ما حكم صلاة الجمعة بأقل من أربعين في زمن الكورونا؟.. دار الإفتاء تُجيب
ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه: "هل يجوز صلاة الجمعة بأقل من أربعين في زمن الوباء؟"، ومن جانبها أجابت دار الإفتاء على هذا السؤال كالتالي:
صلاة الجمعة شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، اختُصت عن غيرها من الجماعات بخصائص مُعينة، وقد اشترط الشارع في أدائها أن تكون جماعةً؛ بحيث لا تصح مِن المكلَّف وحدَه مُنفرِدًا؛ ولذلك جعل السعي إليها والاجتماع فيها من الواجبات المتعلقة بها؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۞ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 9-10].
وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ، إلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أًو امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ» رواه أبو داود في "السنن"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وكذا قال النووي في "خلاصة الأحكام"، وصححه البلقيني في "البدر المنير".
قال العلامة ابن رسلان الشافعي في "شرح أبي داود" (5/ 503، ط. دار الفلاح): [استُدِلَّ به على أن من شروط الجمعة أن تقام في جماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين بعده لم ينقل عنهم، ولا عن أحد في زمانهم، ولا بعدهم، أنه فعلها فرادى] اهـ.
فالعلماء مجمعون على أن من شرط الجمعة الجماعة، والجماعةُ تستوجب العدد؛ وذلك لأنهم لا يختلفون أنها لا تصح بواحدٍ، فيكون العدد شرطًا معتبرًا في الجمعة إجماعًا، غير أنهم اختلفوا في حدِّه الأدنى الذي تنعقد به؛ قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (4/ 504، ط. دار الفكر): [وقد نقلوا الإجماع أنَّه لابد من عددٍ، واختلفوا في قدره] اهـ.
ولذلك تعددت أقوال الفقهاء في ذلك بين مكثرٍ ومُقلٍّ، ويرجع سبب اختلافهم إلى تعدد أقوالهم في أقل ما يطلق عليه اسم الجمع: هل هو اثنان، أو ثلاثة، أو أربعة؟ أو ما يطلق عليه اسم الجمع في الأكثر والعرف المستعمل؛ ولذلك لم يحد أو يُعَد؟ وكذلك اختلافهم في الإمام: هل يدخل ضمن هذا العدد أم لا؟
قال الإمام ابن رشد الحفيد في "بداية المجتهد" (1/ 169، ط. دار الحديث):[وأما شروط الوجوب والصحة المختصة بيوم الجمعة: فاتفق الكل على أن من شرطها الجماعة، واختلفوا في مقدار الجماعة: فمنهم من قال: واحد مع الإمام وهو الطبري، ومنهم من قال: اثنان سوى الإمام، ومنهم من قال: ثلاثة دون الإمام، وهو قول أبي حنيفة، ومنهم من اشترط أربعين، وهو قول الشافعي وأحمد، وقال قومٌ: ثلاثين، ومنهم من لم يشترط عددًا، ولكن رأى أنه يجوز بما دون الأربعين ولا يجوز بالثلاثة والأربعة، وهو مذهب مالك، وحدهم: بأنهم الذين يمكن أن تتقرَّى بهم قرية.
صلاة الجمعة بأقل من أربعين في زمن الوباء
وسبب اختلافهم في هذا: اختلافهم في أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع: هل ذلك ثلاثة، أو أربعة، أو اثنان؟ وهل الإمام داخل فيهم أم ليس بداخل فيهم؟ وهل الجمع المشترط في هذه الصلاة هو أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع في غالب الأحوال، وذلك هو أكثر من الثلاثة والأربعة؟
فمن ذهب إلى أن الشرط في ذلك هو أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع وكان عنده أن أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع اثنان: فإن كان ممن يعدّ الإمام في الجمع المشترط في ذلك؛ قال: تقوم الجمعة باثنين؛ الإمام، وواحدٍ ثانٍ، وإن كان ممن لا يرى أن يعدّ الإمام في الجمع؛ قال: تقوم باثنين سوى الإمام.
ومن كان أيضًا عنده أن أقل الجمع ثلاثة: فإن كان لا يعدّ الإمام في جملتهم قال بثلاثة سوى الإمام، وإن كان ممن يعدّ الإمام في جملتهم: وافقَ قولَ من قال أقل الجمع اثنان ولم يعد الإمام في جملتهم.
وأما من راعى ما ينطلق عليه في الأكثر والعرف المستعمل اسم الجمع؛ قال: لا تنعقد بالاثنين ولا بالأربعة، ولم يحد في ذلك حدًّا] اهـ.
بل أوصل بعض العلماء الأقوال في عدد الجمعة إلى خمسة عشرَ قولًا؛ كما فعل الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري"، ونصوا على أن أكثر هذه الأقوال لا يلزم منه تحديد العدد؛ لأنَّها وقائع أحوال، ولذلك رجح جماعة من المحققين أن المعتبر في ذلك الجمع والكثرة بلا قيدٍ.
