسوف الكبير، وتوقفت يده عن مداعبة حبات المسبحة المعلقة بين أصابعه لحظة وجيزة، ثم قال: تكلم.. فإني أسمعك. ومضت ساعة كاملة، والأستاذ الكبير يسمع في صمت وسكون وأخيراً توقفت عن الكلام وتطلعت إلى ملامحه التي تحمل جلال العقل ووقار التجربة، ثم استطردت: هذا هو الموقف كما رأيته بعيني في السودان، بقى صراع النفس وأزمة الضمير، ان عقلي يقول في هدوء وبرود: "واجبك أن تذكر الحقائق كما رأيتها"، ويقول قلبي: "ولكن الحقائق قد تصدم عواطف الناس هنا في الوطن". ويرد عقلي في إصرار: "ليست مهمتك أن تتعلق عواطفهم.. إنما مهمتك أن تذكر لهم الحقائق كما رأيتها". ويقول قلبي: "ولكن الظرف خطير، أن الدم الأحمر يجري في جوانبه".
ويشتد عقلي في بروده وهدوئه واصراره: "من أجل هذا الدم الأحمر الذي يجري في جوانب الموقف يجب أن تقول الحقيقة، إن هذا الدم يجب ألا يجري على وهم.. من أجل هذا الدم الأحمر يجب أن تقول ما رأيته.
وأن الموقف حتى الآن ليس ميئوساً منه، والحقيقة وحدها تنقذ ما بقي، بل وقد تساعد على أن يعود ما ضاع"، ومرة ثانية توقفت عن الكلام، وتطلعت إلى الملامح التي تحمل جلال العقل ووقار التجربة.. وبدأ الفيلسوف الكبير يتكلم: إن عقلك على حق.. وقلبك لم يخطئ .. وعلى أي حال فهناك طريق ثالث بينهما.. إن واجبك يقتضيك أن تتكلم، ولكن لا تتكلم الآن، انتظر شهراً واحدا تتكشف فيه الأحوال، ثم قل لوطنك ماذا رأيت بعينيك في السودان! على مفترق الطرق ومر شهر وأكثر من شهر وأنا ساكت لا أتكلم..
وفي هذه الفترة تطورت المسائل، وتكشفت الأحوال كما توقع الأستاذ الكبير! أعلن الدكتور محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية المصرية، في هيئة الأمم المتحدة، أن مصر مستعدة لعمل استفتاء في السودان.
ثم بدأت أحزاب السودان السياسية كلها، ابتداء من حزب الأشقاء المتطرف في دعوته إلى الاتحاد مع مصر، حتى حزب الأمة المتطرف في دعوته إلى الانفصال عنها، تعلن واحداً بعد واحد أنها تؤيد إجراء استفتاء في السودان وتعتبر أن هذا الاستفتاء هو الكلمة الفاصلة في مستقبله! وكان آخر هذه الأحزاب، هو حزب الجبهة الوطنية، الذي يمثل اتجاهات السيد علي الميرغني باشا، والذي أعلن منذ يومين اثنين انه هو أيضاً – في صف الإجماع الكامل – يؤيد إجراء الاستفتاء في السودان! وإذن تكشفت الأحوال عن وقوف السودان كله صفا واحدا عند مفترق الطرق في انتظار الاستفتاء! وإذن – وبالتالي – جاء وقت الحقائق أن مصر يجب أن ترى كل شيء بلا أوهام، ولا أكاذيب، ولا ظلام. حتى إذا ما جاء يوم الاستفتاء كانت مصر قد أصلحت أخطاء الماضي، واستعدت للغد!!
1- هل السيد علي الميرغني باشا والسيد عبد الرحمن المهدي باشا هما كل شيء في السودان كما نظن هنا في القاهرة؟
* الواقع أن السيدين الزعيمين معا، لا يمثلان بأي حال من الأحوال أكثر من 15 في المائة من سكان السودان! ولكي يسهل تصور الأمر، علينا أن نستعرض وضع سكان السودان: إن أدق التقديرات تقول إن عدد سكان السودان سبعة ملايين! من هذه الملايين السبعة، ثلاثة من الجنوب، زنوج عراة على الفطرة لا يدينون بالإسلام ولا بأي دين غيره – ما عدا قلة قليلة استطاع المبشرون إقناعها بتعاليم المسيحية!
وإذن فملايين الجنوب الثلاثة – نصف سكان السودان تقريبا – لا يدينون بالولاء لأي من السيدين الزعيمين المسلمين! تبقى أربعة ملايين هي سكان الشمال أن بينهما مليونين على الأقل من القبائل الفطرية المتنقلة التي لا تدين بالطاعة أو الولاء إلا للمطر وحده، باعث الحياة ومانح الرزق!
يبقى أقل من مليونين يمكن لدعوة السيدين الزعيمين أن تصل إلى أسماعهم، وهي تصل فعلا إلى عدد كبير منهم! يتحكم السيد علي الميرغني باشا في منطقة مجرى النيل بوساطة نفوذه الشخصي.
ويتحكم في جزء من شرقي السودان بوساطة نفوذ شقيقته الشريفة مريم التي تعد أقوى شخصية في شرقي السودان.
أما السيد عبد الرحمن المهدي باشا فيتحكم في الغرب، ويتركز نفوذه في مديريتي كردفان ودارفور!
2- هل السيد علي الميرغني باشا يؤيد النفوذ المصري في السودان، ويسير وراء سياسة مصر؟
* في القاهرة كثيرون يعتقدون هذا، وهو في الحقيقة وهم وخيال! إن صاحب السيادة له سياسة خاصة بهن وهي تكاد تكون استمراراً للحوادث التي أحاطت بالثورة المهدية، وأن الميرغني باشا يكره المهدي باشا لأن المهدي الكبير – والد المهدي باشا – أخرج سيادته، وهو طفل، من السودان وأرغم المغفور له والده على ترك السودان خشية بطش الثورة به. ولما أعيد فتح السودان تحت قيادة كتشنر، اقترح سلاطين باشا – ضابط المخابرات النمساوي – أن يذهب الميرغني باشا - وكان في ذلك الوقت غلاما صغيراً – في صحبة الجيش الفاتح بوظيفة ضابط اتصال سياسي.
وظل الميرغني باشا بعد الفتح الجديد، صاحب النفوذ الأول والصديق الصدوق لحكومة السودان، وكان المهدي باشا لاجئا يعيش في حمايته!
فلما بدأت حكومة السودان تقوي المهدي باشا لتحقق التوازن بينه وبين الميرغني باشا، غضب سيادته واعتكف في قصره.
وعدنا نحن إلى السودان في سنة 1936 كان الإنجليز يحاولون تقوية المهدي باشا، وكان الميرغني باشا معتكفا معتزلا، وافترضنا افتراضا، دون أن يقول صاحب السيادة كلمة صريحة، أنه على استعداد لمعاداة حكومة السودان والإنجليز وراءها من أجل مصر، ولست أريد أن أقول إن صاحب السيادة لا يستطيع أن يعصى أمراً للإنجليز، وإنما الذي لا شك فيه أن سيادته لم يكن يستطيع مراعاة لنفوذه، ولصالح الطائفة الختمية التي يرأسها، أن يغفل من حسابه قوة الأمر الواقع في السودان، ومصر ليست لها قوة الأمر الواقع في السودان مع الأسف!!
ولقد لجأ صاحب السيادة الى الصمت المطبق ليتفادى به إغضاب الإنجليز أو إغضاب المصريين، وإرضاء الإنجليز أو إرضاء المصريين أيضاً.
وفي المرات القليلة التي اضطر فيها سيادته إلى الكلام، لم ينبس بأكثر من بضع كلمات في إشارة واضحة، وكانت القاهرة الساذجة الطيبة تجري بها مع هواها، أما لندن فكانت تبتسم لها ابتسامة المطمئن الى قوة الأمر الواقع!!
هل يسعى السيد عبد الرحمن المهدي باشا إلى تاج السودان، وهل يحلم سيادته بأن يصبح صاحب الجلالة عبد الرحمن المهدي؟
* أستطيع أن أقول على مسؤوليتي: إن قصة "تاج السودان" حكاية اخترعتها الدعاية البريطانية، لكن تبذر بذور الشك وتزيد في سوء التفاهم بين المهدي باشا وبين مصر.