قال الإمام أبو الحسن بن القصَّار المالكي [ت397هـ] -فيما نقله ابن بطَّال المالكي في "شرح صحيح البخاري" (2/ 496، ط. مكتبة الرشد)-: [لسنا نعتبر عددًا حتى يصيروا به جماعة، ولكنا نقول: كل قوم لهم مسجد وسوق ينطلق عليهم اسم جماعة، فالجمعة واجبة عليهم؛ سواء كانوا خمسة أو أربعين؛ لأن المقادير والتحديدات في الشريعة لا تثبت إلا من طريق صحيح] اهـ.
وقال الإمام ابن الملقِّن الشافعي في "التوضيح" (7/ 451-456، ط. دار الفلاح): [أكثر هذه الأقوال دعوى بلا دليل، وإنما بعضها حالٌ وقع ولا يلزم منه التحديد] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/ 423، ط. دار المعرفة): [الخامس عشر: جمع كثير بغير قيدٍ، ولعلَّ هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل] اهـ.
فإذا تعذّر تقليد الشافعية في هذه المسألة: أُخِذَ بقول غيرهم من المذاهب أو أقوال المجتهدين؛ لأن الحالة التي تمر بها بلدان العالم هي حالة ضرورة، فيكون المناسب في التعامل معها هو فقه الضرورة وفتاوى النوازل، لا الجمود على مذهب بعينه، والقاعدة المستقرة: "أن من ابتُليَ بشيءٍ مما اختُلِفَ فيه فليقلد من أجاز".
واشتراط عدد الأربعين هو مذهب الشافعية والراجح عند الحنابلة، لكن إذا قرَّر وليّ الأمر -تبعًا لما اقتضته الضرورة- تقليص عدد المصلين عن أربعين: فإن هذا لا يقتضي ترك الجمعة، بل ولا إعادتها ظهرًا؛ بل يكون العمل فيه بما يناسب الحال على ما دون الأربعين؛ كما هو رأي جمهور الفقهاء؛ لأن الشريعة ليست حكرًا على مذهب، ولا هي مختصرة في قول أو رأي، بل هي أوسع من المذاهب والآراء؛ فلا تُنْسَخُ أحكامُها لعدم القدرة على تطبيق قول بعينه، وفي هذه المسألة ومثيلاتها يقول الإمام أحمد: "لا تحمل الناس على مذهبك"؛ نقله ابن مفلح في "الفروع" (3/ 152، ط. مؤسسة الرسالة).
فيروس كورونا
ومن "جزيل المواهب في اختلاف المذاهب"؛ كما يعبر الإمام السيوطي الشافعي في رسالته التي سماها بذلك، وإنما تنوعت المذاهب واختلفت الأقوال للسعة والتيسير، لا للتضييق والتعسير؛ ولذلك كان طلحة بن مُصَرِّف إذا ذُكر عنده الاختلاف يقول: "لا تقولوا: الاختلاف، ولكن قولوا: السعة" أخرجه أبو نعيم في "الحلية". وقال الإمام الزركشي الشافعي في "البحر المحيط" (8/ 119، ط. دار الكتبي): [اعلم أن الله تعالى لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة، بل جعلها ظنية؛ قصدًا للتوسيع على المكلفين، لئلَّا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل عليه] اهـ.
والناظر في نصوص الفقهاء يرى أن هناك فارقًا واضحًا بين الحكم الشرعي الثابت، وبين الفتوى التي تحكمها القواعد الشرعية الكلية ومصالح الخلق المرعية، والتي تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، وهذا يدعو إلى مزيد التأني، ويحتاج إلى الصنعة الإفتائية المقاصدية التي تحسن الانتقال من الحكم إلى الفتوى. فالفقيه: يستنبط أحكام الله تعالى من الأدلة التفصيلية، وتلك الأحكام تحقق مقاصد الشريعة الكلية.
أما المفتي: فهو يدرس الواقع ثم يلتفت إلى الفقه ليأخذ منه حكم الله تعالى في مثل هذه الواقعة بما يحقق مقاصد الشريعة.
كما أن الانتماء إلى المدارس الفقهية بمذاهبها المختلفة -في مجال الدرس والعملية التعليمية- لا يُسَوِّغُ لأتباعها مخالفة الحاكم فيما ألزم به من الآراء المختلف فيها؛ لأن للحاكم تقييد المباح، وإذا ألزم برأيٍ في مسألة تتعلق بالشأن العام فلا يسوغ الأخذ بخلاف ما اختاره؛ ضبطًا للنظام العام، وجمعًا لكلمة العامة، وقد نص الشافعية على أن قضاء القاضي بخلاف ما اشترطه عليه ولي الأمر في توليته؛ لفظًا أو عرفًا: لا يصحّ؛ لأن التولية حينئذ لا تشمله؛ كما في "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي الشافعي (ص: 104-105، ط. دار الكتب العلمية).