والإنجليز أنفسهم يعلمون أن وضع تاج السودان على رأس المهدي، معناه ثورة أهلية تقوم بها الطائفة الختمية، ومعناها أن تصبح المذابح هي نظام الحياة اليومي في السودان!
ولكن الإنجليز تركوا مستر ماكنتوش أحد مفتشيهم يلقى "بالحكاية" في اجتماع عام في الخرطوم. ولم يكذبها المهدي باشا، ولعله وجد فيها إطراء وزيادة نفوذ، أكثر مما وجد فيها أملاً قابلا للتحقيق!
ولكن مصر ابتلعت الطعم، واندفعت ضد المهدي باشا، واندفع المهدي باشا ضدها!
ووقفت السياسة الإنجليزية – صاحبة الفكرة وأول من يدرك استحالة تنفيذها- تنفرج على المعركة وتبتسم!
بل وأستطيع أن أقول – وعلى مسؤوليتي أيضاً – إن المهدي باشا لا مانع عنده من قبول التاج المصري.. تاجا للسودان.
وربما يستطيع فؤاد سراج الدين باشا أن يؤيدني فيما أقول.
لقد أبدى المهدي باشا منذ عدة شهود أنه لا يمانع في التاج المصري مؤقتاً، على شرط أن يستفتى السودان لتقرير مصيره بعد عامين.
وكانت مصر وقتها ترفض أساسا فكرة الاستفتاء!
ولقد أتيح لي في الخرطوم أخيراً، أن أطلع على بعض محاضر محادثات المهدي باشا – سراج الدين باشا، وهي المحادثات التي بدأت بينهما في جنيف، ثم استكملت في القاهرة، وناب فيها السيد الشنقيطي رئيس الجمعية التشريعية في السودان عن المهدي باشا والمحضر الأول، الذي يضم تفصيلات ما حدث بين الرجلين في جنيف، طريف بديع.
لقد بدأ اللقاء بعتاب من المهدي باشا، على مصر لموقفها من الحركة الاستقلالية في السودان عامة، ومن سيادته خاصة ثم شكا صاحب السيادة من الدعاية المصرية والصحافة المصرية.
وكان سيادته يقصد بالدعاية المصرية، جهود أحزاب الوحدة مع مصر وجهود بعض الموظفين المصريين في السودان، وقد تغافل سراج الدين باشا عن شكوى الدعاية، وبدأ يرد على شكوى الصحافة وقال معاليه:
"إنه ليس للسيد المهدي باشا أن يشكو مما تنشره الصحف المصرية ضده".
وقال معاليه:
- لو رأيت سيادتك ما تنشره الصحف المصرية عني وعن النحاس باشا من هجوم لوجدت أن ما نشر ضدك لا يكاد يذكر!
وقال سراج الدين باشا في ختام المقابلة:
- سوف أزور السودان يوماً، وأنزل ضيفا عليك في قصرك!
ما هو مبلغ قوة العناصر المناهضة لمصر في السودان؟
* من سوء الحظ أن العناصر المناهضة لمصر بالغة القوة في السودان حكومة السودان تعمل ضدها.
وملايين الجنوب الثلاثة من الزنوج العراة، يعترفون بالمفتش الإنجليزي إلهاً أبيض، وقلائل منهم من أتيحت لهم فرصة رؤية أحد المصريين ولقد كان من تأثير سياستنا في السودان أن اضطر المهدي باشا إلى الوقوف في الصف الآخر.. الذي يقف في مواجهتنا.
ووراء المهدي باشا يقف حزب الأمة، ويتكدس مئات الألوف من قبائل كردفان ودارفور وغيرهما، والميرغني باشا يجاملنا بالعواطف، ولكن "الأمر الواقع" يحكم أعماله ووراء الميرغني باشا مجاملتنا بالعواطف، ومجاراة "الأمر الواقع" مئات الألوف من سكان مدن مجرى النهر وشرقي السودان!
ما هو مدى نفوذ أحزاب الوحدة المؤيدة لمصر؟
* إن الأحوال في السودان، بحكم الظروف، لا تسمح للأحزاب السياسية أيا كان نوعها واتجاهها بأن يكون لها نفوذ كبير أن النفوذ في السودان – بحكم الحياة القبلية وبحكم نسبة التعليم، وغير ذلك من الظروف – يتركز في أيدي فريقين من زعماء القبائل، وزعماء الطوائف الدينية!