كما أن اتِّباع مذهبٍ بعينه لا يجوز أن يكون مبعثًا على التعصب في مجال الفتوى والعمل؛ فإن فقهاء المذاهب وأئمتها كانوا ربما تركوا مذاهبهم في مسائل معينة وعملوا –في أنفسهم وفي الإفتاء لغيرهم- بالأقوال التي كانوا يرون أنها أكثر تحقيقًا لمقصود الشريعة، وأكثر مراعاة لمصالح الناس.
وإنما فعلوا ذلك لأن هناك فارقًا بين التعلُّم والإفتاء؛ فإنه لا بد لطالب العلم أن يلتزم بمذهب فقهي معين يدرس أصوله وأدلته ومنهج استدلاله؛ ضرورة استمرار نقل المذاهب الفقهية والحفاظ على بقاء الدرس الفقهي.
أما في الإفتاء: فالأمر فيه مبني على تحقيق المقاصد الشرعية والمصالح المرعية؛ ولذلك راعى العلماء المسائل الخلافية بين المذاهب من جهات متعددة؛ فأداروا الأقوال الخلافية بين الرخص والعزائم، وأجازوا العمل بقول من أباح تخلصًا من الإثم، ونصوا على مشروعية طلب الأيسر والفتوى به، وجعلوا من قواعدهم الإمساكَ عن الإنكار على المخالف وحرَّموا تفسيقه، ومنهم مَن كان يتَقَلُّدُ قول المخالف ويعمل به تأدبًا مع القائل به ولو لم يعاصره.
كما فعل الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما ترك قنوت الفجر لما صلى عند قبر الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، أو يختاره عملًا بالمصلحة؛ كما فعل الإمام الشافعي رضي الله عنه في مذهبه الجديد لما سافر إلى مصر، ونصوا كذلك على وجوب تصحيح تصرفات المكلفين وحملها على الصحة ما دام أن لها وجهًا صحيحًا في مذهب معتبر، ونصوا أيضًا على أن للمفتي أن يحيل المستفتيَ إلى مفتٍ غيره ما دام يرى أن مذهب المحال عليه أنفع له أو أيسر عليه.
كما أن هناك فارقًا بين تحرير المعتمد في منقول المذاهب وتحديد ما عليه العمل والفتوى التي تعتمد على تغير الأعراف والأحوال والزمان والمكان، وتستند إلى القواعد الفقهية التي تنظم التعامل مع الأقوال والمذاهب المختلفة؛ كقاعدة: "لا ينكَر المختلف فيه، وإنما ينكر المتفق عليه".
يقول الإمام القرافي المالكي في "شرح تنقيح الفصول" (ص: 432، ط. الطباعة الفنية المتحدة): [قال يحيى الزناتي: يجوز تقليد المذاهب في النوازل والانتقال من مذهب إلى مذهب، بثلاثة شروط: أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع؛ كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد. وأن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه، ولا يقلده رميًا في عماية. وأن لا يتتبع رخص المذاهب. قال: والمذاهب كلها مسالك إلى الجنة وطرق إلى الخيرات؛ فمن سلك منها طريقًا وصَّله] اهـ.
وقال الإمام العلائي الشافعي -كما في "التقرير والتحبير" (3/ 351، ط. دار الكتب العلمية)-: [والذي صرَّح به الفقهاء في مشهورِ كُتُبِهم: جوازُ الانتقال في آحاد المسائل والعمل فيها بخلاف مذهب إمامه الذي يقلد مذهبه، إذا لم يكن ذلك على وجه التتبع للرخص، وشبهوا ذلك بالأعمى الذي اشتبهت عليه أواني ماء وثياب تنجس بعضها؛ إذا قلنا: ليس له أن يجتهد فيها بل يقلد بصيرًا يجتهد فإنه يجوز أن يقلد في الأواني واحدًا وفي الثياب آخر، ولا منع من ذلك] اهـ.
وقد جعل الشرع الشريف إقامة الجمعة من ولايات السلطان، بحيث إنّ إذنَه معتَبَرٌ في إقامتها، وذلك من شأن ولي الأمر الذي لا تجوز منازعتُه فيه، وبذلك جَرَتِ السُّنّةُ وعليه انعقد الإجماع.
أحكام صلاة الجمعة
فروى عبد الرزاق في "المصنف" عن معمر، عن الزهري: أن مسلمة بن عبد الملك كتب إليه: "إني في قرية فيها أموالٌ كثير، وأهلٌ وناسٌ، أفأُجَمِّعُ بهم ولستُ بأمير؟"، فكتب إليه الزهري: "إن مصعب بن عُمَيْر رضي الله عنه استأذن رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يُجَمِّع بأهل المدينة، فأذن له، فجمَّع بهم وهم يومئذ قليلٌ؛ فإن رأيتَ أن تكتب إلى هشامٍ حتى يأذن لك فافعل".
وقال سيدنا علي كرم الله وجهه: "لا جماعةَ يومَ جمعةٍ إلّا مع الإمام" رواه ابن أبي شيبة في "المصنف".
وروى أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف"، وابن زنجويه في "الأموال" عن عبد الله بن مُحَيْرِيزٍ قال: "الحدودُ، والفيءُ، والجمعةُ، والزكاةُ: إلى السلطان".
وقال الإمام ابن المنذر في "الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف" (4/ 113، ط. دار طيبة): [مَضَتْ السُّنَّة بأنَّ الذي يقيم الجمعة السلطان، أو من قام بها بأمر السلطان] اهـ.
وما أفتت به هيئة إفتاء جمعية علماء سيريلانكا بإقامة الجمعة في أماكن متعددة، يقتضي أيضًا الإفتاء بصحة الجمعة بالعدد الذي ألزمت به حكومة بلادها، وكل ذلك صحيح شرعًا؛ تعددًا وعددًا.
أما التعدد: فهو جائز عند الحاجة؛ كما نص عليه فقهاء المذاهب الأربعة قاطبةً.
فعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر كيف يصنعون؟ قال: "لكل قوم مسجد يجمعون فيه، ثم يجزئ ذلك عنهم" أخرجه عبد الرزاق في "المصنف".
قال العلامة ابن نجيم الحنفي في "النهر الفائق" (1/ 254، ط. دار الكتب العلمية): [(وتؤدى) الجمعة (في مصر في مواضع) منه، رواه محمد عن الإمام، وهو الصحيح، وفي باب الإمامة من "فتح القدير": وعليه الفتوى؛ دفعًا للحرج اللازم من إلزام الاجتماع في موضع واحدٍ، خصوصًا إذا كان مصرًا كبيرًا] اهـ. وقال أيضًا في (1/370): [لو قدر بعد الفوات مع الإمام على إدراكها مع غيره: فعَلَه؛ للاتفاق على جواز تعددها] اهـ.
وقال العلامة النفراوي المالكي في "الفواكه الدواني" (1/ 260، ط. دار الفكر): [وإن تعدد: فالجمعة للعتيق، إلا أن يكون البلد كبيرًا؛ بحيث يعسر اجتماعهم في محل ولا طريق بجواره تمكن الصلاة فيها فيجوز حينئذ تعدده بحسب الحاجة، كما لو ارتضاه بعض شيوخ المذهب، ولعل الأظهر حاجة من يغلب حضوره لصلاتها ولو لم تلزمه كالصبيان والعبيد؛ لأن الكل مطلوب بالحضور ولو على جهة الندب، وينبغي أن يلحق بذلك وجود العداوة المانعة من اجتماع الجميع في محلٍ واحدٍ، بل لو قيل: إن هذا أولى لجواز التعدد لما بَعُدَ] اهـ.
قال العلامة الكشناوي المالكي في "أسهل المدارك" (1/ 333، ط. دار الفكر) مُعَلِّقًا عليه: [وفي بعض تقييدات هذا المحل لبعض الأفاضل أنه قال: "ورجح المتأخرون جواز تعدد الجمعة، وعليه العمل عندنا بالمغرب، وهو الصواب"، إلى آخر ما قال اهـ] اهـ.
وقال الإمام العبّادي الشافعي في "حاشيته على الغرر البهية" (2/ 50، ط. المطبعة الميمنية): [والظاهر أنَّ مِن الحاجة: ضيقَ محلٍّ واحدٍ عن الجميع، فلو تعددت المساجدُ، ولم يكن فيها ما يسع الجميع، فالظاهر: أنَّه لا كراهة من حيثُ التعددُ للحاجة] اهـ.
وقال العلامة الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهي" (1/ 779، ط. المكتب الإسلامي):[(إلا لحاجة كضيق) مسجد البلد عن أهله (و) كـ(بُعْد) بأن يكون البلد واسعًا وتتباعد أقطاره، فيشق على من منزله بعيد عن محلّ الجمعة المجيء إليه (وخوف فتنة) بأن يكون بين أهل البلد عداوة فتخشى إثارة الفتنة باجتماعهم في مسجدٍ واحدٍ، فتصح حينئذ السابقة واللاحقة؛ لأنها تفعل بالأمصار العظيمة في أماكن متعددة من غير نكير، فكان إجماعًا.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن الفتوى بتعدد صلاة الجمعة وصحة صلاتها بهذا العدد (25 شخصًا)، هي فتوى صحيحة؛ آخذة بما عليه جمهور الفقهاء، وعلى المسلمين في سريلانكا الأخذ بها، ولا يشترط حينئذ الالتزام في إقامة الجمعة بقول الشافعية بوجوب حضور أربعين رجلًا، ولا يلزم إعادتها ظهرًا، بل ولا يُفتَى بذلك في زمن البلاء؛ تقليلًا للاجتماع في الوباء، وحتى لا يتوهم الناس بطلانها، والقائلون بذلك إنما نظروا إلى الحالة المعتادة لا إلى فقه النوازل والجوائح والأوبئة، وفرق بين الحكم الفقهي المستقر المظهر لمعتمد المذهب من الأقوال، وبين الفتوى التي تتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، ولكل مقام مقال، والنازلة التي تمر بها بلدان العالم أنأى بالعقلاء عن الخلاف، وأدعى للائتلاف.