ولا يمكن أن تصل أي دعوة سياسية أو غير سياسية إلى الجماهير إلا عن هذين الطرفين!
والمجال الوحيد للأحزاب السياسية في اتصالها المباشر بالجماهير، هو في المدن القليلة المتناثرة على مجرى النهر، التي بلغ سكانها من الوعي حداً يسمح لهم بأن يستمعوا إلى أحد غير زعماء القبائل وزعماء الطوائف الدينية!
ثم يبقى الكلام عن قوة أحزاب الوحدة مع مصر بصفة خاصة!
وانا أعفي نفسي من الكلام عن مدى قوة هذه الأحزاب، وأكتفي بأن أنقل رأيا قاله لي الأستاذ إبراهيم المفتي سكرتير حزب الأشقاء – أكبر الأحزاب الاتحادية – وهو في نفس الوقت عضو في وفد السودان الثلاثي الذي يقف مع صلاح الدين باشا في الأمم المتحدة في باريس.
كنت قد التقيت بالأستاذ المفتي ليلة الخميس 19 اكتوبر في حديقة فندق "الجراند أوتيل" بالخرطوم، ودار الحديث في هذا الموضوع بالذات.. موضوع قوة أحزاب الوحدة مع مصر.
وقال لي الأستاذ المفتي، ومن حقه على ان اقول اني لم استأذنه في النشر، ما يأتي:
"ليس في أحزاب الوحدة كلها إلا حزب الأشقاء، والأحزاب الباقية جميعاً أحزاب وهمية.. ان حزب وحدة وادي النيل مكون من اثنين فقط أحدهما رئيسه الأستاذ الدرديري إسماعيل!
وحزب الأحرار الاتحاديين الذي يرأسه الأستاذ الطيب محمد خير، كان مكونا من خمسة اعتزل اثنان منهم كل نشاط سياسي، فلم يبق في الحزب إلا ثلاثة!
وحزب الاتحاديين لا يستطيع رئيسه الاستاذ حماد توفيق أن يدعي ان عدد أنصاره يزيد على 24، ولقد انشق منهم أخيراً 9، وبقي 15 كل أعضاء الحزب، والحزب من سوء الحظ- وهو رأي الأستاذ المفتي – يتعاون مع حكومة السودان!
وحزب الجبهة الوطنية مكون من 15 عضواً كلهم من كبار الموظفين السابقين، ولم يستطيعوا فيما بينهم أن ينتخبوا لهم رئيساً فاكتفوا باختيار سكرتير هو الأستاذ الدرديري عثمان.
أما حزب مؤتمر السودان "فهو حزب منشق من حزب الاشقاء، ورئيسه الأستاذ نور الدين، وقد فقد شعبيته التي كان يتمتع بها في حزب الأشقاء وليس وراءه اليوم إلا بعض الشبان الشيوعيين وأنصار السلام".
والى هنا تنتهي معلومات "الأستاذ المفتي" عن قوة الأحزاب الاتحادية في السودان.. باستثناء حزب الأشقاء بالطبع!
ما هو مدى قوة حزب الاشقاء، وما هو مدى قدرته على العمل السياسي في السودان؟
* لقد كان حزب الأشقاء حزباً قوياً ينبض بالنشاط والأمل، ويبشر بمستقبل كبير في الحياة السياسية في السودان وكان هذا الحزب يستمد قوته من عدة عوامل!
إنه يضم مجموعات كبيرة من الشباب المتعلم في السودان.
إنه يرتكز على البقية الباقية من الذكريات الطيبة لمصر في السودان أن الميرغني باشا يؤيده في كل ما يتصور سيادته أنه يقاوم به نفوذ المهدي باشا في سياسة السودان!
إن رئيسه الأستاذ إسماعيل الأزهري يتمتع بسمعة طيبة واحترام معقول.. كان الحزب هكذا في الماضي.. أما في الحاضر، فقد اختلفت الأحوال دب الخلاف والشقاق بين زعماء الحزب، وبدأوا يكونون أحزابا داخل الحزب ثم جاءت كارثة أموال مصر، ويشق على نفسي كثيراً أن أخوض في تفصيلاتها، ولهذا سأمر عليها سريعاً دون توقف!