صلاة الجمعة شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، اختُصت عن غيرها من الجماعات بخصائص مُعينة، وقد اشترط الشارع في أدائها أن تكون جماعةً؛ بحيث لا تصح مِن المكلَّف وحدَه مُنفرِدًا؛ ولذلك جعل السعي إليها والاجتماع فيها من الواجبات المتعلقة بها؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۞ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 9-10].
وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ، إلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أًو امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ» رواه أبو داود في "السنن"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وكذا قال النووي في "خلاصة الأحكام"، وصححه البلقيني في "البدر المنير".
قال العلامة ابن رسلان الشافعي في "شرح أبي داود" (5/ 503، ط. دار الفلاح): [استُدِلَّ به على أن من شروط الجمعة أن تقام في جماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين بعده لم ينقل عنهم، ولا عن أحد في زمانهم، ولا بعدهم، أنه فعلها فرادى] اهـ.
فالعلماء مجمعون على أن من شرط الجمعة الجماعة، والجماعةُ تستوجب العدد؛ وذلك لأنهم لا يختلفون أنها لا تصح بواحدٍ، فيكون العدد شرطًا معتبرًا في الجمعة إجماعًا، غير أنهم اختلفوا في حدِّه الأدنى الذي تنعقد به؛ قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (4/ 504، ط. دار الفكر): [وقد نقلوا الإجماع أنَّه لابد من عددٍ، واختلفوا في قدره] اهـ.
ولذلك تعددت أقوال الفقهاء في ذلك بين مكثرٍ ومُقلٍّ، ويرجع سبب اختلافهم إلى تعدد أقوالهم في أقل ما يطلق عليه اسم الجمع: هل هو اثنان، أو ثلاثة، أو أربعة؟ أو ما يطلق عليه اسم الجمع في الأكثر والعرف المستعمل؛ ولذلك لم يحد أو يُعَد؟ وكذلك اختلافهم في الإمام: هل يدخل ضمن هذا العدد أم لا؟
قال الإمام ابن رشد الحفيد في "بداية المجتهد" (1/ 169، ط. دار الحديث):[وأما شروط الوجوب والصحة المختصة بيوم الجمعة: فاتفق الكل على أن من شرطها الجماعة، واختلفوا في مقدار الجماعة: فمنهم من قال: واحد مع الإمام وهو الطبري، ومنهم من قال: اثنان سوى الإمام، ومنهم من قال: ثلاثة دون الإمام، وهو قول أبي حنيفة، ومنهم من اشترط أربعين، وهو قول الشافعي وأحمد، وقال قومٌ: ثلاثين، ومنهم من لم يشترط عددًا، ولكن رأى أنه يجوز بما دون الأربعين ولا يجوز بالثلاثة والأربعة، وهو مذهب مالك، وحدهم: بأنهم الذين يمكن أن تتقرَّى بهم قرية.
صلاة الجمعة بأقل من أربعين في زمن الوباء
وسبب اختلافهم في هذا: اختلافهم في أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع: هل ذلك ثلاثة، أو أربعة، أو اثنان؟ وهل الإمام داخل فيهم أم ليس بداخل فيهم؟ وهل الجمع المشترط في هذه الصلاة هو أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع في غالب الأحوال، وذلك هو أكثر من الثلاثة والأربعة؟
فمن ذهب إلى أن الشرط في ذلك هو أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع وكان عنده أن أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع اثنان: فإن كان ممن يعدّ الإمام في الجمع المشترط في ذلك؛ قال: تقوم الجمعة باثنين؛ الإمام، وواحدٍ ثانٍ، وإن كان ممن لا يرى أن يعدّ الإمام في الجمع؛ قال: تقوم باثنين سوى الإمام.
ومن كان أيضًا عنده أن أقل الجمع ثلاثة: فإن كان لا يعدّ الإمام في جملتهم قال بثلاثة سوى الإمام، وإن كان ممن يعدّ الإمام في جملتهم: وافقَ قولَ من قال أقل الجمع اثنان ولم يعد الإمام في جملتهم.
وأما من راعى ما ينطلق عليه في الأكثر والعرف المستعمل اسم الجمع؛ قال: لا تنعقد بالاثنين ولا بالأربعة، ولم يحد في ذلك حدًّا] اهـ.
بل أوصل بعض العلماء الأقوال في عدد الجمعة إلى خمسة عشرَ قولًا؛ كما فعل الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري"، ونصوا على أن أكثر هذه الأقوال لا يلزم منه تحديد العدد؛ لأنَّها وقائع أحوال، ولذلك رجح جماعة من المحققين أن المعتبر في ذلك الجمع والكثرة بلا قيدٍ.
قال الإمام أبو الحسن بن القصَّار المالكي [ت397هـ] -فيما نقله ابن بطَّال المالكي في "شرح صحيح البخاري" (2/ 496، ط. مكتبة الرشد)-: [لسنا نعتبر عددًا حتى يصيروا به جماعة، ولكنا نقول: كل قوم لهم مسجد وسوق ينطلق عليهم اسم جماعة، فالجمعة واجبة عليهم؛ سواء كانوا خمسة أو أربعين؛ لأن المقادير والتحديدات في الشريعة لا تثبت إلا من طريق صحيح] اهـ.
وقال الإمام ابن الملقِّن الشافعي في "التوضيح" (7/ 451-456، ط. دار الفلاح): [أكثر هذه الأقوال دعوى بلا دليل، وإنما بعضها حالٌ وقع ولا يلزم منه التحديد] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/ 423، ط. دار المعرفة): [الخامس عشر: جمع كثير بغير قيدٍ، ولعلَّ هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل] اهـ.
فإذا تعذّر تقليد الشافعية في هذه المسألة: أُخِذَ بقول غيرهم من المذاهب أو أقوال المجتهدين؛ لأن الحالة التي تمر بها بلدان العالم هي حالة ضرورة، فيكون المناسب في التعامل معها هو فقه الضرورة وفتاوى النوازل، لا الجمود على مذهب بعينه، والقاعدة المستقرة: "أن من ابتُليَ بشيءٍ مما اختُلِفَ فيه فليقلد من أجاز".
واشتراط عدد الأربعين هو مذهب الشافعية والراجح عند الحنابلة، لكن إذا قرَّر وليّ الأمر -تبعًا لما اقتضته الضرورة- تقليص عدد المصلين عن أربعين: فإن هذا لا يقتضي ترك الجمعة، بل ولا إعادتها ظهرًا؛ بل يكون العمل فيه بما يناسب الحال على ما دون الأربعين؛ كما هو رأي جمهور الفقهاء؛ لأن الشريعة ليست حكرًا على مذهب، ولا هي مختصرة في قول أو رأي، بل هي أوسع من المذاهب والآراء؛ فلا تُنْسَخُ أحكامُها لعدم القدرة على تطبيق قول بعينه، وفي هذه المسألة ومثيلاتها يقول الإمام أحمد: "لا تحمل الناس على مذهبك"؛ نقله ابن مفلح في "الفروع" (3/ 152، ط. مؤسسة الرسالة).
فيروس كورونا
ومن "جزيل المواهب في اختلاف المذاهب"؛ كما يعبر الإمام السيوطي الشافعي في رسالته التي سماها بذلك، وإنما تنوعت المذاهب واختلفت الأقوال للسعة والتيسير، لا للتضييق والتعسير؛ ولذلك كان طلحة بن مُصَرِّف إذا ذُكر عنده الاختلاف يقول: "لا تقولوا: الاختلاف، ولكن قولوا: السعة" أخرجه أبو نعيم في "الحلية". وقال الإمام الزركشي الشافعي في "البحر المحيط" (8/ 119، ط. دار الكتبي): [اعلم أن الله تعالى لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة، بل جعلها ظنية؛ قصدًا للتوسيع على المكلفين، لئلَّا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل عليه] اهـ.
والناظر في نصوص الفقهاء يرى أن هناك فارقًا واضحًا بين الحكم الشرعي الثابت، وبين الفتوى التي تحكمها القواعد الشرعية الكلية ومصالح الخلق المرعية، والتي تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، وهذا يدعو إلى مزيد التأني، ويحتاج إلى الصنعة الإفتائية المقاصدية التي تحسن الانتقال من الحكم إلى الفتوى. فالفقيه: يستنبط أحكام الله تعالى من الأدلة التفصيلية، وتلك الأحكام تحقق مقاصد الشريعة الكلية.
أما المفتي: فهو يدرس الواقع ثم يلتفت إلى الفقه ليأخذ منه حكم الله تعالى في مثل هذه الواقعة بما يحقق مقاصد الشريعة.
كما أن الانتماء إلى المدارس الفقهية بمذاهبها المختلفة -في مجال الدرس والعملية التعليمية- لا يُسَوِّغُ لأتباعها مخالفة الحاكم فيما ألزم به من الآراء المختلف فيها؛ لأن للحاكم تقييد المباح، وإذا ألزم برأيٍ في مسألة تتعلق بالشأن العام فلا يسوغ الأخذ بخلاف ما اختاره؛ ضبطًا للنظام العام، وجمعًا لكلمة العامة، وقد نص الشافعية على أن قضاء القاضي بخلاف ما اشترطه عليه ولي الأمر في توليته؛ لفظًا أو عرفًا: لا يصحّ؛ لأن التولية حينئذ لا تشمله؛ كما في "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي الشافعي (ص: 104-105، ط. دار الكتب العلمية).
كما أن اتِّباع مذهبٍ بعينه لا يجوز أن يكون مبعثًا على التعصب في مجال الفتوى والعمل؛ فإن فقهاء المذاهب وأئمتها كانوا ربما تركوا مذاهبهم في مسائل معينة وعملوا –في أنفسهم وفي الإفتاء لغيرهم- بالأقوال التي كانوا يرون أنها أكثر تحقيقًا لمقصود الشريعة، وأكثر مراعاة لمصالح الناس.