حدث أن احتاجت أحزاب الوحدة مع مصر إلى مبالغ من المال لتنفقها في أهدافها السياسية، وهي في نفس الوقت أهداف مصر وكان رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت محمود فهمي النقراشي باشا ورفض دولته – يرحمه الله – هذا الطلب لأحزاب الوحدة، وبنى الرفض على سببين:
السبب الأول أن المال يفسد الحركات الوطنية إذا ما تسلل إليها!
والسبب الثاني أن حكومة السودان بإيحاء من الإنجليز، قد تحاول استغلال الامر وتتهم حكومة مصر بانها تسعى إلى إحداث قلاقل في السودان مستغلة في ذلك قوة الذهب! ومضت وزارة النقراشي باشا وتلتها وزارة صدقي باشا وتتغير اتجاه مصر فقد كان رئيس الوزراء الجديد – غفر الله له – يؤمن بقوة المال وتأثيره، وبدأت الأموال المصرية تتجه إلى السودان!
وتحقق كل ما تصوره النقراشي بادئ الأمر، تحقق بحذافيره، كأنما دانت حجب العيب قد انزاحت أمام عيني الرجل فاستطاع أن يرى المستقبل بوضوح!
أفسد المال أعضاء حزب الأشقاء على أنفسهم.
وجاء وقت استحال عليهم فيه أن يستمروا معا، وانشق حزب الأشقاء إلى فريقين يتبادلان العداوة ويتراشقان بالاتهام هذا يتهم ذاك بأنه اختلس كذا وكذا وهذا يتهم ذاك بأنه أدخل في ذمته مبالغ طائلة.
وهذا يسأل ذاك: من أين جاء "فلان" – واعفوني من ذكر الأسماء – بعشرة آلاف جنيه التي دفعها ليحصل على مشروع زراعي في أرض الجزيرة.
وهكذا وهكذا.. وباقي السودان يتفرج ويتألم.. أو يتفرج ويشمت ثم تحقق الشطر الثاني من نبوءة النقراشي باشا، وتحقق اخيراً منذ شهر واحد لقد فتش البوليس أحد كبار أعضاء حزب مؤتمر السودان، وكان في طريقه إلى القاهرة وعثر في جيبه على خطاب بتوقيع زعماء حزب مؤتمر السودان.
يطلبون فيه مبالغ جديدة من مصر وملأت حكومة السودان أرجاء السودان عويلا وصراخا ضد مصر التي تستعين بقوة المال على تحقيق أغراضها، وتفسد بذلك ذمم شباب الساسة في السودان! وهكذا أصبح حزب الاشقاء حزبين، لو صدق الناس فيهما ما يقوله أحدهما عن الآخر لكانت النتيجة أن الأشقاء جميعاً. دعوني اسكت عند هذا الحد ولا أدخل في تفصيلات التهم التي يتبادلها الفريقان!
وبهذا الشكل ايضاً فقد الاشقاء جزءاً من نفوذهم، وأخشى أن أقول إن الجزء الذي فقدوه أكبر من الجزء الذي تبقى لهم!
ولكن مصر صنعت الكثير من أجل رفاهة السودان، فلماذا لم يثمر هذا كله؟
* لقد قامت مصر بأعمال ممتازة كثيرة في السودان.. أقولها وأنا أشعر بالفخر كمصري، ولكن الأسف لا يترك لي وقتاً طويلا للفرحة!
إن الذي زرعته جهود مصر كلها في السودان، حصدته تصرفات بعض ممثليها فيه!
لقد قام التعليم المصري بخدمات ممتازة في السودان. ولكن، واسمعوا هذه الشكوى، وقد رددها على سمعي وزير معارف السودان، رددها والغيظ يملأ نفسه ويصخب في جوانحه.. قال لي:
- نحن نقدر كل التقدير ما تقوم به مصر لتعليم ابنائنا سواء في الخرطوم، او في البعثات في القاهرة، ولقد كنت أود لو أن إدارة التعليم المصري، استأذنتني بوصفي وزير معارف السودان، في الطلاب الذين تبعث بهم إلى القاهرة انني لا استطيع ان اسمي ما تصنعه هذه الادارة إلا انه "خطف".
لماذا لا تقول لي، هل تتصور أنني سأعترض لو أنها أخذت زيدا أو عمراً من الناس!