وإنما فعلوا ذلك لأن هناك فارقًا بين التعلُّم والإفتاء؛ فإنه لا بد لطالب العلم أن يلتزم بمذهب فقهي معين يدرس أصوله وأدلته ومنهج استدلاله؛ ضرورة استمرار نقل المذاهب الفقهية والحفاظ على بقاء الدرس الفقهي.
أما في الإفتاء: فالأمر فيه مبني على تحقيق المقاصد الشرعية والمصالح المرعية؛ ولذلك راعى العلماء المسائل الخلافية بين المذاهب من جهات متعددة؛ فأداروا الأقوال الخلافية بين الرخص والعزائم، وأجازوا العمل بقول من أباح تخلصًا من الإثم، ونصوا على مشروعية طلب الأيسر والفتوى به، وجعلوا من قواعدهم الإمساكَ عن الإنكار على المخالف وحرَّموا تفسيقه، ومنهم مَن كان يتَقَلُّدُ قول المخالف ويعمل به تأدبًا مع القائل به ولو لم يعاصره.
كما فعل الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما ترك قنوت الفجر لما صلى عند قبر الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، أو يختاره عملًا بالمصلحة؛ كما فعل الإمام الشافعي رضي الله عنه في مذهبه الجديد لما سافر إلى مصر، ونصوا كذلك على وجوب تصحيح تصرفات المكلفين وحملها على الصحة ما دام أن لها وجهًا صحيحًا في مذهب معتبر، ونصوا أيضًا على أن للمفتي أن يحيل المستفتيَ إلى مفتٍ غيره ما دام يرى أن مذهب المحال عليه أنفع له أو أيسر عليه.
كما أن هناك فارقًا بين تحرير المعتمد في منقول المذاهب وتحديد ما عليه العمل والفتوى التي تعتمد على تغير الأعراف والأحوال والزمان والمكان، وتستند إلى القواعد الفقهية التي تنظم التعامل مع الأقوال والمذاهب المختلفة؛ كقاعدة: "لا ينكَر المختلف فيه، وإنما ينكر المتفق عليه".
يقول الإمام القرافي المالكي في "شرح تنقيح الفصول" (ص: 432، ط. الطباعة الفنية المتحدة): [قال يحيى الزناتي: يجوز تقليد المذاهب في النوازل والانتقال من مذهب إلى مذهب، بثلاثة شروط: أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع؛ كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد. وأن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه، ولا يقلده رميًا في عماية. وأن لا يتتبع رخص المذاهب. قال: والمذاهب كلها مسالك إلى الجنة وطرق إلى الخيرات؛ فمن سلك منها طريقًا وصَّله] اهـ.
وقال الإمام العلائي الشافعي -كما في "التقرير والتحبير" (3/ 351، ط. دار الكتب العلمية)-: [والذي صرَّح به الفقهاء في مشهورِ كُتُبِهم: جوازُ الانتقال في آحاد المسائل والعمل فيها بخلاف مذهب إمامه الذي يقلد مذهبه، إذا لم يكن ذلك على وجه التتبع للرخص، وشبهوا ذلك بالأعمى الذي اشتبهت عليه أواني ماء وثياب تنجس بعضها؛ إذا قلنا: ليس له أن يجتهد فيها بل يقلد بصيرًا يجتهد فإنه يجوز أن يقلد في الأواني واحدًا وفي الثياب آخر، ولا منع من ذلك] اهـ.
وقد جعل الشرع الشريف إقامة الجمعة من ولايات السلطان، بحيث إنّ إذنَه معتَبَرٌ في إقامتها، وذلك من شأن ولي الأمر الذي لا تجوز منازعتُه فيه، وبذلك جَرَتِ السُّنّةُ وعليه انعقد الإجماع.
أحكام صلاة الجمعة
فروى عبد الرزاق في "المصنف" عن معمر، عن الزهري: أن مسلمة بن عبد الملك كتب إليه: "إني في قرية فيها أموالٌ كثير، وأهلٌ وناسٌ، أفأُجَمِّعُ بهم ولستُ بأمير؟"، فكتب إليه الزهري: "إن مصعب بن عُمَيْر رضي الله عنه استأذن رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يُجَمِّع بأهل المدينة، فأذن له، فجمَّع بهم وهم يومئذ قليلٌ؛ فإن رأيتَ أن تكتب إلى هشامٍ حتى يأذن لك فافعل".
وقال سيدنا علي كرم الله وجهه: "لا جماعةَ يومَ جمعةٍ إلّا مع الإمام" رواه ابن أبي شيبة في "المصنف".
وروى أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف"، وابن زنجويه في "الأموال" عن عبد الله بن مُحَيْرِيزٍ قال: "الحدودُ، والفيءُ، والجمعةُ، والزكاةُ: إلى السلطان".