والرجل محق في شكواه وإن اختلفنا معه في وجهة نظره أن مصر لا تعترف بوزارة السودان، ومن ثم لا ترى أن وزارة المعارف ووزيرها – كغيرها من الوزارات وغيره من الوزراء – أشياء وأشخاص لها وجود حقيقي!
ولقد كنا نستطيع أن لا نعترف بوزارة السودان كما نريد، ولكننا كنا نستطيع في نفس الوقت أن نسمو على المشاحنات وعلى الضغائن.
وشكوى وزير المعارف في السودان نموذج صغير، ولست أريد أن أعدد نماذج كثيرة، وإنما يهمني أن أخلص من ذلك بأن موظفي مصر، هم، في كثير من الأحيان، العامل الأول في إحباط سياسة مصر!!
هل وصل هذا كله إلى القاهرة... وإذن كيف سكنت عليه؟
* لقد لاحظت أن بين الخرطوم والقاهرة ستاراً حديديا مخيفا ولقد كان أول ما راعني في السودان – ولقد زرته أكثر من مرة في السنتين الأخيرتين – هو قلة ما تعرفه الخرطوم عن نوايا القاهرة، وقلة ما تعرف القاهرة عن نوايا الخرطوم، ثمة حاجز ضخم كبير يقوم كالسد الهائل ليحب كلتا العاصمتين عن الأخرى ولقد تبين لي أن السبب هو ما يلي.. إن مصر تعتمد في أخبارها عن السودان، وفي تقديرها للموقف فيه على ثلاثة عناصر.. أولها – تقارير أحزاب الوحدة مع مصر وثانيها – تقارير الموظفين المصريين في السودان وثالثهما – أخبار مراسلي الصحف المصرية في الخرطوم.
وأحزاب الوحدة مع مصر – وحالها كما وصفت – صاحبة مصلحة في تلوين الاخبار لمصر كما يروق لها.
والموظفون المصريون في السودان – وحالهم كما وصفت ايضاً – أصحاب عواطف، ولا اقول مصلحة، في تلوين الأخبار كما يروق لهم، يبقى مراسلو الصحف المصرية في الخرطوم والكارثة فيهم أدهى وأمر أقول هذا وأنا أعلم أن عددا كبيراً من صحف الخرطوم سيبدأ غدا – بعد قراءة هذا المقال – حملات ثائرة ضدي..
ولكني أقوله وأمري إلى الله، لأني أعتقد أن مصلحة مصر تقضي أن يقال هذا الكلام!
إن اهتمام الصحف المصرية بأخبار الخرطوم، اهتمام طارئ لم يشتد ساعده إلا منذ سنة 1945.
وحين بدأت صحف القاهرة في هذا العام والأعوام التي تليه، في اختيار مراسلين لها في الخرطوم، لم تجد بداً من أن تلجأ إلى حزب الأشقاء أو غيره من أحزاب الوحدة فيختارون لها من يتولون مراسلتها.
والنتيجة إن معظم مراسلي صحف القاهرة أصبحوا من أعضاء لجان الأحزاب التي شاء رؤساؤها مكافأتهم على حساب معلومات الرأي العام في القاهرة والنتيجة أيضا أن معظم ما تنشره صحف القاهرة من أنباء السودان "ملون" باتجاهات خاصة وأهواء معينة!
هل ضاع الأمل في السودان.. أو ما هي الفرصة أمامنا؟
* إني أعتقد أننا نستطيع أن نجمع السودان كله حول التاج المصري. إن التاج المصري في اعتقاد كثير من العقلاء – بل وغير العقلاء – في السودان هو الحل الوحيد لمشكلة الحكم هناك وليس في السودان من يكره مصر اطلاقاً، وإنما في السودان – كما في مصر – كثيرون يكرهون تصرفات مصر!
وليس هناك من يجادل في مدى حاجة مصر الى السودان، بقدر حاجة السودان إلى مصر!
ولكن علينا أن نواجه الأمر بحقائقه مهما كانت مؤلمة ان كل سياستنا في السودان، حتى الآن، فشل كامل ويجب أن نغير اتجاهاتها على ضوء الحقائق وعلينا قبل هذا كله، أن ندرك أننا نستطيع أن نكسب الخرطوم.. هناك في الخرطوم!