وقال الإمام ابن المنذر في "الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف" (4/ 113، ط. دار طيبة): [مَضَتْ السُّنَّة بأنَّ الذي يقيم الجمعة السلطان، أو من قام بها بأمر السلطان] اهـ.
وما أفتت به هيئة إفتاء جمعية علماء سيريلانكا بإقامة الجمعة في أماكن متعددة، يقتضي أيضًا الإفتاء بصحة الجمعة بالعدد الذي ألزمت به حكومة بلادها، وكل ذلك صحيح شرعًا؛ تعددًا وعددًا.
أما التعدد: فهو جائز عند الحاجة؛ كما نص عليه فقهاء المذاهب الأربعة قاطبةً.
فعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر كيف يصنعون؟ قال: "لكل قوم مسجد يجمعون فيه، ثم يجزئ ذلك عنهم" أخرجه عبد الرزاق في "المصنف".
قال العلامة ابن نجيم الحنفي في "النهر الفائق" (1/ 254، ط. دار الكتب العلمية): [(وتؤدى) الجمعة (في مصر في مواضع) منه، رواه محمد عن الإمام، وهو الصحيح، وفي باب الإمامة من "فتح القدير": وعليه الفتوى؛ دفعًا للحرج اللازم من إلزام الاجتماع في موضع واحدٍ، خصوصًا إذا كان مصرًا كبيرًا] اهـ. وقال أيضًا في (1/370): [لو قدر بعد الفوات مع الإمام على إدراكها مع غيره: فعَلَه؛ للاتفاق على جواز تعددها] اهـ.
وقال العلامة النفراوي المالكي في "الفواكه الدواني" (1/ 260، ط. دار الفكر): [وإن تعدد: فالجمعة للعتيق، إلا أن يكون البلد كبيرًا؛ بحيث يعسر اجتماعهم في محل ولا طريق بجواره تمكن الصلاة فيها فيجوز حينئذ تعدده بحسب الحاجة، كما لو ارتضاه بعض شيوخ المذهب، ولعل الأظهر حاجة من يغلب حضوره لصلاتها ولو لم تلزمه كالصبيان والعبيد؛ لأن الكل مطلوب بالحضور ولو على جهة الندب، وينبغي أن يلحق بذلك وجود العداوة المانعة من اجتماع الجميع في محلٍ واحدٍ، بل لو قيل: إن هذا أولى لجواز التعدد لما بَعُدَ] اهـ.
قال العلامة الكشناوي المالكي في "أسهل المدارك" (1/ 333، ط. دار الفكر) مُعَلِّقًا عليه: [وفي بعض تقييدات هذا المحل لبعض الأفاضل أنه قال: "ورجح المتأخرون جواز تعدد الجمعة، وعليه العمل عندنا بالمغرب، وهو الصواب"، إلى آخر ما قال اهـ] اهـ.
وقال الإمام العبّادي الشافعي في "حاشيته على الغرر البهية" (2/ 50، ط. المطبعة الميمنية): [والظاهر أنَّ مِن الحاجة: ضيقَ محلٍّ واحدٍ عن الجميع، فلو تعددت المساجدُ، ولم يكن فيها ما يسع الجميع، فالظاهر: أنَّه لا كراهة من حيثُ التعددُ للحاجة] اهـ.
وقال العلامة الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهي" (1/ 779، ط. المكتب الإسلامي):[(إلا لحاجة كضيق) مسجد البلد عن أهله (و) كـ(بُعْد) بأن يكون البلد واسعًا وتتباعد أقطاره، فيشق على من منزله بعيد عن محلّ الجمعة المجيء إليه (وخوف فتنة) بأن يكون بين أهل البلد عداوة فتخشى إثارة الفتنة باجتماعهم في مسجدٍ واحدٍ، فتصح حينئذ السابقة واللاحقة؛ لأنها تفعل بالأمصار العظيمة في أماكن متعددة من غير نكير، فكان إجماعًا.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن الفتوى بتعدد صلاة الجمعة وصحة صلاتها بهذا العدد (25 شخصًا)، هي فتوى صحيحة؛ آخذة بما عليه جمهور الفقهاء، وعلى المسلمين في سريلانكا الأخذ بها، ولا يشترط حينئذ الالتزام في إقامة الجمعة بقول الشافعية بوجوب حضور أربعين رجلًا، ولا يلزم إعادتها ظهرًا، بل ولا يُفتَى بذلك في زمن البلاء؛ تقليلًا للاجتماع في الوباء، وحتى لا يتوهم الناس بطلانها، والقائلون بذلك إنما نظروا إلى الحالة المعتادة لا إلى فقه النوازل والجوائح والأوبئة، وفرق بين الحكم الفقهي المستقر المظهر لمعتمد المذهب من الأقوال، وبين الفتوى التي تتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، ولكل مقام مقال، والنازلة التي تمر بها بلدان العالم أنأى بالعقلاء عن الخلاف، وأدعى للائتلاف.